بعد ترويجٍ ضخم على وسائل الإعلام التركية، عُرضت الحلقة الأولى من مسلسل “السلطان محمد الفاتح” على قناة” TRT” التركية. يعتبر هذا العمل إنتاجاً تاريخياً بارزاً في تركيا، حيث يسلّط الضوء على فترة حكم السلطان العثماني الأشهر التي استمرت لثلاثين عاماً، والتي اشتهر فيها بحزمه وعزمه.

لاقى المسلسل ترويجاً ممنهجاً وضخماً قبل عرضه، على القنوات الرسمية والمقرّبة من حزب “العدالة والتنمية” الحاكم، وكان موجّهاً بشكلٍ واضح للجغرافية العربية، من خلال التركيز على مشاركة الفنان العربي والعالمي غسان مسعود، الذي يجسد شخصية الصحابي “أبو أيوب الأنصاري” في العمل. مسعود، الذي يحظى بشعبية واسعة في العالم العربي، وصلت شهرته إلى أبعد مناطق العالم عبر أدواره البارزة في السينما العالمية مثل “مملكة السماء” و”قراصنة الكاريبي”، إلى جانب عدة أدوار فنية عالمية أخرى.

تسعى تركيا جاهدة لجعل الدراما التاريخية قوتها “الناعمة” الجديدة، ويعكس هذا الاهتمام الكبير الدعم الحكومي الذي يحظى به المسلسلات التي تتناول حياة السلاطين العثمانيين، والربط القوي بين ماضيها الإمبراطوري وحاضرها. منها على سبيل المثال مسلسل “أرطغرل” ومسلسل “المؤسس عثمان” و مسلسل “عاصمة عبد الحميد”.  وهذا ما أكدته  دراسة أكاديمية أجراها باحثون من جامعة “بانديون للعلوم السياسية والإدارية” في أثينا، ونشرتها وكالة “الأناضول” التركية الرسمية، أن المسلسلات التركية التي انتشرت مؤخراً بشكل كبير في الشرق الأوسط، هي “جزء من القوة الناعمة” التي تستعملها تركيا لتحسين صورتها بين شعوب المنطقة.

تُحيي الحاضر باستخدام الماضي 

بنظرة سريعة على الأعمال الدرامية التاريخية التي صدرت خلال السنوات الأخيرة، تزامناً مع الأحداث السياسية المعقّدة، نلاحظ أن تركيا باتت تتجه إلى منحىً جديد في التعامل مع الدراما بشكل عام. وأدركت مؤخرًا أهمية “الفيديولوجيا”، أو أدلجة الفن، حيث قامت بتخصيص ميزانيات ضخمة لإنتاج أعمال تاريخية تركز على الماضي العثماني، وتستخدم العاطفة والتعلّق الشعبي في تصوير هذه الفترة. 

يشترك الجمهور التركي والعربي على حدّ سواء في تقدير الحقبة العثمانية باعتبارها خلافة إسلامية تربط المسلمين بها بروابط قوية. وهذا ماعملت عليه تركيا من خلال تصدير صورتها وتعزيزها في عقول المشاهدين “العرب” و “المسلمين” وربطها بأسماء القادة الإسلاميين العظماء، وتصوير البطل التركي الذي يجسّد دوراً مهمّاً في إعادة لم شمل المسلمين وإحقاق الحق.

من خلال أدلجة الفن، يمكن القول إن تركيا عملت على إعادة تعريف شامل لذاتها وهويتها من خلال سعيها لتصدير تعريف جديد معاكس للتعريف الأتاتوركي القديم، الذي رُسم بعد استقلال أكتوبر/تشرين الأول 1923. 

وفي رأي المؤرخ السوري تيسير خلف، فإن “تعريف الهوية التركية بعد الاستقلال كان يتألف من رؤية تركية باعتبارها جزءاً من أوروبا في شرق متخلّف، وهو الأمر الذي أثار مشكلات كبيرة بين الأتراك”. وأضاف المؤرخ تيسير خلف في حديث خاص لموقع “الحل نت”،  أن “التعريف الأتاتوركي للهوية التركية خلق أزمة اجتماعية وسياسية، وعزّز العنصرية في بعض الفئات المتطرفة في علمانيتها”. وبناءً على هذا، يرى المؤرخ خلف أن محاولات العودة للتاريخ العثماني تمثّل محاولة لإعادة تعريف الأتراك بهويتهم من أجل التصالح مع التاريخ والجوار والمحيط.

رسائل سياسية متقنة

هذه الأعمال، على الرغم من صيغتها التاريخية والدرامية، لم تعد مقتصرة على سرد الأحداث التاريخية فقط، بل أصبحت تحمل رسائل سياسية مخفية تربط بين الماضي والحاضر. تعمل هذه الأعمال الفنية على تعزيز الحضور التركي كرمز “إسلامي سياسي” في الساحة العالمية، وتعكس الجهود التي تبذلها تركيا لإعادة تقريبها من العالم العربي. على سبيل المثال، مسلسل “محمد: سلطان الفتوحات” يُعتبر مثالاً بارزاً على هذه الرسائل، حيث تم الترويج له بشكل كبير في المجتمعات العربية باستخدام شخصية الممثل غسان مسعود، كوسيلة جديدة لجذب الاهتمام.

تأتي هذه الجهود في ظل التوترات السياسية بين تركيا والعالم العربي، والتي ترافقت مع هجماتٍ عنصرية وانقطاع العلاقات الدبلوماسية بينها وبين عدة دول عربية خليجية أبرزها المملكة العربية السعودية وجمهورية مصر بعد “ثورة يوليو” التي قام بها عبد الفتاح السيسي. تأتي هذه الرسائل في وقت تسعى فيه تركيا لإعادة بناء العلاقات مع العالم العربي، كما أظهرت زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مؤخراً لمصر بعد قطيعة دامت لأكثر من عشر سنوات، والتي شملت توقيع تفاهمات سياسية ومشاريع اقتصادية تقدّر بمليارات الدولارات.

وفي هذا السياق، يربط الكاتب السوري إبراهيم كوكي، بين هذه الجوانب في حديثٍ لموقع “الحل نت”، حيث يشير إلى أن التسييس المفرط للدراما التركية قد تسبب في تصاعد الجدل السياسي في بعض الدول العربية. ومع تحسن العلاقات السياسية مؤخراً، تسعى الدراما التركية الآن لاستعادة الجمهور العربي من خلال التعاون مع ممثّلينَ عرب، وهذه الخطوة تعكس رغبةً في تعزيز التفاهم وتقديم رسائل مبطّنة للجمهور العربي المستهدف.

عموماً، تركّز هذه الأعمال التاريخية بشكل أساسي على المفاصل السياسية من التاريخ، مما يختلف عن الدراما الاجتماعية التي تركّز على الجوانب الاجتماعية والثقافية. ويُشير الكاتب كوكي، إلى الاختلاف في النهج بين الدراما التاريخية العربية والتركية، حيث تعتمد الأولى على الوقائع الحقيقية بينما تستنبط الثانية حقبة تاريخية وتنسج حولها دراما متخيلة. وهنا ندخل في عمق الفكر الدرامي لمثل هذه الأعمال التي من شأنها أن تضيف الحُبكة الدرامية لشدّ المتابع إلى أحداث معينة.

ويرى الكاتب كوكي، أن “فبربروس” و”عروس” قباطنة البحر المشهورينَ في تركيا، هم شخصيات حقيقية، وما ورد في كتب التاريخ عنهم قد لا يستغرق عدة حلقات فقط، ولكن صناعة دراما طويلة جداً فهذا يعني أن الدراما مصنوعة بالكامل ومتخيلة، وهذا ليس بعيب، ولكنها طريقة تختلف عن طريقة الدراما العربية التاريخية. ومهما كانت الجهة المنتجة والداعمة للعمل التاريخي سواء كانت حكومية أو معارضة، فكلا الطرفين يعملان على ربط أحداث المسلسل وعكسها على الواقع المعاصر وزج رسائل مبطّنة وإرسالها للجمهور عبر أحداث العمل.

مصر وتركيا

أخطاء تاريخية “مقصودة”

بعد مشاهدة أولى حلقات مسلسل “محمد سلطان الفتوحات”، انتابت حفيظة المتابعين بسبب الأخطاء التاريخية التي ظهرت في العمل الدرامي التركي “المسيّس”. هذه الأخطاء أعادت الحديث إلى الساحة العربية والتركية حول طبيعة النقل التاريخي في الدراما التركية وكيفية استخدامها “سياسياً” .

تباينت الآراء بين المتفقينَ مع حقيقة التاريخ التركي المنقول، وبين المشكّكينَ في نقلٍ ممنهجٍ ومسيّسٍ للتاريخ. وقد أثارت هذه الأخطاء جدلاً واسعاً على منصات وسائل التواصل الاجتماعي. 

وهذه الآراء نتجت بعد مغالطات تاريخية كثيرة فنّدها مؤرخون وباحثون عن أعمال تاريخية سابقة أنتجتها ودعمتها السلطات في تركيا مثل مسلسل “قيامة أرطغرل” الذي سجّل رقماً قياسياً في المشاهدات التي تجاوزت 3 مليارات متابعة و دُبلج إلى 25 لغة أبرزها العربية والإنجليزية والأوردو، بحسب وكالة “الأناضول” الرسمية. 

وفي هذا السياق، قام المؤرخ العربي تامر الزغاري، بتقييم المسلسل بناءً على مراجع تاريخية، مكتشفاً مدى الأخطاء التي انتشرت في صورة أرطغرل وتصويره كحاكم لشمال غرب الأناضول. وبحسب تقديرات المؤرخ الزغاري، لم يكن هناك شخصية تاريخية تسمى “أرطغرل” كما هو مصوّر في المسلسل التركي (قيامة ارطغرل) ، وهذه تُعتبر معلومة تاريخية خاطئة. وبالإضافة إلى ذلك، يظهر المسلسل أرطغرل أنّه كان ابناً لسليمان شاه، زعيم قبائل “قايي” التركية، وهذا أيضاً خطأ تاريخي. حيث لم يتم ذكر أرطغرل في كتب الذهبي وابن كثير وابن بطوطة وابن الجوزي والمقريزي، وهؤلاء منهم من أدركوا أرطغرل ومنهم من وُلد بعد حوالي 20 عاماً أو 100 عاماً من وفاته. كذلك، لم يتم ذكره في المصادر البيزنطية سواء في الأرشيف أو في كتب المؤرخ البيزنطي جرجس باشيميريس، الذي كان في زمن أرطغرل بحسب تواريخ المسلسل. والحقيقة هي أن أرطغرل كان إنساناً عادياً لم يكن حاكماً، وأصبح ابنه عثمان محافظاً على الحدود السلجوقية، ولكن بعد قرون أضاف العثمانيون الأساطير إليه لأغراض مختلفة.

و نبه الزغاري إلى أخطاء أخرى عمد كتّاب المسلسل إلى زجها داخل هذا العمل، وهي تعمد تصوير الأمراء الأيوبيين بشكل سلبي، بينما صوّر السلاجقة بشكل إيجابي، مما يشوه صورة الأيوبيين ويظهر السلاجقة بشكل مبالغ فيه. ولا يتوقف الأمر هنا، بل يصل إلى سرقة المسلسل لإنجازات المماليك، وتصوير أرطغرل بأنه صانع التحالف بين المماليك والقبيلة الذهبية، مما لم يرد في أي مصدر تاريخي. وأضاف المؤرخ الزغاري، أن المسلسل يُعتبر تشويهاً للتاريخ، حيث يختلق مؤامرات وأحداث وهمية، مثل إعداد فرسان الهيكل لحملة صليبية جديدة، مما يضيف للتشويه التاريخي الذي يعتبره مختلقاً وغير دقيق.

استخدام مختلف للدراما بين السلطة والمعارضة

 يتّهم اليوم العديد من الأتراك هذه الأعمال بدس السّم في العسل، وخاصة تلك التي تنتجها شركات تابعة للأحزاب المعارضة، وعلى ما يبدو كان المثال الأبرز بآرائهم استذكارها مسلسل سليمان القانوني “حريم السلطان” الذي عُرض منذ سنوات على قناة تركية تابعة للمعارضة (D)  والذي دُبلج لعدّة لغات لاحقاً، وبحسب ما قالته الصحفية التركية عائشة أوزغور لموقع “الحل نت”، إن “القضية سياسية وإسلامية، لذا يجب الانتباه أين يُعرض المسلسل، ومن إنتاج مَن، فالتوجه السياسي الكامن خلف الإنتاج يلعب دوراً مهمّاً في مدى صحة ما يتم عرضه، ولا شك أن كل جهة تعمل على نشر رسائلها الخاصة سواء سياسياً أو فكرياً”.

على النقيض من ذلك يرى البعض أن هذه الأعمال استنهاض للتاريخ العثماني، من أجل الاستفادة من تجاربهم، فلا شك أن معظم الأعمال التاريخية تحمل رسائل عديدة إيجابية عن التاريخ العثماني المليء بالصراعات والحروب، وبلقاءٍ لموقع “الحل نت” مع الناقد التركي أديب بوزكروت، يقول إن “الأعمال التاريخية التركية تنجح في إيصال رسائل إيجابية عن أجدادنا؛ لكن يجب على المشاهد أن يكون دقيقاً وحريصاً، لا أن يتابع هذه الأعمال من أجل التسلية”.

وعلى ما يبدو أن تركيا تسعى لإنجاح تصدير أعمالها الدرامية الممزوجة بماضيها التاريخي وقصص سلاطينها، وتتوجّه بكل ثقلها لربط اسمها الحاضر مع عظمة الحقبة التاريخية الماضية، فتسعى بخطة واضحة إلى جعل هذه الأعمال محط نظر الجميع محلياّ وعربياً. في هذا السياق، أشارت الإحصاءات إلى احتلال المسلسل الجديد المرتبة الثالثة من حيث الأكثر مشاهدة بعد ساعات قليلة من عرض الحلقة الأولى منه، وإذا تفحّصت محرك البحث في “غوغل” تجد أن اسم المسلسل ونجومه يحتلون المرتبة الأولى في الأكثر رواجاً على الصعيد التركي والعربي في آن واحد. 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
1 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات