مع عودة “طالبان” إلى الحكم في أفغانستان، لم يكن هناك أدنى شك في انبعاث موجة جهادية، سوف تمنحها هذه الانعطافة الجديدة إلى التنظيمات الإسلاموية المسلحة، لا سيما تنظيم “القاعدة” الإرهابي. فحكام كابل الجدد رغم نفيهم المتكرر، أو محاولة تبديد مخاوف المجتمع الدولي بأنه تنظيمهم المسلح والمتشدد لن يعاود سيرة العنف والقمع، بخاصة ضد المرأة والأقليات والفئات الضعيفة المهمشة، إلا أنه كان يصنع سلماً للمرور الآمن والقفز للسلطة من دون معارضة، ثم ما لبث أن بدأ في تمرير تشريعاته المستندة للأحكام الدينية القاسية وفق تأويلاتهم العقائدية، والإمعان في ممارسات عنيفة طاولت المرأة عبر منعها من التعليم، وفرض قيود على نشاطها في المجال العام، ناهيك عن الإعدامات العلانية، وترسانة القوانين البدائية بدعوى تطبيق “أحكام الله”.

الذكرى الثالثة لعودة “طالبان” للحكم، صادف منتصف الشهر الماضي، لم يتردد رئيس الحكومة حسن أخوند في كلمته أن يؤكد على اعتماد بلاده “حكم الشريعة الإسلامية” رافضاً أي تنازلات في هذا الجانب، وقال إن “ذلك تتحمله سلطات طالبان، كما تتحمل مسؤولية حماية الممتلكات وأرواح الناس”.

ويمكن القول إن نهج الحركة الإسلاموية المسلحة والمتشددة، يوفر بيئة تتكامل شروطها بالدرجة التي تسمح بنشاط متنامي للقوى الجهادية، وكسب عناصر جدد في صفوفها، حيث إن الانكماش الاقتصادي وتدني المستوى الاجتماعي المعيشي بفعل تعطل المساعدات الدولية، الأمر الذي أدى لتضاعف مستويات الفقر، يفاقم من الأوضاع بالبلاد ويرفع من حدة سلبياتها، لا سيما على الوضع الأمني وسيولته التي تسمح بتفشي أنشطة الجماعات الإرهابية، كما تجذب شبكاتها الإقليمية للتمركز عند الأطراف ومهاجمة المركز والنقاط الحيوية، بل إنها تتخذ من تلك النقاط فرصة لإعادة التموضع وبناء معسكرات للتدريب والتخطيط وتنفيذ مشاريعها الهجومية.

“طالبان” توفر بيئة للإرهاب

العزلة الدولية المتسببة فيها ممارسات الحركة الإسلاموية في كابل، وفقدانها الشرعية، حتى الآن، يفتح مسارات ملتوية أو مشبوهة للتعاون مع شبكات سرية للتهريب وتبييض الأموال، وإدارة ما يمكن تسميته بالاقتصاد الموازي، وذلك ما توفره بعض الدول التي تقف على النقيض من المجتمع الدولي، مثل إيران وروسيا والصين وفنزويلا، وتستخدم أدوات وظيفية هي التنظيمات المسلحة، سواء كان “القاعدة” أو “الحرس الثوري الإيراني” ووكلائه. بالتالي، كان طبيعياً أن تلمح روسيا وكازخستان في ظل القيود الدولية على “طالبان” إلى رفع اسم الحركة من قوائم المنظمات الإرهابية حزيران/ يونيو الماضي.

مقاتلو “طالبان” يجلسون بجوار الباعة الجائلين في سوق محلي في كابول، أفغانستان، الجمعة، 10 سبتمبر 2021. (AP Photo / فيليبي دانا)

ولهذا، تتقاطع عدة تقارير مع نقطة لافتة تبرز توسع تنظيم “القاعدة” الإرهابي في أفغانستان بغطاء ممنوح من الحركة. ونقلت مجلة “فورين بوليسي” الأميركية عن الناطق بلسان المقاومة الأفغانية، علي ميسم نزاري، أن “القاعدة” دشنت عام 2024، ما يربو على تسعة معسكرات تدريب جديدة في أفغانستان، وفقاً لما نقلته مجلة “فورين بولسي”. 

فيما أوضح نزاري الذي يزور واشنطن مطلع الشهر الجاري، أن “القاعدة” دشنت مراكز للتعبئة والتدريب، فضلاً عن إنشاء “قواعد ومستودعات ذخيرة في قلب وادي بنجشير، بسماح من حركة طالبان”.

وبحسب موقع “الحرة”، فإن الأمم المتحدة ترجح بأن تنظيم “القاعدة” لديه معسكرات تدريب في 10 مقاطعات على الأقل من مقاطعات أفغانستان البالغ عددها 34 مقاطعة، رغم نفي “طالبان” العلني وجود التنظيم في البلاد. ونهاية الأسبوع الماضي، ذكر رئيس الاستخبارات المركزية الأميركية ديفيد كوهين، أن هناك تواصلات مستمرة بين جهازه الاستخباري و”طالبان”، بهدف الحيلولة دون أن تضحى كابل منصة لتكرار الهجمات الإرهابية التي تهدد الأمن العالمي، وقال إنه “طوال المدة التي كانت فيها الحركة تقاتل مع تنظيمي القاعدة وداعش – خراسان الإرهابيين، كنا على اتصال مع طالبان بوسائل شتى”.

إذاً، منحت “طالبان” تنظيم “القاعدة” على وجه الخصوص فرصة لاستغلال أراضيها، سواء على مستوى التواجد والتنقل بحرية، أو العمل والتدريب وبناء مراكز التخطيط والتعبئة، فضلاً عن كونها ضمن الملاذات الآمنة، والتي حتماً ستكون ارتكاز مرور إقليمي للأفراد والقيادات لتنفيذ أهدافهم الأمنية والعسكرية، من دون إغفال الدور الإيراني المتاخم حدودياً، وله سوابق في دور مماثل، بل إن ما بعد هجوم 7 أكتوبر بغزة واندلاع الحرب بين إسرائيل وحركة “حماس”، قرب المسافات بين نظام الملالي وقوى الإسلام السياسي بالمنطقة، وهنا تتفاقم مخاطر المساحة الجيوسياسية التي تمنحها أفغانستان لصعود “القاعدة” مرة أخرى على أراضيها.

توفير مراكز عسكرية لـ”القاعدة”

وبالعودة لمجلة “فورين بوليسي”، فقد صرح كبير الدبلوماسيين في “جبهة المقاومة الوطنية” الأفغانية علي ميسام ناظري، بأن مراكز التدريب ومعسكرات التجنيد التابعة لـ”القاعدة” والتي وفرتها “طالبان” للأخيرة، بها “مستودعات ذخيرة في قلب وادي بانشير، وهو أمر غير مسبوق يتخطى أحلامهم في فترة التسعينات”. فيما أوضح المسؤول السابق بالبحرية الأميركية وعضو بجمعية العمليات الخاصة الأميركية دوغ ليفرمور: “نرى جميع الأضواء تومض باللون الأحمر، وتعتقد الأمم المتحدة أن تنظيم (القاعدة) بات لديه معسكرات تدريب في ما لا يقل عن 10 من أصل 34 محافظة في أفغانستان، وذلك على الرغم من حركة (طالبان) تنكر علناً وجود الجماعة الإرهابية في البلاد”.

وقال ناظري إن الجماعات الجهادية تتمفصل في المناطق الحدودية بالبلاد، وأنه “لم يكن لـ(القاعدة) أي وجود في شمال أفغانستان في عام 2001، أما اليوم، فقد بات للتنظيم، وغيره من القوى الإرهابية، وجود في جميع أنحاء البلاد والتي أصبحت بمثابة سوق سوداء مفتوحة للأسلحة المتبقية، والتي عادةً ما يكون الكثير منها أميركية”.

يقول الخبراء إن مسلحين التنظيمات الإرهابية “ينفذون تمرداً منخفض الحدة بخلايا إرهابية سرية في العراق”، بينما تكثفت هجماتهم في سوريا منذ تشرين الثاني/نوفمبر الماضي”.

وذكر ليفرمور: “تعاني حركة (طالبان) المشكلة نفسها التي واجهناها على مدى 20 عاماً؛ إذ إنه من الممكن السيطرة على المركز، أو السيطرة على الطريق الدائرية، إلى حد ما، ولكن بمجرد أن تبدأ في النظر من هناك إلى الخارج، خصوصاً في الاتجاه الشرقي من البلاد، وبعض تلك التضاريس الوعرة هناك، فإنك ستجد أن هذا هو المكان الذي تمكنوا فيه (تنظيم داعش) من إقامة قاعدة عمليات قوية للغاية”. كاشفاً عن تقديم الحركة “جوازات سفر للمقاتلين الإرهابيين الأجانب للسماح لهم بدخول البلاد”.

اتساع نفوذ “القاعدة” والتنظيمات الجهادية المسلحة في ظل شرعنة “طالبان” وجودهم، ومنحهم هذه المساحة للانتشار والعمل، يتوافق مع الخبرات التاريخية السابقة، كما حدث مع إيران الخمينية والتي كان نجاح ثورته عام 1979، فرصة للإسلامويين للبحث عن فرص للانقلاب السياسي والوصول للحكم وأسلمته، غير أن الخطوة الأخطر كانت في منح قادة الجهاد العالمي بؤر للتمركز في طهران وقواعد “الحرس الثوري”، وبالشكل الذي يجعل البيئة الأمنية على المستويين الإقليمي والدولي متوترة ومهددة طوال الوقت. ولهذا أوضح تقرير الأمم المتحدة في تموز/ يوليو الماضي أن مقاتلي تنظيم “داعش- خراسان” حظوا بوسطاء في عدة دول منها أفغانستان وتركيا، لنقل المسلحين نحو أوروبا لتنفيذ هجماتهم الإرهابية.

وفي تقرير سابق لموقع “long war journal“، فإن العديد من الدول الأعضاء بمجلس الأمن تواصلوا بالإبلاغ عن أن التركيز الكبير للجماعات الإرهابية في أفغانستان يقوّض الحالة الأمنية في المنطقة، وهذا ينفي غياب العلاقة بين تنظيم “القاعدة” وحكومة “طالبان” في أفغانستان والتي تظلّ قائمة حتى بعد مقتل زعيم التنظيم في العاصمة الأفغانية، وقد أقرّ ذلك التقرير الثالث والثلاثين المقدَّم لمجلس الأمن الذي قام به فريق الدعم التحليلي ومراقبة العقوبات التابع للأمم المتحدة، حيث نصّ صراحةً على أن “العلاقة بين حركة طالبان وتنظيم القاعدة لا تزال وثيقة، ويحتفظ هذا الأخير بنمط صموده في أفغانستان تحت رعاية حكومة طالبان، وترى دول المنطقة أن وجود كبار الشخصيات في تنظيم القاعدة في البلاد لم يتغير وأن الجماعة لا تزال تشكّل تهديداً في المنطقة، وربما خارجها”.

عناصر من تنظيم “القاعدة” بأفغانستان في عام 2011- “صورة أرشيفية/رويترز”

وأشار التقرير إلى أن تنظيم “القاعدة” أنشأ ما يقرب من ثماني معسكرات تدريب جديدة في أفغانستان، بما في ذلك أربعة في مقاطعات غزني ولغمان، وباروان، وأور، وزغان، مع قاعدة جديدة لتخزين الأسلحة في وادي بانشير.

علاقة وثيقة بين “طالبان” و”القاعدة”

في سياق متصل، أوضحت لجنة خبراء تابعة للأمم المتحدة في تقرير، مطلع العام الحالي، أن التهديد الذي يشكله تنظيما “القاعدة” و”داعش” والجماعات التابعة لهما “لا يزال مرتفعاً” في مناطق الصراع في أفغانستان والقارة الإفريقية، كما ارتفعت مستويات التهديد في بعض المناطق ومن بينها أوروبا. 

فيما ذكرت اللجنة في التقرير المكون من 23 صفحة، أن العلاقة بين حكام حركة “طالبان” الأفغانية وتنظيم “القاعدة” لا تزال “وثيقة”. وقال الخبراء في التقرير الذي قدم إلى مجلس الأمن الدولي ويغطي الفترة حتى 16 كانون الأول/ديسمبر عام 2023 وتم توزيعه يوم الأربعاء، إن التهديد الأكبر داخل أفغانستان “لا يزال يأتي من تنظيم داعش مع قدرته على التوسع داخل المنطقة وخارجها”. وعلى المستوى الإقليمي، أشار الخبراء إلى سلسلة هجمات في إيران وباكستان المجاورتين، والتهديدات في دول آسيا الوسطى.

وتابعت اللجنة: “مع ذلك، وعلى الرغم من عدم استرداد أي من الجماعات التابعة لتنظيم القاعدة القدرة على شن عمليات في مناطق بعيدة، فإن لديها طموحات عالمية، وتم الحصول على معلومات تفيد بجهود سرية لإعادة بناء القدرات العسكرية لديها”. 

وقال الخبراء إن هؤلاء المسلحين “ينفذون تمرداً منخفض الحدة بخلايا إرهابية سرية في العراق”، بينما تكثفت هجماتهم في سوريا منذ تشرين الثاني/نوفمبر الماضي”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة