ثمة تتابع على مدى سنوات طويلة نحو كشف قضايا الفساد داخل المؤسسات الإيرانية، الأمر الذي يجعلها أقرب لمتلازمة مع النظام السياسي في طهران، بل يجعل تصريحات المسؤولين في إيران تتعاقب على ألسنتهم دون تغيير وكأن الفساد ببنية الدولة أمر حتمي لا يمكن الفكاك منه. 

وفضلا عن كون ذلك يتّصل مباشرة بسوء الأحوال الاقتصادية للمواطنين وارتفاع نسب الفقر والتشوه الطبقي على خلفية تورّط عدد كبير من المسؤولين وأبنائهم في قضايا الفساد؛ مما يشي بيقين بإساءة استخدام السلطة وتوظيف ذلك والنفوذ المرتبط بها لصالح طبقة الحكم دون اعتبار لمصالح بقية الشعب.

لكن، هناك في زوايا طهران، حيث تتشابك خيوط السياسة بالحياة اليومية، يُثار السؤال: هل يُمكن أن يكون الفساد الهيكلي الممنهج جزءاً لا يتجزأ من نسيج الحكم؟ وإذا كان البحث عن جذور هذا الفساد يقودنا، فهل تشير كل الطرق إلى بيت المرشد؟

فساد مرتبط بالنشأة

خلال منتصف العام الماضي، دعا المرشد الأعلى في إيران، علي خامنئي، السلطات القضائية الإيرانية إلى محاربة الفساد في البلاد بحسب ما جاء في بيان على موقعه الإلكتروني. وقال خامنئي خلال اجتماع مع مسؤولين في جهاز القضاء بطهران “يجب أخذ قضية مكافحة الفساد على محمل الجد”.

صورة المرشد الأعلى لإيران علي خامنئي خلال احتجاجات داخل إيران.

وأضاف خامنئي: “في القضاء أو في السلطة التنفيذية أو في أي مكان آخر، هناك بعض الآليات التي تولّد الفساد بشكل طبيعي يجب تفكيك هذه الآليات”.

إلى ذلك، أعلن النائب الأول لرئيس السلطة القضائية الإيرانية محمد مصدق الأربعاء الماضي، تقديم استقالته من منصبه وذلك جراء تورّط نجليه بقضايا فساد مالي، حيث تجري محاكمتهما من قبل السلطات المختصة.

وأفادت وكالة أنباء “ميزان” التابعة للقضاء الإيراني، أن “محمد مصدق النائب الأول لرئيس السلطة القضائية قدم استقالته من منصبه”. مضيفة أن “رئيس القضاء غلام حسين محسني إيجي وافق على استقالة نائبه”. ويحاكم ابنا مصدق حالياً أمام المحكمة المختصة في الجرائم الاقتصادية بتهمة تشكيل شبكة استغلال نفوذ وغسل أموال في ملفات اقتصادية كبيرة.

وبحسب الوكالة القضائية، فإن مصدق أشار في رسالة الاستقالة إلى قضية نجليه بالقول إنه يقدم استقالته من منصبه “لمنع أي شبهة نفوذ” في هذه القضية.

في هذا السياق، يصف الباحث في الشؤون الإيرانية، وجدان عبدالرحمن، أن الفساد في المؤسسة الإيرانية بـ”الممنهج”. ويردف قائلاً: إن ذلك ليس بجديد ويرتبط عضوياً بلحظة نشوء “الجمهورية الإسلامية” في إيران، ولحظة استيلاء نظام الخميني على المؤسسات التي كانت تابعة لأجهزة الأمن في فترة حكم الشاه.

نظام الخميني عمل حين ذلك على إنشاء مؤسسات جديدة تحت عنوان “مؤسسات المستضعفين”، وتم أخذ كل هذه الأموال تحت رعاية ما يطلق عليه مؤسسة الإمام، بعيداً عن مؤسسات الدولة.

الباحث في الشؤون الإيرانية، وجدان عبدالرحمن

وباختصار شديد وضع الأموال بحوزة “المرشد” يتحكم بمداخيلها بشكل مباشر دون تدخل. إذاً موضوع الفساد في المؤسسة الإيرانية هو فساد ممنهج. وأيضا ليس فقط ممنهج وإنما تم إعطاؤه الطابع الشرعي، لكنه في واقع الأمر محض سرقة لأموال الشعب.

“شاي دبش”

إن الدولة العميقة في طهران هي من تدير النظام والحكومة في آن واحد، وهذه الدولة العميقة التي يشرف عليها بيت المرشد و”الحرس الثوري” الإيراني؛ هم من يتحكمون بالسياسة الخارجية للبلد وأيضاً السياسة الاقتصادية التي تعجّ بسوء الإدارة ومنابت الفساد التي تستشري في إيران. 

مجتبى خامنئي مرشح لخلافه والده كمرشد أعلى في إيران – إنترنت

بل وبحسب وجدان، فإن هذه الدولة العميقة هي من تدير زمام الأمور بالكلية، خاصة مؤسسات “الحرس الثوري”، وبالتحديد “فيلق القدس”، وهي التي تحدد تعيين السفراء وملامح المساعدات للجماعات والميلشيات في العراق وسوريا ولبنان واليمن. و يتطابق ذلك مع ما قاله المرشد الذي يعتبر رأس الدولة العميقة كون وزير الخارجية ما هو إلا “رسول لبعث الرسائل للحكومة ولا يمتلك أي سلطة”.

يتابع وجدان عبدالرحمن بقوله: “ينبغي ألا ننسى بأنه حتى الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي جاء للسلطة عبر نفوذ الحرس الثوري الإيراني. بمعنى أن الدولة العميقة هي من صعدت رئيسي لذلك المنصب؛ بالتالي يعتبر الحديث عن موضوع مكافحة الفساد في طهران حديث أو تصريح عبثي لا يمكن تطبيقه على أمر الواقع”.

إذاً، الرئيس الإيراني الحالي تم تعيينه من قبل “مافيا الفساد” ولذلك من المستحيل بأنه يستطيع مواجهة الفساد أو مكافحة الفساد. ومن هنا تستطيع تدبّر قضية الفساد الكبرى المعروفة بـ”شاي دبش” كنموذج واضح لتلك الملفات المفتوحة بمعرفة السلطة القائمة والحقيقية. 

من أجل ذلك، يتم هندسة كافة المؤسسات في إيران حتى من يأتي أعضاؤها بالانتخابات مثلما حدث منذ أيام في انتخابات البرلمان ومجلس خبراء القيادة، كون ذلك كله يفضي في النهاية لتحديد اسم المرشد القادم الذي يمثّل رأس الدولة العميقة ورمز إدارة الأموال التي تساهم في تعزيز سلطات هذه الدولة سواء في الداخل أو عبر الجماعات الوظيفية في الخارج، وما بين ذلك يظل الشارع الإيراني في حالة فوران من كافة الأحداث التي تعكس تسريبا عميقا لثروات بلاده ومقدراته.

علقت صحيفة “جمهوري إسلامي” على مساعي حكومة إبراهيم رئيسي في مكافحة الفساد وتحديداً في قضية فساد “شاي دبش” الشهيرة مشيرة إلى تحذيرات الرئيس في جولاته الميدانية؛ لكن الصحيفة أكدت أن على الرئيس أن يعي نقطة مهمة و”هي العلاقة بين هذا التوقّع وبين الواقع” خصوصا في طهران.

وأشارت الصحيفة إلى زيارة رئيسي الأخيرة للأحواز، حينما قال: “حذار أن أسمع أنه قد حصل فساد أو رشوة أو علاقات غير نزيهة، في إحدى الدوائر الحكومية”. وكتبت: “من الواضح أن هذا الحديث إنذار بحد ذاته، يعني أن رئيسي يريد أن يقول لموظفي الدوائر ورؤسائها والمديرين، يجب أن تكون الدوائر في نظام إيران نزيهة، ولا وجود للفساد والرشوة فيها”.

وتابعت: “هذا كلام جيد؛ لكن إلى جانب هذه الحقيقة، لا ينبغي تجاهل حقيقة أخرى مريرة للغاية، وهي أن الفساد والرشوة متفشيان في دوائرنا، ويعاني الناس بشدة من هذه الوضعية”.

واعتبرت الصحيفة، أن “أحد أسباب استمرار الوضعية غير المنظمة في الدوائر، هي أن كبار المديرين لا يولون اهتماما لعدم التنظيم هذا، وليس لديهم الدوافع لإيجاد حلول لهذه المشكلة”.

عصابتين!

يشير مسعود محمد، أحد معارضي النظام الإيراني، أن الفساد جزء متمم لبنية الحكم في إيران ونمطه الاقتصادي والسياسي، إذ يمتد بظلّ ولاية الفقيه ويرتبط بقبضته على مفاصل الدولة، وكذا بقية أجهزة الدولة العميقة.

منذ طوفان الأقصى حتى اليوم حماس تكشف فضائح إيران وأسرار تفاهماتها؟ تحايل إيران على العقوبات النظام الإيراني الحرس الثوري البرلمان
الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي يتحدث خلال تجمع حاشد خارج السفارة الأميركية السابقة في العاصمة طهران، بمناسبة الذكرى 43 لبدء أزمة الرهائن في إيران. (تصوير أتا كيناري / وكالة الصحافة الفرنسية)

ويتابع مسعود تصريحاته لـ”الحل نت”، بقوله من ناحية خلافة علي خامنئي، وحرص الدولة العميقة على تأمين المنصب في حيّز أسماء محددة لتأمين دورة رأس المال الفاسد في شرايين وأوردة المؤسسات التابعة لبيت المرشد؛ فإن كل الدلائل تشير إلى أن خامنئي هندس بشكل كامل وحاسم لانتخابات البرلمان والانتخابات الرئاسية وانتخابات الخبراء من أجل توفير كافة شروط انتقال السلطة إلى ابنه مجتبى. 

في العام الماضي، ومن خلال منحه المرجعية الدينية، أزال خامنئي أيضاً العقبة الدينية التي تحول دون أن يصبح فقيهاً، وما قد يحدث لرئيسي قد يكون رئاسة مجلس الخبراء، بالإضافة إلى ذلك، من المحتمل أن يتم استخدامه كمنافس وهمي لمجتبى.

فيما يتعلق بالفساد يمضي المصدر نفسه في حديثه بوصف الفساد “منتشر ومؤسسي لدرجة أنه حتى لو وصلت عاصمة العالم كله إلى هذا النظام، فإنه لا يزال غير قادر على تغيير اقتصاد إيران المدمر”. 

ويردف: إن “عصابة خامنئي، التي استولت الآن على كل الحكومة من البرلمان والأجهزة والمحافظات، هي على الأقل فصيلان، تنافسهما الرئيسي هو نهب البلاد قدر الإمكان. وكلاهما يسعى للحصول على دعم مجتبى خامنئي”.

يضم “الحرس الثوري” الإيراني فصيلين على الأقل ويدعم كل منهما إحدى العصابتين. هناك فئة تؤمن بمحاولة رفع الحظر وإقامة علاقة مع الغرب بسبب هيمنة الشركات التي ستجني أرباحاً أكبر بكثير من خلال رفع الحظر. ومجموعة تؤمن باستمرار العقوبات الدولية لأن معظم شركات التغطية التي تتجاوز العقوبات تعمل وبدون عقوبات ستختفي أرباحها.

نقطة في بحر الفساد

اعترف متأخرا سيد أمير حسين قاضي زاده هاشمي، رئيس مؤسسة “شاهد”، في عامه الثالث في الحكومة ونائب الرئيس: “لدينا أكثر من 3000 قضية فساد في دي بنك. وما قاله قاضي زاده هاشمي هو نقطة في بحر الفساد الذي حدث في مؤسسة شهيد فقط في عهد أحمدي نجاد”.

مروحية تابعة للشرطة الإيرانية تمر فوق صور المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي (على اليمين) وآية الله الخميني السابق خارج ضريح الخميني في الذكرى الخامسة والعشرين لوفاته في 4 يونيو 2014 في ضواحي طهران. (تصوير جون مور / غيتي)

الدكتور رؤوف فاني، الباحث والكاتب في الشؤون الإيرانية والشرق الأوسط في مركز “دراسات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا” في أميركا الشمالية، يقول إن الفساد بإيران أصبح “مؤسسياً بعد انتهاء الحرب مع العراق، وبدء المشاريع الاقتصادية، وأصبح جزءا لا يتجزأ من الحكومة، واشتدت هذه العملية مع استثمار الحكومة في المشاريع العسكرية، كما أنها أشركت العسكريين في هذه العملية. بطريقة أصبح الفساد يعني الحكومة بأكملها”.

وكل قطاعات الحكومة تحولت إلى قواعد للفساد، وفق حديث الدكتور رؤوف فاني، لـ”الحل نت”، مشيراً إلى أن أي سياسة خارجية تعتمد على تأمين مصالحها، وخاصة العسكرية ولذلك فهم يعارضون أي علاقات خارجية شفافة، ولم يعد للإصلاحيين أي مصداقية ومكانة لدى الشعب، وبالتالي لم يعد لنتيجة الانتخابات تأثير كبير عليهم لأنهم مرفوضون من الحكومة والشعب.

ويرجح أن المرشد الإيراني ربط مستقبل الدولة بنفسه، وتابع: “لقد حول نفسه بذكاء شديد إلى آخر زعيم لنظام الملالي، لأن وفاته تعني تغيير هيكل الحكومة. وبعد وفاته سيضحى الولي الفقيه رمزياً وستكون طهران تحت تصرف المؤسسات العسكرية بالكامل”.

وحسب المعطيات العلمية والمعرفية المتوفرة من المجتمع داخل إيران والمعارضة خارج إيران، فإن الاحتجاجات النقابية والمدنية ستستمر مع السكان اللامركزيين، لكن الاحتجاجات الحاشدة لن تحدث في الوقت الحالي بسبب القمع الشديد للاحتجاجات في أيلول/سبتمبر 2022. والجمهورية الإسلامية ستسلخ جلدها كالثعبان، لكن هذا لا يعني تشكيل حكومة ديمقراطية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات