في ما يبدو أنه خطوة تكتيكية منتظمة على هامش الأحداث في غزة، وتصاعد منسوب العمليات عبر جبهة “حزب الله” وإسرائيل، وكذا مسرح أحداث البحر الأحمر من خلال هجمات “الحوثيين” وتسخين الممر المائي، وبالأحرى ساحات طهران المتصلة ببعضها، جاء بيان ميليشيا “النجباء” العراقية ليعكس رؤية طهران في توظيف تنظيماتها المسلحة في الشرق الأوسط، وتحديد جهة من يظهر ويتفاعل ميدانياً ومن يمرّ نحو الكمون ومن يفاوض على العلن ومن تحت الطاولة.

يبدو ذلك متّسقاً أيضاً مع تلك التقارير التي تشير إلى حديث بعض قيادات “حزب الله” نحو وقف إطلاق النار مع إسرائيل، وذلك في حال وافقت حركة “حماس” على اقتراح الهدنة وتوقّف التصعيد على لبنان، بحسب حديث مصدر مقرّب لـ”حزب الله” لوكالة “رويترز”.

إلى ذلك قال أكرم الكعبي زعيم “النجباء”، نهاية شهر شباط/فبراير الماضي، إن “الهدوء الحالي” هو ضمن تكتيك لإعادة التموضع والانتشار. وذلك في أول تعليق له على إيقاف الجماعات العراقية المسلحة هجماتها على القواعد الأميركية في العراق منذ 20 يوماً، مشكّكاً بجدوى المفاوضات التي تجريها حكومة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، مع الإدارة الأميركية والساعية لإنهاء الدور العسكري الأميركي في البلاد.

شهر كامل أو أقل قليلاً، لم تنفّذ الفصائل المسلحة في العراق المنضوية تحت مظلة ما يعرف بـ”المقاومة الإسلامية” أي تحرك ميداني صوب الأهداف الأميركية في العراق، رغم تصاعد درجة التوتر في غزة وجنوب لبنان والبحر الأحمر، فهل نحن أمام “تكتيك مؤقت” أم خوف أكرم الكعبي وأشباهه من مصير الجنرال الإيراني، قاسم سليماني؟

عمليات استعراضية

قال الكعبي في بيان للحركة يوم الأحد الخامس والعشرين من شباط/فبراير الماضي، تعليقاً على وقف عمليات الجماعة العسكرية المدرجة على لائحة العقوبات الأميركية، إن “الهدوء الحالي ما هو إلا تكتيك مؤقت لإعادة التموضع والانتشار”. وأضاف أن “بعض الخونة والعملاء الذين باعوا وطنهم ودينهم وضميرهم للمحتل قد أعطوه معلومات عن المقاومة ومواقعها لذلك صار واجباً إعادة التموضع وحماية إخوتنا وتغيير أسلوب وتكتيكات المعركة واستكمال الجهوزية والمفاجآت قادمة”.

الحرس الثوري وحزب الله العراقي خفايا وألغاز بيانات الانسحاب (1)
رجال من جماعة “كتائب حزب الله” المدعومة من إيران يلوحون بأعلام الحزب أثناء سيرهم في شارع مطلي بألوان العلم الإسرائيلي خلال موكب بمناسبة يوم القدس السنوي، أو يوم القدس – إنترنت

يلفت الكعبي، في فقرة من البيان سبب توقّف العمليات خلال تلك المُدّة الزمنية ويرجعه بقوله: إن “كل من لديه خبرة أو ثقافة عسكرية يفهم ما نقول وما نفعل وكذلك أنّنا نحرص على حماية وإبعاد الحشد الشعبي عن الاستهدافات الأميركية التي تدل على غباء وتخبط القوات الأميركية”. 

وأضاف زعيم ميليشيا “النجباء”، أن “المقاومة الإسلامية وإن كانت لم ترفض مفاوضات الحكومة لإعلان جدولة الانسحاب الأميركي، ولا نكترث للهجمات الإعلامية”.

في هذا السياق، يذهب الدبلوماسي العراقي قيس النوري، بقوله إن الكمون الظرفي للفصائل الطائفية الشيعية يأتي بعد تهديد أميركي مباشر لإيران بقدرتها على ضرب أهداف محددة في العمق الإيراني خاصة بعد مقتل الجنود الأميركيين.

يتابع السفير العراقي في إطار تصريحاته لـ”الحل نت”، بأن ارتباط تلك الفصائل المسلحة سواء في العراق ولبنان وكذلك في سوريا واليمن بالتوجهات الإيرانية إزاء منطقة الشرق الأوسط، قد تجاوز مسألة الارتباط والدعم المالي واللوجيستي نحو الحدّ الذي يرسم ملامح سياسة خارجية لطهران من خلال تلك الأذرع خاصة مع كل التغيرات التي تحيط بمشهد السياسة الإقليمية والدولية.

يضيف السفير قيس النوري، أن ذلك كله يعني في تقديره الخاص، أن أنشطة تلك الفصائل المسلحة على خارطة الجغرافيا الساخنة عبر الشرق الأوسط، ومن خلال دول هشّة وعالقة تعبّر بشكل واضح عن كون كافة الأنشطة الخاصة بتلك الميليشيات والفصائل لا تتحرك لاعتبارات ودوافع وطنية؛ بل هي في حقيقتها أذرع إيرانية خالصة توظفها طهران في إطار تحركاتها التكتيكية لأغراض مشاغلة الولايات المتحدة الأميركية في عدد من الساحات العربية. 

هذا أسلوب أتاح للنظام الإيراني تشغيل المكونات الشيعية لصالحه دون انغماسه بالفعل بشكل مباشر، مما يعني الإبقاء على التوتر في المنطقة، وإبعاد حدوده المباشرة وأراضيه عن أي تماس ساخن بينها وبين الوجود العسكري الأميركي. 

وربما واشنطن تدرك جيداً أن كل تحركات طهران تهدف بشكل مباشر نحو إخراج الولايات المتحدة من الشرق الأوسط بشكل عام ومن العراق وسوريا، خاصة الأمر الذي يضع السيناريو الأميركي القادم أمام سؤال مركب يتمثل إلى أي مدى تتقبل الإدارة الأميركية الفعل الإيراني غير المباشر، والذي يبقي المنطقة في حالة التوتر والسيولة السياسية والميدانية؟

رسائل طهران إلى واشنطن

ارتباطا بما سبق، يشير الباحث في الدراسات الأمنية والسياسية، منتظر القيسي، إلى أن توقف هجمات المليشيات الشيعية الموالية لإيران، على القوات الأميركية في العراق وسوريا، يمثل مجرد استئناف للهدنة.

تعرضت القواعد الأميركية في العراق وسوريا للقصف 100 مرة منذ 17 أكتوبر/تشرين الأول، وهو اليوم الذي أدى فيه انفجار في مستشفى في غزة إلى مقتل المئات. (تصوير علي عبد الحسن / ا ب)

ويلفت الباحث العراقي في حديثه لـ”الحل نت”، إلى أن تلك الهدنة جاءت في إطار المقايضة التي عقدها وكلاء إيران في مقابل نيل اعتراف أو بالأحرى عدم معارضة عودتهم إلى سدّة الحكم وانفرادهم بالسلطة بعد اعتزال مقتدى الصدر، وغض النظر عن سياسات إعادة تشكيل النظام وتطهير مؤسساته العسكرية والأمنية والاستخباراتية، التي اتبعوها منذ وصول رئيس الوزراء محمد شياع السوداني لرئاسة الحكومة. 

فهجوم “حماس” في السابع من تشرين الأول/أكتوبر من العام الفائت، وفقا للقيسي أجبر المليشيات، التي عانت من ضغط معنوي هائل خلال العام ونيف الماضية جراء تخليها عن شعار إخراج القوات الأميركية بدون شروط، على استئناف عملياتها الاستعراضية التي صممت بعناية لضمان عدم إيقاع إصابات قاتلة بين صفوف الجنود الأميركيين، من خلال استخدام صواريخ ومسيرات برؤوس متفجرة صغيرة من جهة. 

وحفظ ماء وجه “فصائل المقاومة الإسلامية” من جهة أخرى، وترميم صورتها التي تضررت بشدة بسبب التناقض الفاضح التي وقعت فيه من خلال رفض نزع أسلحتها باعتبارها جزء من “محور المقاومة”، وركونها إلى الحلول السياسية بوصفها القوى الفعلية التي جاءت بحكومة “السوداني”، بحسب المصدر ذاته.

في خلفية هذا المشهد، وجدت بعض “الفصائل” – حركة النجباء وكتائب حزب الله وكتائب سيد الشهداء وجند الله الأوفياء – الممتعضة من عدم حصولها على حصة “عادلة” من المناصب العليا، في الحرب على غزة فرصة لاستعراض عضلاتها. 

بل وإحراج المليشيات الأكثر استفادة من تشكيل الحكومة، لاسيما “عصائب أهل الحق” و”منظمة بدر “، من خلال المزايدة عليها في الموقف من وجود القوات الأميركية في العراق. وهو ما كان يتسق مع التكتيكات الإيرانية التقليدية في توزيع الأدوار بين وكلائها والتحكم باللعبة من خلف الستار بما يصعب على خصومها توجيه اللوم إليها عن تصرفاتهم.

لكن هذا لا يعني في تقدير الباحث في الدراسات السياسية والأمنية، منتظر القيسي، بأن هجوم قاعدة “البرج 22” في الأردن، كان مجرد خطأ في التقدير من قبل كتائب “حزب الله” العراقي، بل على العكس كان اختباراً إيرانياً مدروسا للمدى الذي يمكن أن تذهب إليه إدارة الرئيس جو بايدن في الرد على خرق “خط الدم الأميركي”.

اختبار يبدو بأن نتائجه الأولية أقنعت إيران بأن ثمن العناد هذه المرة سيكون أكبر من مكاسبه، لا سيما في العراق الذي يعتبر حاليا “درة محور المقاومة”، بفعل دوره الرئيسي في تأمين التمويل اللازم لكل حلفاء إيران في المنطقة من بيروت وحتى صنعاء، فضلاً عن كونه أهم متنفس للاقتصاد الإيراني المختنق بطوق العقوبات الاقتصادية الأميركية. 

الأمر الذي جعل التراجع خطوة إلى الوراء، أمراً لا مفرّ منه بالنسبة لإيران ووكلائها العراقيين، بالرغم من التباينات في المواقف التي يجري التعبير عنها وفق ذات الأساليب الإيرانية المعتادة للتنصل من المسؤولية وارباك حسابات الخصوم.

“حبل سرّي”

إعلان المتحدث باسم “الحوثيين”، محمد عبدالسلام، بأنهم لن يعيدوا النظر في هجماتهم بالصواريخ والطائرات المسيّرة على الملاحة الدولية في البحر الأحمر إلا بعد أن تنهي إسرائيل ” عملياتها “في قطاع غزة، يفسّره عضو مشاورات الرياض، الدكتور ثابت الأحمدي، بأن إيران تعمل من خلال سياستها الخارجية عبر خطَّين متوازيين.

عناصر شيعة من القوات الموالية للحكومة العراقية يقودون سيارة على طريق بالقرب من بلدة جرف الصخر، الواقعة بين بغداد ومدينة كربلاء المقدسة، في 30 أكتوبر 2014، بعد استعادة المنطقة من مقاتلي تنظيم “داعش”. (تصوير حيدر حمداني / وكالة الصحافة الفرنسية)

ويتابع الأحمدي في سياق تصريحاته لـ”الحل نت”، أن الخط الأول في السياسة الإيرانية يتمثّل عبر القنوات الرسمية التابعة للدولة، بينما يأتي الخط الثاني عبر وكلائها وجيوبها التي زرعتها في المنطقة مثل “حزب الله” في لبنان، والميليشيات في سوريا، و”الحشد الشعبي” وبقية الجماعات والفرق في العراق، و”الحوثيين” في اليمن. هذه جميعها أذرع إيرانية، تسعى لتقويض أمن المنطقة العربية قاطبة، مستغلّة هشاشة أو ضعف بعض الدول.

يلفت ثابت الأحمدي، إلى أن المليشيات الشيعية متوحدة عقائديا وسياسيا، سواء في اليمن أم العراق أم لبنان أم سوريا، وكل هذه المليشيات مرتبطة بـ”حبل سري” مع طهران، ولا يهمها مصالح بلدانها، بقدر ما يهمها تنفيذ أوامر وتوصيات الملالي الإيرانية.

في المقابل تنظر الولايات المتحدة الأميركية بقلق بالغ لدرجة التوتر المتصاعدة في الشرق الأوسط خاصة في البحر الأحمر، وكذا منسوب الصراع بين “حزب الله” وإسرائيل، فضلاً عن الحذر البالغ من نشاط الفصائل والميليشيات في العراق والتي تعمل لصالح طهران وخدمة أهدافها.

نحو ذلك يرى المسؤول السابق في “البنتاغون”، ديفيد دي روش، أن الضربات الأميركية ضد الفصائل المحسوبة على إيران بشكل عام كانت محسوبة وتمييزية للغاية. وقد تم استهدافها بالمنشآت والمركبات المرتبطة بالجماعات الموجهة من إيران، ونادرًا ما كانت تستهدف الجنود و القادة الفعليين.

يتابع دي روش حديثه لـ” الحل نت” بقوله: “تسعى الميليشيات الإيرانية في العراق وسوريا إلى إجبار القوات الأميركية على الانسحاب من المنطقة بأكملها”. بل يمكن تصوير الضربات الانتقامية الأميركية بشكل معقول على أنها رمزية في الغالب كما أن إيران بدورها لا تريد هجوماً مباشراً على أراضيها. 

تم تصميم الأهداف التي تم اختيارها بشكل عام لإظهار التصميم مع الحد من الخسائر في الأرواح. وذلك لأن إدارة بايدن تحاول إظهار أنها لن تسمح بمرور الهجمات على المنشآت الأميركية دون عقاب، وفي الوقت نفسه تمنع التصعيد بين القوات الإيرانية والولايات المتحدة ويشكل التوفيق بين هذين الهدفين السياسيين المتنافسين تحدياً صعباً.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات