منذ أن بدأت الدراما المشتركة، أو ما يُعرف بـ”باي آراب”، سيما الدراما السورية اللبنانية بالظهور خلال السنوات العشر الماضية، بدأ حجم الدراما المحلية الخالصة بالتراجع، ليس لسبب وإنما لاستقطاب كبرى شركات الإنتاج لأشهر الممثّلين وأهم الكتّاب والمخرجين وتوظيفهم في فلك الدراما المشتركة.

لكن المؤسف وعلى الرغم من ضخ أموال كبيرة في هذه الأعمال وتحديدا الدراما السورية اللبنانية على طول السنوات الماضية، لم تلبِ حاجة ومتعة المشاهد، وإن حققت الأعمال الأولى شهرة واسعة وكبيرة، إلا أنها سرعان ما تراجعت وخمُد بريقها. كما وانخفض مستوى المشاهدين إلى أدنى مستوياته، خاصة في سوريا ولبنان، وبدا ذلك جليا خلال موسم دراما رمضان 2022 الماضي إذ اقتصر على عمليين يتيمين، وخلال موسم دراما رمضان 2023 الحالي على 3 أعمال فقط.

التساؤل المُلح يبقى إذاً، هل انحسار هذا النوع من الدراما لأن موضوعاته لا تتلاءم مع واقع هذا المجتمع في كلا البلدين؛ سوريا ولبنان اللتان تعانيان الآن من وطأة أزمات عدة سواء معيشية أو اجتماعية أو حتى سياسية، أو يمكن اعتبارها أزمة كتّاب أو اغترابه عن واقعه، أم أن القضية المعقّدة تكرسها عوامل أكبر من إمكانية تبسيطها. فأي واقع تتطرّق إليه المسلسلات المشتركة السورية اللبنانية، هل هو بلا هوية وبعيدٌ عن ما يحدث في المجتمع بكلا البلدين.

فوضى النص؟

خلال موسم دراما رمضان 2023، ثمة ثلاثة أعمال مشتركة؛ سورية لبنانية، لكن من الصعب التكهن بمدى نجاح هذه الأعمال من فشلها، خاصة أن هناك مسلسل واحد يحظى باهتمام المشاهد ويتابعه بترقب. يمكن البدء بالمسلسل الأقدم الذي لا يزال صامدا أمام باقي الأعمال، حيث ظهر الجزء الثالث منه في السباق الرمضاني الحالي رغم الانتقادات الكثيرة التي طالت الجزأين الماضيين وهو مسلسل “للموت 3”.

المسلسل من تأليف الكاتبة اللبنانية نادين جابر وإخراج اللبناني فيليب أسمر وإنتاج “إيجل فيلمز” المنتج جمال سنان. وتكمل قصة بطلتيه سحر و وجدان، وتدور أحداثها حول شابتين ريم وسحر، نشأتا في ظروف صعبة جراء تشردهما وعدم وجود عائلة لأي منهما، ريم واسمها الأصلي وجدان وسحر الشابة التي تعرضت للاغتصاب من والدها تعيش كل منهما في الميتم وتهربان منه للتخلص من الفقر والماضي، وتقومان بالاحتيال على الرجال الأثرياء، من أجل المال والثروة لحين زواجها من هادي الشاب الثري، وتبدأ بعدها الأحداث والصراعات.

تقدير نقدي حول المسلسل يرى أن معظم ما يُقدّمه المسلسل هو خليط من كل شيء. وكأن حبكته تتوسل لإرضاء الأذواق من المتابعين. إذ ثمة عالمان متناقضان؛ الحيّ الشعبي وفخامة الفيلا. لكن إنسانيتهما من الداخل تقريبا واحدة، وفق صحيفة “الشرق الأوسط“.

قد يهمك: زخم الدراما الرمضانية المشتركة.. غابت الرؤية فتسيّد التخبط؟ – الحل نت 

أحمد الزين بدور “عبد الله” الذي يعاني من مرض الزهايمر، ينقذ أولى حلقات المسلسل من فقدان سياق لقضية حساسة تمس الضمير الأعمق. والارتباك البشري الموجود فيه، مما يعزز المسلسل بثقل يمنعه من السقوط حتى الآن. على الضفة المقابلة، يتكرر موضوعان يكادان يصبحان طقوسا في الدراما المشتركة؛ الخيانة والمخدرات. كأنهما أمر مفروض بهذه الأعمال.

من خلال الانتقال التدريجي نحو محو الصور واختلاط الأزمنة، تنتقل شخصية “عبدالله” من التذكر المتقطع في الجزء الثاني إلى الشرود المؤلم في الجزء الثالث من “الموت”. وبينما تأخذ المطاردة مكانها في شوارع تونس، والسلاح أشبه بلعبة في يد النساء، تعيد شخصية “عبدالله” التأكيد على الارتباط بالواقع، ممسكة به مثل القشة التي ترفض التخلي عن نبل إنقاذ هواة النجاة بالرغم من ارتفاع الأمواج، وفق نفس مصدر النقد الفني.

الرأي ذاته اتفق عليه بعض النّقاد الآخرين، وكذلك آراء المتابعين الذين انتقدوا الجزأين الماضيين، واللافت أن الجزء الثالث لم يلقَ إشادة سواء من الجمهور أو الفنانين أو النّقاد. البعض يرى أن العمل منفصل عن واقع المجتمعات بالمنطقة وتحديدا سوريا ولبنان، وكأنه سيناريو فوضوي تائه. وهو ما بدا جليا خلال عرض العمل بجزئه الماضي وردود فعل المشاهدين الذين كانوا يطرحون أسئلة استفسارية على الكاتبة عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

القائمون على العمل يقولون إن الجزء الثالث يدور أحداثه في إطار درامي تشويقي مع الكثير من مشاهد الأكشن على غرار الجزء الأول والثاني، اللذين تعرّضا لانتقادات عديدة سواءً على مستوى الحكاية أو الأداء. المسلسل من بطولة الفنانتين اللبنانيتين ماغي أبو غصن ودانييلا رحمة، بالإضافة إلى عدد كبير من الممثلين السوريين، منهم، فايز قزق ومهيار خضور ويامن الحجلي. لكن الآمال تبدو أنها تتعلق بمسلسل “النار بالنار”، بطولة الفنانين السوريين عابد فهد وكاريس بشار، والفنان اللبناني جورج خباز، حيث يحمل العمل الكثير وقد يعيد المنافسة بين المسلسلات الدرامية المشتركة التي تجمع النجوم السوريين واللبنانيين.

دراما لم تثبت نفسها

نحو ذلك، مسلسل “وأخيراً”، تأليف أسامة الناصر وإخراجه، الذي يوضح ويظهر الوضع الاقتصادي المنقسم في لبنان، وتتحدث بداياته عن تقلّب سعر صرف الدولار وتدهور المعيشة بشكل غير مسبوق. أما القضية المركزية فتستند وتتمحور حول واقع مكتومي القيد ومعاناة المجرّدين من الأوراق الثبوتية. لكن العمل يركز أيضا على الرومانسية ولا يخلو من الإثارة والأكشن، وبالنظر إلى أن الجمهور اعتاد على هذا النوع مرارا وأنه لن يقدم شيئا جديدا لهم.

الثنائي، الفنان السوري قصي خولي والفنانة اللبنانية نادين نسيب نجيم، يلعبان دور البطولة في مسلسل “وأخيراً”، الذي هو من إنتاج شركة “الصبّاح أخوان”.

عدد من كتّاب الدراما والنقاد، يرون أن الدراما السورية اللبنانية لم تُثبت نفسها، ذلك لأنها تصدر صور نمطية معينة، وكأنها عرض استعراضي وليس إلا، فقد اعتاد الجمهور على ظهور فنان وسيم وسوري رفقة نجمة لبنانية جميلة، وبالتالي صارت الدراما في يد مستثمرين، وليس تعبيرا عن هوية مجتمع ما أو واقعه المأزوم بطبيعة الحال.

في الواقع هذه الأعمال أخذت طابعا تجاريا أكثر من كونه عملا فنيا، وشركات الإنتاج لا شك أن هدفها وميولها الأساسي هو جذب المزيد من المشاهدين، وليس تحقيق وإيصال رسالة ما، على اعتبار أن الفن هو رسالة. إلا أن معظم هذه الأعمال كانت بعيدة عن الواقع والنصوص كانت تسودها الملل من كثرة افتعال الأحداث والقصص الرومنسية وتصدير صور نمطية معينة.

بالعودة إلى الرأي النقدي في الصحيفة العربية، فمن خلال علاقتها بالأم المربية “وفاء طربيه”، تطلق نجيم شخصية “خيال” إلى بُعد عاطفي آخر، فيحلّ دفء يصيب الأحداث بالصدق. المُنتظر في الحلقات المقبلة، فضلا عن إخراج لائق لترسبّات النقص البشري من الأسفل إلى الأعلى.

يجيد قصي خولي تلبُّس شخصية ابن الحيّ الخارج من السجن، بمشاكله وانفعاله واعتياده الخناق والضرب. كلما لامست أدواره ما يجري على الأرض، فإنه يضيء. على الرغم من أنه ما عاد الموقف النقدي الأكاديمي يستطيع التصدي للضخ الكبير لشركات الإنتاج وأن الدراما المشتركة تبدو ضحية “ماكينة المال والنفوذ” كما في العديد من الأعمال السابقة، غير أنه من المبكّر تقييم ثنائيه خولي مع نجيم إلى حين انتهاء المسلسل وظهور الآراء النهائية حوله.

عمل يُنقذ باقي الأعمال؟

في المقابل، يبدو أن مسلسل “النار بالنار”، من تأليف الكاتب السوري رامي كوسا وإخراج السوري محمد عبد العزيز، وإنتاج “الصبّاح”، مختلف عن باقي الأعمال السورية اللبنانية من زاوية الطرح. الآمال يبدو أنها تتعلق بهذا العمل وهو من بطولة الفنانين السوريين عابد فهد وكاريس بشار والفنان اللبناني جورج خباز، حيث يحمل العمل الكثير وقد يعيد المنافسة بين المسلسلات الدرامية المشتركة التي تجمع النجوم السوريين واللبنانيين.

كما ويُعد العمل استثنائيا لكونه يروي الحكاية والعلاقة التاريخية التي تجمع بين سوريا ولبنان، سواء بطرق معبّدة أو غير معبّدة، ووعرة وشائكة عبر الجبال والأودية، كما يتناول العلاقات التي تربط بين الشعبين أدبيا وفنيا، وثقافيا، وجغرافيا وتاريخيا. كما ويتمحور حول وجود اللاجئين السوريين في لبنان، وتسليط الضوء على أوضاعهم المعيشية، وطبيعة علاقتهم باللبنانيين وما طرأ عليها من تحوّلات على مدار أكثر من 11 سنة. المسلسل وفق ما يقوله القائمون عليه إنه يقدّم قصة جديدة ويتناول مواضيع لم يجرِ تناولها سابقا من قبل الدراما السورية اللبنانية.

المسلسل يقدم عملا بصفته الهويّة الراهنة لشعبين متصاهرين بفعل الحرب أكثر مما هو بفعل التاريخ والجغرافيا. فالأزمتان السورية واللبنانية والتحولات الفردية داخل المجتمع الواحد جعلتنا ينظر المشاهد إلى هذا العمل بحلقاته الأولى على أنه نص مختلف عن المتداول عادة من الدراما السورية اللبنانية. 

من المبكر التوقف عند المبالغة في سلطة سوري على سكان حي لبناني. في المسلسل ما يشبه الناس وعراكهم اليومي مع أدنى حقوق الإنسان. هنا “عمران”، يؤدي دوره الفنان عابد فهد، بتلبّس لافت للشخصية، يقبض على مولدات الكهرباء ويتحكم بتشغيلها وإطفائها لزيادة التعرفة. يتبع اللبناني مسار عمل يحاكي يومياته مع الذل. ثمة مَن يدير اللعبة، والمسلسل يصور هذه النذالة. 

الحاكم بأمر الحي يحل ويربط في مسائل سكان المنطقة بحيث لا يشعر أنهم غرباء. يرى مشاهد الرشوة والفساد وجمع الخوات، تسير على قدمين. وفيما نشّالان على دراجة نارية يسلبان “مريم”، التي تؤديه الفنانة السورية كاريس بشار حقيبتها، فتُطيّب سورية، الفنانة هدى شعراوي خاطرها بالقول، “أهلا بكِ في لبنان”، يجد المسلسل مساحات واقعية أكثر عمقا بطرحه إشكالية المفقودين في السجون السورية منذ الحرب. قضية الجرح اللبناني.

أما شخصية “عزيز”، التي يؤديها، جورج خباز، فإنه يدرك أن الأمل يكاد يساوي صفرا، مع ذلك، يتقدم المعتصمين ويرفع صورة والده المفقود للمطالبة بعودته. بين ما يجري اليوم وما عمّقه تاريخ سياسي تتجهّم بعض صفحاته، شعرة؛ من المبكر الحديث عن طولها وعرضها. للحقيقة فحجم الواقعية في “النار بالنار” واثقة من نفسها.

في العموم، حتى الآن يتفوق “النار بالنار” على كل الأعمال السورية اللبنانية وعدد لا يستهان به من الأعمال الدرامية الرمضانية الحالية، فهذا المسلسل يجسّد واقع اللبناني والسوري الذين يبحثون عن أعمال ودراما تشبههم، شخصيات مأزومة من لحم ودم الواقع المتأرجح عرقيا وطائفيا واجتماعيا، فحكاية المسلسل ليست عبارة عن بلطجي سوري يتحكم برقاب قاطني حيّ شعبي، بل أنه يتمحور حول مدى فهم هذه الشخصيات ومن يتابعها لمرارته، وفق بعض الآراء.

لذلك يبقى التساؤل الأهم هل سيتمكن مسلسل “النار بالنار” من إنقاذ الدراما السورية اللبنانية من فشلها الذي سقطت فيه العديد من شركات الإنتاج دون الإقرار بذلك، وإذا حدث هذا فعلا، فهل ذلك يعود لتمكّن ومقدرة الكاتب والمخرج السوري معا، بالإضافة إلى ابتعاد العمل عن إظهار مفاتن الممثلات اللبنانيات، والتشبث بأداء الفنانين فقط.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة