تعكس القيود التجارية التركية مع إسرائيل مؤشرات على جملة تفاصيل، ليس من بينها وجود متغير في العلاقات بين أنقرة وتل أبيب، حيث إن حسابات السياسية لا يمكن مقاربتها بمواقف جزئية منفردة إنما من خلال التراكمات الكمية وفهم دلالتها النوعية، وذلك عبر فض الملابسات التي تكشف عن تفاصيلها لحظة سياسية تاريخية تتزامن في توقيت بعينه. فالقرار التركي يجيء بعد نحو ستة شهور من اندلاع الحرب في غزة إثر هجمات “حماس” على إسرائيل، الأمر الذي قوبل من تركيا بحياد على مستوى الخطاب والممارسة العملية وذلك بخلاف ما سبق من مواقف كان يغلب عليها الانفعال المفرط وشحن الرأي العام المحلي والخارجي بعبارات متشددة ولها طبيعة تعبوية واضحة ومباشرة.

غير أن المدة التي اندلعت فيها الحرب منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر العام الماضي وحتى كتابة هذه السطور، لم يمارس الرئيس التركي أردوغان خلالها مواقف أبعد من وضع كافة الأطراف في سلة واحدة، وتحميل “حماس” كما إسرائيل مسؤولية تهديد حياة المدنيين، ثم كانت انعطافة أردوغان نحو مصر بعد نحو عقد من المقاطعة، لجهة التي تقود جهود الوساطة مع قطر لحل الأزمة في غزة وتسوية الصراع عبر تحرير الرهائن ووقف إطلاق النار، وإيجاد صيغة عملية للحكم في اليوم التالي للحرب، مؤشراً لافتاً على ضرورة تجاوز أنقرة خلافاتها الخارجية التي وصلت لدرجة الانسداد وباتت عبئاً وتتسبب في خسارتها كما ظهر في تراجع دورها كوسيط إقليمي في هذا الصراع.

هل بدأ نفوذ أردوغان يتآكل؟

الدلالة أو المؤشر الآخر كان محلياً وليس إقليمياً وخارجياً، تحديداً ما حدث في الانتخابات البلدية بتركيا قبل فترة وجيزة، والتي شهدت خسارة فادحة لـ”حزب العدالة والتنمية” في غالبية الدوائر الانتخابية، ولم يتمكن أردوغان أن يستعيد السيطرة على إسطنبول وأنقرة، وصعدت أحزاب المعارضة في باقي المحافظات.

لا يمكن فصل خطوة أردوغان بشأن فرض القيود التجارية عن موقف آخر يكشف عن تكتيكية الموقف الذي لا يرنو منه سوى الاستقطاب لحسابات داخلية في تركيا- “أ ف ب”

التصويت العقابي في الانتخابات البلدية بتركيا، وانسحاب الناخب التركي من أمام “حزب العدالة والتنمية” وحلفائه من القوميين والتيارات الراديكالية المتشددة، كان تعبيراً عن فقدان أردوغان قاعدته الاجتماعية بل تآكل نفوذه السياسي ومصداقية.

من هنا، يمكن اعتبار المؤشر الأخير هو ما قاد أردوغان إلى محاولة ترميم حواضنه واستعادة ثقة الناخب أو المواطن التركي به، من خلال فعل مناورة جديدة، وهذه المناورة لا تعدو كونها مجرد حيلة يزعم من خلالها الرئيس التركي العداء لإسرائيل أو أنه يشن حرباً اقتصادية ضدها ويضحي بالمصالح العميقة معها التجارية والمالية لصالح غزة. ربما ذلك يتبدى للوهلة الأولى ظاهرياً، لكن في حقيقته ليس أكثر من عملية تحرش سياسي للدعاية والضجيج في ظل الانحسار الذي يعاني الحزب وتصدع أعمدته الاجتماعية.

بل هي مناورة أو تحرش لطبيعتها التكتيكية على أساس عاملين، الأول أن السياسة التركية تضع حداً فاصلاً بين المصالح الاقتصادية الاستراتيجية، والخلافات السياسية والأخيرة تكون مؤقتة، ففي ظل قطيعتها مع القاهرة كانت العلاقات والتبادلات التجارية في أعلى مستوياتها حتى مقارنة بفترات العلاقات الطبيعية، كما أن حظر الصادرات له تداعيات على الاقتصاد التركي يفاقم الأعباء ويراكم الأزمات ويشل قدراتها في ظل ما تعانيه من تضخم وتدني الليرة لمستويات صعبة، مع الأخذ في الحسبان أنه خلال العام الماضي حققت تركيا فائض من تبادلها السلعي والتجاري مع إسرائيل إلى نحو 3.9 مليار دولار عام 2023.

ولا يمكن فصل خطوة أردوغان بشأن فرض القيود التجارية عن موقف آخر يكشف عن تكتيكية الموقف الذي لا يرنو منه سوى الاستقطاب لحسابات داخلية في تركيا، ولا تمت بصلة بالوضع في غزة، أو حتى يهدف إلى الضغط الخشن مع إسرائيل للدرجة التي تؤدي لأزمة عميقة، حيث إن أردوغان الذي استدعى سفيره في إسرائيل إنما أكد على أنه ليس بهدف قطع العلاقات الدبلوماسية لكن للتشاور بشأن رفض إسرائيل طلب وقف لإطلاق النار في غزة.

وبحسب بيان وزارة الخارجية التركية فإن استدعاء السفير شاكر أوزكان تورونلار “في ضوء المأساة الإنسانية التي تتكشف في غزة بسبب الهجمات الإسرائيلية المستمرة ضد المدنيين ورفض إسرائيل وقف إطلاق النار”. وقد سبق لأردوغان أن قال “قطع العلاقات بشكل تام (مع إسرائيل) غير ممكن، خصوصاً في الدبلوماسية الدولية”.

خطوة للاستعمال الإعلامي

لذلك، إعلان أردوغان بدء حظر قائمة من الصادرات التي تذهب لإسرائيل، هي خطوة للاستعمال الإعلامي الذي يهدف للتشويش على خطاب المعارضة، وإيجاد “حزب العدالة والتنمية” ومنصاته الإعلامية مادة جديدة للتوظيف وصناعة بطولة في ظل خفوت الدور التركي الذي اعتاد أردوغان ملء مساحاته. ومن المرجح أن تكون خطوة/ مناورة مؤقتة لسبب آخر لا سيما أن إجراءات بحث الهدنة يتم التعجيل بدخولها حيز التنفيذ من خلال الوسطاء الإقليميين وبرعاية الولايات المتحدة.

وتشمل القائمة التي أصدرتها تركيا 54 منتجاً منها “مقاطع الألمنيوم، أسلاك الألمنيوم، الدهانات، المقاطع النحاسية، القضبان والأسلاك، الأنابيب والتجهيزات الفولاذية، قضبان الأسلاك الفولاذية. الحاويات والخزانات الفولاذية، أجزاء الجسور الفولاذية، الأبراج الفولاذية، المقاطع الفولاذية، الأسمنت”. يضاف لذلك كافة مواد البناء المصنوعة من الحديد والصلب وأسلاك الحديد والصلب، الحفارات، الكابلات الكهربائية، اللوحات الكهربائية، البلاط، كابلات الألياف الضوئية. وتشمل حديد التسليح، آلات البناء، مواد عزل البناء، الزجاج المستخدم في البناء، المركبات الكيميائية، الأسمدة الكيماوية، الكبريت، الزيوت المعدنية، الرخام وآلات معالجة المعادن.

أزمة أردوغان السياسية هي في كونه راكم حواضن وقام بتسييس قطاعات لها حمولات تخلط بين الدين والسياسية في صورتهما المتشددة، بما يجعل الصورة المصنوعة تصطدم مع الواقع ببراغماتيته الشديدة.

وحددت وزارة التجارة التركية شروط سريان هذا القرار إلى أن “تعلن إسرائيل وقفاً فورياً لإطلاق النار بغزة وتسمح بتقديم مساعدات كافية ومتواصلة للفلسطينيين”. وقال البيان الصادر عن “التجارة التركية” إن “تركيا لم تقم منذ فترة طويلة ببيع إسرائيل أي منتج يمكن استخدامه لأغراض عسكرية”. فيما عقّب وزير الخارجية الإسرائيلي، يسرائيل كاتس على قرار تركيا بأنها “انتهكت من جانب واحد” اتفاقيات التجارة مع إسرائيل.

وتابع: “إسرائيل ستفرض قيوداً تجارية خاصة بها على المنتجات التركية رداً على القيود التركية على الصادرات”، وقال إن أردوغان “يضحي بمصالح تركيا الاقتصادية لدعم حماس”.

وفق قناة “الحرة” الأميركية فقد “أوعز وزير الخارجية الإسرائيلي، القسم الاقتصادي في وزارته بإعداد قائمة واسعة من المنتجات التي ستمنع إسرائيل تركيا من تصديرها إلى إسرائيل، حسبما أفاد مراسل الحرة في القدس”.

كما شددت الخارجية في تل أبيب على أن إسرائيل ستعمل باتجاه مطالبة الدول والمنظمات المصطفة معها لتعطيل “الاستثمارات في تركيا ومنع استيراد المنتجات من تركيا”، بل ستطالب “أصدقاءها في الكونغرس الأميركي لفحص الانتهاك التركي لقوانين المقاطعة ضد إسرائيل وفرض عقوبات عليها”.

أزمة أردوغان السياسية هي في كونه راكم حواضن وقام بتسييس قطاعات لها حمولات تخلط بين الدين والسياسية في صورتهما المتشددة، بما يجعل الصورة المصنوعة تصطدم مع الواقع ببراغماتيته الشديدة، إذ إن تركيا بعلاقاتها القديمة والتاريخية الممتدة مع إسرائيل وتحالفاتهما التي تبدو استراتيجية ولها مصالح جيوسياسية مهمة، تبرز مثل بنية تحتية متينة قوية تقاوم الاهتزازات العرضية في السياسة، لكن هذه البنية لا تبدو واضحة للمواطن التركي الذي يرى فقط ما هو معلن وخارجي.

وسيلة داخل حيز الزجر السياسي

وما بين خطابات الرئيس التركي منذ تسعينات القرن الماضي وارتباطه الأيديولوجي بالجماعات الإسلاموية وحركة نجم الدين أربكان بعمقها الإخواني، وما فيها من عداء تقليدي للغرب والولايات المتحدة فضلاً عن إسرائيل، من جهة، والسياسة العملية التي تبدو فيها العلاقات التركية الإسرائيلية تتمتع بدفء واستقرار ونمو مطرد، من جهة أخرى، تقع القوى والحواضن المتجمعية المرتبطة بهذا الخطاب أمام انحناءات خطيرة وتظهر حقيقة المواقف وما فيها من مزاعم لا تمت للواقع بصلة، بل تفضح غلبة السياسي البراغماتي على ما هو خطابي بلاغي. ذلك ما حدث مع اندلاع “طوفان الأقصى” وارتداداتها السياسية التي جعلت مستوى الخطاب لا يغطي على حقائق البنية المصالحية التي تحمي التحالفات بين أنقرة وإسرائيل وارتباطاتهما الاستراتيجية.

يمكن القول إن العلاقات التركية الإسرائيلية قد شهدت خلافات وانخفاض في مستوى التعاون السياسي والدبلوماسي في السنوات الماضية، وكان أبرزها استدعاء السفير، مؤخراً، بيد أنه برغم كل ذلك كانت العلاقات الاقتصادية والتبادل التجاري تتوسع بينما كانت أنقرة خامس أكبر مصدر للسلع لإسرائيل وعاشر أكبر سوق لصادرات إسرائيل، بحسب بيانات المكتب المركزي للإحصاء العام الماضي.

ثمة حقيقة أن إسرائيل هي أحد المجالات الحيوية للصناعات التركية، منها الصلب والتي تشير التقديرات الرسمية إلى أن الأخيرة باعت العام الماضي نحو 726 ألف طن من البضائع لإسرائيل. فيما تعتمد أنقرة على إسرائيل والواد الكيميائية والتقنية في عملية التحديث الصناعي وبخاصة في الشأن الدفاعي.

وبمراجعة نمط وحجم العلاقات التجارية والاقتصادية بين تركيا وإسرائيل، سنجد أن الروابط الممتدة بينهما تزداد قوة ومتانة في ظل تضاعف الصادرات والتي وصلت لنحو 7.3 مليار دولار قبل عامين مقارنة بنحو 2.3 مليار دولار عام 2011.

مربط الفرس هو معضلة الوضع السياسي المأزوم لأردوغان داخلياً، ووقوعه فريسة الاستقطاب المتسبب في هزيمته بالانتخابات البلدية- “أ ف ب”

ولا يمكن إغفال أن الروابط الاقتصادية العميقة بين الطرفين في مجالات استراتيجية تجعل من الصعوبة بمكان أن تكون خطوة أردوغان هدفها اللعب بتلك الورقة الخطيرة أو خسارتها، الأمر الذي كان يمكن حدوثه بشكل جاد إذا تزامن في توقيت مغاير وليس بعد مرور ستة أشهر على الحرب ثم ما جرى من تداعيات بعد الانتخابات البلدية، وقد شهدت استقطاباً حاداً من قوى عديدة نجحت في ابتزاز أردوغان بورقة العلاقات التجارية لحين وقف إطلاق النار والذي يبدو وشيكاً بما يجعل موقفه بالمقاطعة عملية تكتيكية ومناورة مؤقتة لا تتجاوز كونها وسيلة داخل حيز الزجر السياسي.

في المحصلة، فإن مربط الفرس هو معضلة الوضع السياسي المأزوم لأردوغان داخلياً، ووقوعه فريسة الاستقطاب المتسبب في هزيمته بالانتخابات البلدية، كما ظهر من خلال الدعاية السلبية لزعيم “حزب الرفاه من جديد” فاتح أربكان، والذي وصف التصويت لحزب أردوغان بأنه “داعم لإسرائيل بالسلاح”، وهنا كان الرئيس التركي يتجرع من كأس السم ذاته الذي استخدمه ضد خصومه، وقد ألمح أردوغان للتوظيف السياسي للحرب في غزة في سباق الانتخابات ضده وقال: “للأسف، حتى فيما يتعلق بقضية مثل أزمة غزة، والتي بذلنا كل ما في وسعنا ودفعنا ثمنها، فشلنا في صد الهجمات السياسية وإقناع البعض من الناس”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة