بعد اغتيال زعيم حركة “حماس”، يحيى السنوار، بساعات قليلة نشر صحفي أردني منشوراً على صفحته الخاصة في “فيسبوك” يقول فيه: “بعد اغتيال السنوار. ما هو شعورك كغزاوي؟”. لتنهال آلاف التعليقات والمشاركات والإعجابات من عرب وفلسطينيين غزاويين جاءت ردودهم مفاجئة وفجّة، أبرزها لشخص علق: “الأفراح تعمّ البلاد والخيم”. فبماذا أخطئ السنوار ليلقى موته كل تلك الشماتة بعد أن قُتل بجعبة وبندقية فوق الأرض وفي وجه قوة إسرائيلية مدججة. 

ربما يجب هنا العودة عاما كاملا وبضعة أيام إلى الوراء لقراءة المشهد من جديد، منذ يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر و”طوفان الأقصى” والهجوم العسكري المباغت وخلخلة توازن إسرائيل على جبهة الغلاف. 

شهادة من غزة

قد يكون يحيى السنوار ضحى بنفسه ودفع ثمن ذلك روحه وأرواح عشرات آلاف الفلسطينيين لمجرد رؤية وقراءة خاطئة لواقع المشهد وما يمكن أن تفعله تل أبيب ويدلل على ذلك تشبّثه برأيه حتى مقتله وهو المحسوب على صقور الحركة لا يمامها الأكثر مرونة في التفاوض والدبلوماسية.  

يحيى السنوار (يسار)، زعيم حركة حماس الإسلامية في قطاع غزة، ورئيس المكتب السياسي للحركة إسماعيل هنية يلتقيان مع رؤساء العائلات في مدينة غزة في 26 ديسمبر 2017، لمناقشة التطورات الأخيرة حول محادثات المصالحة. (تصوير: محمود حماس/وكالة الصحافة الفرنسية)

الرجل كان يفهم لغة العسكر والنار والبارود فقط، وحريٌّ هنا أن نسأل هل ورّط أحدٌ السنوار بهذه المقتلة؟ جهة ما أو دولة إقليمه أو عالمية مثلا، ثم تخلت عن صقرها في عشّه البارد مع رهائن لا يكترث لهم نتنياهو منذ البداية، بل يريدهم جثثا تحت أنقاض مدينة كاملة اسمها غزة من شمالها حتى جباليا وصولا لـ “معبر رفح” في جنوبها، وفوق ذلك ألا تقوم قائمة لـ حمـاس بعد ذلك أبد الدهر. 

يحيى السنوار أو كما يوصف بمهندس السابع من تشرين الأول/أكتوبر ظنّ أنّه أمام فرصة تاريخية وحيدة وأخيرة لتحرير بلاده، وتمسك بتلك الرؤية والمشهد وغرق في الحرب ومعه مئات الشهداء يوميا، فغاص أكثر وأكثر، ولا شك كان هنا يعوّل على تدخّل حاسم يوقف الحرب بشروطه لا شروط وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، بعد أن عرف يقينا أن كل شيء انتهى، ومع ذلك لم يعترف علانيةً، وظل يراهن على الضغط الدولي وجبهات إسناد لبنان واليمن والعراق وإيران، لكن كلّها لم تتمكن من إخراج القطّاع من المقتلة الدامية، وبالضرورة لم يقدم تنازلا واحدا رغم الضغوط داخل حركته. 

الأكيد في كل ما حصل أن السنوار لم يكن خائفا أو مهاوداً أو جبانا في أي لحظة ولم يقبل أي شرط للتفاوض خارج حدود فهمه لقضيةٍ يؤمن بها، ولذا، لم يهادن ولم يهرب ولم يختبئ وقتل فوق ركام ما فوق الأرض في ساحة مكشوفة. 

البقاء أم الفناء

يصف من يعرف السنوار بالمتشدد عقائدا وفكريا وأيديولوجيا غير قابل للمساومة والبيع والشراء وهو صاحب الـ 22 عاما من الاعتقال الإسرائيلي المرّ والمؤسس لجهاز أمن الحركة “مجد” ولـ “حمـاس” نفسها، وشخص كهذا لا تتوقف معتقداته إلا بالموت. 

فريق كبير يرى أن الشماتة بموت القائد أمرٌ مخز، ولكن ذلك لا يعفيه من اللوم وقد كان سببا في غرق المدينة بسكانها تحت وابل حمم القصف، خاصة أنه علم مع خيوط صباح الثامن من تشرين الأول/أكتوبر وانقشاع غبار الليلة السابقة أنه أقدم على مجازفة تاريخية غير محسوبة وما كان يصبو إليه لم يحصل، ولن. 

قد يكون الجواب هنا بسيطا، فصقور الحركة التي يرأسها السنوار لا يبالون بأمر القطاع ومن فيه أكثر من اهتمامهم بحكم “حمـاس” واستمرارها كضرورة مرحليةٍ زمنياً وتاريخياً نحو تحرير شامل، فراحت الأمور للتضحية بشعب ومشافٍ وبنى تحتية، وفي كل مرة كان ينطلق تفاوض “حمـاس” من موقع من يريد ضمانات لاستمرار حكم “حمـاس” لا وقف الإبادة ولو مات الجميع، جميع أهل القطاع الذين فرح كثرٌ منهم باغتيال السنوار كما فرحوا باغتيال نصر الله قبله. 

وبعد كل ذلك لم يعد قطاع غزة مكانا صالحا للعيش أو السكن، بل حتى أن المجاعة اجتاحته، وهل لو قتل السنوار في الأسابيع الأولى كانت ستتغير آراء الناس حياله؟ هل كان سيُعتبر بطلا قوميا من الطراز الرفيع تاركا خلفه إرثا ثقيلا من الحرب التي سيحملها آخرون ويصبحوا هم عرضة للانتقاد. 

في كل لحظة كانت هناك فرصة للتراجع، لكن إسرائيل نفسها لم تكن تريد التراجع، كانت تعرف ما تريد وقد جاء على طبق من ذهب، تدمير القطاع، تشريد سكانه، القضاء على حكم “حمـاس”، القضاء على بنيتها العسكرية، وكل ذلك حصل ويحصل وسارت سفينة الموت تحصد ميمنة وميسرة في أرواح أناسٍ عرفوا باكرا للغاية أن تفرد القرار أو توريط المتفردين به لن يدفع ثمنه سواهم كمدنيين لا حول ولا قوة لهم. 

هل كان الانتحار هو الخلاص؟

قبل ساعات قليلة من تلقي يحيى السنوار نبأ اغتيال حسن نصر الله، الأمين العام لـ “حزب الله”، وعدد من قادة الحزب البارزين، كان السنوار واثقاً من التزام إيران بوعدها؛ إذ كانت قد تعهّدت بدخول الحرب إلى جانبه وتفعيل كافة جبهات “محور المقاومة”. 

لافتة تحمل صورة يحي السنوار وحسن نصرالله – إنترنت

ولكن إذا عدنا بالزمن إلى ما قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر، نجد أن السنوار عمل طويلاً على تعزيز سيطرته على قرار “حماس” داخلياً، معزولاً عن مكتبها السياسي بالخارج. وبحسب المعلومات الحصرية التي حصل عليه “الحل نت” من مصادر في حركة “حماس”، بدأ السنوار منذ عام 2012 بربط الحركة بإيران بشكل مباشر، ما منحه نفوذاً قوياً على قراراتها، وأكسبه ثقة طهران التي بدأت تمدّه بالدعم اللازم، ليكون يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر تتويجاً لتحضيراته الطويلة. 

كان يحيى السنوار يمسك بورقة الرهائن بقوة، رافضاً عروضاً عديدة للتهدئة وإطلاق سراحهم، معتبراً أن إيران ستنفذ وعدها، وكان يؤكد لمحيطه بشكل قاطع على صدق طهران. إلا أن عزلته عن باقي قيادات الحركة اشتدت، وقطع اتصالاته بهم، مختبئاً في مكان بعيد عن متناول الجميع. وبسبب صعوبة الوصول إليه، باتت الرسائل تنتقل عبر وسطاء وتُكتب بخط اليد، مما أغضب قطر، التي شعرت بالإحراج من تصرفات “حماس” وهددت بإغلاق مكاتبها وطرد أعضائها من أراضيها بعد انتهاء الحرب. 

في تلك الأثناء، كان إسماعيل هنية، الذي اغتالته إسرائيل في طهران أثناء حفل تنصيب الرئيس الإيراني، قد التقى بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان محاولاً تأمين استقبال لأعضاء “حماس” بعد انتهاء الحرب. وأثناء اللقاء، عاتب أردوغان هنية لعدم إبلاغه بموعد الهجوم، فردّ هنية قائلاً: “نحن كالجميع، علمنا من الأخبار”. 

بعد اغتيال هنية، عُرض على خالد مشعل تولّي قيادة الحركة في الخارج، لكنه رفض متهكماً: “السنوار خربها، خلي السنوار يستلمها”. ومن شدة العزلة، لم يعلم السنوار أنه بات القائد الجديد إلا بعد أسبوعين من تعيينه. 

خروج السنوار إلى العلن، كان بعد اقتناعه بأن إيران لن تدخل الحرب، وأن الوعد الذي أخذه من طهران قد أُخلف، وبات يردد “لا يقاس الوفاء بما تراه أمام عينك، بل بما يحدث وراء ظهرك”. ظهر السنوار بعد أن وصلت إلى أذنيه أخبارا متأخرة عن مقتل نصر الله وقادة حزبه واجتياح إسرائيل لجنوب لبنان، وجاءت هذه الضربة بعد أن وصلت إسرائيل للعديد من قادة “حماس” وعلى رأسهم محمد الضيف – أحد العقول المدبرة للهجوم الذي شنه مقاتلو الحركة الفلسطينية على جنوب إسرائيل في السابع من أكتوبر. 

هنا اقتنع السنوار الذي غامر بغزة وأهلها وتعنت أمام حلول إنهاء الصراع مع إسرائيل، بأن إيران التي تخلت كلّيا عن “حزب الله” لن تدخل حربا مباشرة مع إسرائيل من أجله، لذا ترك كل ما خطط له حتى الرهائن، وطلب أن يقاتل من المسافة صفر، ليحقق على الأقل ما كان يقوله سابقا “أكبر هدية يمكن أن يقدمها العدو والاحتلال لي هي أن يغتالني وأن أقضي شهيدا على يده، أنا اليوم عمري 59 سنة، أنا الحقيقة أفضل أن أستشهد بالـ إف 16 على أن أموت بــ كورونا، أو بجلطة، أو بحادث طريق، أو بطريقة أخرى مما يموت به الناس”.  

كثيرا من الغزيين لا يترحمون على السنوار بل يرجمونه بدعوات السخط والكره محملين إياه مسؤولية ما جرى، وما جرى لم يكن قليلا، ما جرى هو احتفاظ الضفة بالتنسيق، ودمار القطاع حتى عقود قادمة. المهم الآن أن ترجيحات تذهب نحو تولي محمد شقيق السنوار مهام أخيه الراحل، وهو الرجل المعروف بالتصلب والفتك والعناد المضاعف، فلا يبدو أمام الغزاويين أمل لو حصل ذلك، وما لم تعد الحركة لتتحرك في إطار الدبلوماسية. 

وبالمحصلة الواضحة فإنّ الصقور كانوا يريدون استمرار حكم “حمـاس” بقوة مضاعفة ولو على حساب دماء مليون قتيل. فهل ورّط السنوار قطاع غزة وساقه إلى الإعدام أم كان بطلا ستذكره أجيال كثيرة؟ 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
أقدم
الأحدث الأكثر تقييم
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات