“الجوع أو الركوع” ملامح جريمة التجويع في سوريا

“الجوع أو الركوع” ملامح جريمة التجويع في سوريا

(الحل) – استخدم النظام السوري سياسة “الجوع أو الركوع” الممنهجة خلال النزاع السوري، كجزء من استراتيجيته للقضاء على مناطق المعارضة بأكملها. تقوم هذه الاستراتيجية على إغلاق المناطق المحاصرة، ومنع الوصول إلى الغذاء وغيره من الاحتياجات الضرورية بما في ذلك المياه، الرعاية الصحية، الكهرباء، والغاز. إلى جانب ذلك هاجمت القوات التابعة للنظام السوري المخابز، المرافق الصحية، الأسواق، الأراضي والمحاصيل الزراعية بشكل ممنهج ومدروس، وقامت أخيراً بتقييد وعرقلة عمليات الإغاثة الإنسانية ومهاجمة كل من يحاول المساعدة.

بدء استخدام سياسة التجويع
قامت قوات النظام السوري بكتابة عبارة “الجوع أو الركوع” أولاً في حمص بالقرب من نقاط التفتيش. شهدت المدينة عام 2011 عنفاً شديداً قائماً على أسس طائفية، ثم تصاعد العنف عام 2012 عندما حاصرت قوات النظام حي بابا عمرو المعارض لها لمدة شهر كامل ولم تتركه إلا بعد أن تحول إلى أنقاض. بحلول شهر تموز من العام ذاته تكرّر الحصار والعنف في الأحياء الأخرى التي تسيطر عليها المعارضة، وشمل هذا الحصار ممارسات “التجويع” كأداة للضغط على المعارضة وكانت تتضمن قطع إمدادات الغذاء والمياه والكهرباء والغاز وخدمات النفايات والرعاية الطبية عن كل المنطقة، فضلاً عن فرص العمل والوصول إلى البنوك. كان هذا مصحوباً بهجمات عشوائية على الأحياء المحاصرة، مما أدى إلى توقف الحياة الاقتصادية تماماً. ولم يتحسن الوضع إلا في عام 2014 بعد سلسلة من المفاوضات والتي كانت نتيجتها تسليم الأراضي للنظام والتشريد الجماعي للسكان. ولابد من الإشارة هنا إلى أن الحصار لم يكن سياسة يتبعها النظام فقط، بل قامت أيضاً عدة جماعات مسلحة أخرى، ولا سيما تنظيم الدولة الإسلامية داعش وجبهة النصرة باتباع ذات الاستراتيجية. ولكن انتشار هذه الاستراتيجية بين هذه الجماعات كانت في حدود أقل كثيراً من النظام علماً أن هذه الجماعات كانت على قدر كبير من الدهاء أنها استغلت سياسة الحصار التي استعملها النظام ضد المدنيين لتجنيد عدد كبير منهم في صفوفها.

نزح ما يقارب نصف السكان (11 مليون نسمة) منذ بداية النزاع، منهم ما يزيد عن 6 ملايين نازح داخلي و 5.6 مليون لاجئ مسجل، كما قتل أكثر من نصف مليون سوري. في عام 2018، كان 13.1 مليون شخص (54 ٪ من السكان) في حاجة إلى المساعدة الغذائية؛ نصفهم تقريباً يعانون من انعدام الأمن الغذائي بشكل حاد.

الحصار كوسيلة حرب
إن الحصار من أكثر الاستراتيجيات التي استخدمها النظام والقوات المتحالفة معه طوال فترة النزاع والتي أثّرت على أكثر من مليون شخص في جميع أنحاء البلاد. أما عن نتيجة الحصار، فكانت تختلف بين مرة وأخرى، ففي بعض الحالات، أعاد النظام السيطرة على المنطقة المحاصرة بشكل كامل، وفي حالات أخرى تم تهجير جميع السكان والاستيلاء على الأراضي مما سبب التغيير الديمغرافي في المنطقة والذي يعد بحد ذاته جريمة تعاقب عليها القوانين الدولية.

وعلى صعيد آخر، خلقت حرب الحصار الطويلة فرصاً كبيرة لأولئك الذين استطاعوا كسر الحصار، وبالتالي جني الأرباح الهائلة. ولّدت الحرب الاقتصادية “اقتصاد حرب” مرتبط بالفساد وعقد الصفقات عبر الحدود، والذي سمح لأولئك الذين لديهم الأموال أو الذين يسيطرون على السلع الأساسية (الوقود والماء والغذاء) بتحقيق ربح هائل على حساب السكان المحاصَرين، ومن هنا بدأت تتشكل شبكة واسعة من المستفيدين من النزاع وتجار الحرب تشبه “المافيا” إلى حد كبير.

أما فيما يخص المساعدات الإنسانية، فقد مُنعت الجهات الدولية الفاعلة من الوصول إلى أكثر الفئات ضعفاً في سوريا. ورغم نشوء شبكة كبيرة من منظمات الإغاثة المحلية خلال النزاع وتلقي بعضها المساعدات من الوكالات الدولية والجهات المانحة، ولكنها كانت تعمل في ظروف خطرة جداً حيث أنها كانت مستهدفة دائماً من قبل قوات النظام. إن البيانات المتعلقة بالهجمات ضد العاملين في مجال المساعدات الإنسانية محدودة جداً وخاصة فيما يخص الهجمات ضد الموظفين الوطنيين أو المنظمات المحلية.

حصار الغوطة الشرقية
كما ذكرت آنفاً، تعرضت عدة مدن سورية للحصار خلال سنوات النزاع السوري، منها على سبيل المثال لا الحصر: الغوطة الشرقية، حلب، دير الزور، والزبداني. وسأخص بالذكر هنا حصار الغوطة الشرقية نظراً إلى أنه الأطول والأقسى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى يومنا هذا. لقد بدأت قوى النظام بحصار المنطقة في نيسان 2013 وقطعت إمدادات المياه والكهرباء. ومنعت في العام التالي حركة المرور المدنية، ولم يُسمح بإدخال أي مواد غذائية أو خدمات أساسية إلى الداخل عدا بعض السلع التي تم بيعها لسكان هذه المنطقة بأسعار عالية جداً. لا يوجد أي تأكيد إذا ما كانت القيادة العامة قد سمحت بإدخال هذه الإمدادات الغذائية أو إن كان دخولها نتيجة لفساد الضباط المسؤولين. ومن الجدير بالذكر أنه بالإضافة إلى منع المواد الغذائية من الدخول تم أيضاً إيقاف الإمدادات الطبية، وكان على السكان المحاصرين أن يتعاملوا مع المخزونات والمواد المنتجة محلياً في المنطقة. توقف التخلص من النفايات أيضاً، وشلّت الحكومة الحياة في الغوطة من خلال مهاجمة أي حركة بشكل عشوائي. لم يكن لدى الغوطة الشرقية خلال الحصار سوى طريقين للوصول إلى الخارج: الأول عبر معبر “الوافدين”، والذي كان مغلقاً بشكل دائم تقريباً، ولم يسمح إلا بحركة المدنيين وعدد قليل من السيارات المنتقاة، وكان تحت سيطرة قوات الدولة السورية من جهة وجيش الإسلام من جهة أخرى. أما الطريق الآخر فكان عبارة عن شبكة من الأنفاق التي تؤدي إلى ضواحي دمشق كالقابون، تشرين، وبرزة، والتي تسيطر عليها مجموعات تابعة للجيش السوري الحر.

تعرض السكان المحاصرون في الغوطة الشرقية لهجمات جوية شملت قنابل برميلية وهجوم بالأسلحة الكيماوية في آب 2013. وتم قصف المستشفيات والمخابز وأماكن بيع الأغذية بشكل خاص مما يشير إلى وجود عزم وتصميم مسبق على إلحاق أقصى حد ممكن من الحرمان. ولزيادة حدة التجويع ولقتل إرادة الناس في المقاومة استهدفت القنابل والصواريخ أي مواقع يتصاعد منها دخان يدل على الطهي أو الخَبز. كما شنت قوات النظام الهجمات المكثفة على المستشفيات والمراكز الطبية. كل هذا من أجل حرمان الناس من أية وسيلة ضرورية لبقائهم على قيد الحياة.

رغم تواجد عدة مجموعات مسلحة في الغوطة الشرقية خلال فترة الحصار إلا أنه تم تقسيم السيطرة بشكل أساسي بين مجموعتين مسلحتين من المعارضة: جيش الإسلام وفيلق الرحمن (التابع للجيش الحر). سيطر جيش الإسلام على جميع جوانب الحياة في المنطقة الخاضعة لسيطرته بما في ذلك أعمال الشرطة وإنشاء المحاكم وتوزيع المساعدات في محاولة منه لتعزيز السيطرة واكتساب ولاء الناس. لم يُسمح للمنظمات غير الحكومية والجماعات ذات الانتماءات السياسية المختلفة بأن تعمل في المنطقة الخاضعة لسيطرة جيش الإسلام. أما في الجزء المتبقي من الغوطة الشرقية، اشترك الجيش السوري الحر الذي يمثله فيلق الرحمن بإدارة المنطقة الخاضعة لسيطرته مع المجالس المحلية المدنية وممثلي الحكومة السورية المؤقتة، المعترف بها دولياً. كانت الاشتباكات بين هذه القوات مستمرة خلال فترة الحصار مما أدى إلى قتل الكثير من المدنيين الأبرياء، هذا وقد انتشرت عدة شهادات من سكان الغوطة حول سوء معاملة المجموعات المسلحة للسكان، وعن سيطرتها الدائمة والمستمرة على المساعدات الإنسانية النادرة التي تدخل إلى المنطقة بصعوبة، لتأخذ حاجتها من الطعام والدواء قبل أن تبيع ما تبقى منها بأسعار باهظة لأهالي الغوطة مستغلة حاجتهم والقيود الصارمة التي فرضها النظام السوري على دخول هذه المساعدات، فكثيراً ما أوقفها بشكل جزئي أو بالكامل. وعلى سبيل المثال، لم يسمح النظام خلال النصف الأول من عام 2017 بدخول أية قوافل مساعدات تابعة للأمم المتحدة إلى الغوطة. من المعروف أن النظام السوري لم يكن سعيداً بوجود أي من العاملين ضمن الفرق والآليات التابعة للأمم المتحدة على الأراضي السورية إلا أنه كان مضطراً لاستقبالهم ليظهر أمام المجتمع الدولي بمظهر المتعاون، ولكن يبقى السؤال هنا هو ماذا قدم هؤلاء العاملين فعلياً سوى وجودهم في أفضل الفنادق في العاصمة دمشق، دون تقديم أية مساعدة تذكر للمدنيين في المناطق المحاصرة.

شدد النظام حصاره في أواخر عام 2017 وحتى شهر شباط لعام 2018 عندما سمح أخيراً لقافلة مساعدات تابعة للأمم المتحدة بالدخول بعد أن جردتها قواته من 3810 وحدات من المعدات الطبية، بما في ذلك الحقن وادوات القسطرة في الوريد والقفازات الجراحية المعقمة وأدوات التخدير والأدرينالين والأدوية المضادة للربو. تكرر الأمر في الشهر التالي عندما استولت القوات الحكومية على معظم المساعدات الطبية، مثل الأدوات الجراحية والأنسولين ومعدات غسيل الكلى وغيرها من اللوازم. حتى أن الأغراض التي سُمح لها بالمرور لم تصل جميعها إلى أيدي أولئك الذين كانوا في أمس الحاجة إليها. حيث تدل التقارير التابعة للأمم المتحدة أن أربعين شاحنة تم سحبها من دوما بعد القصف على المدينة قبل تفريغ كامل الإمدادات التي تحملها، كما غادرت عشر شاحنات وهي مغلقة تماماً، بينما تم تفريغ أربع شاحنات أخرى بشكل جزئي فقط.

لقد تدهورت الأوضاع في الغوطة الشرقية ووصلت إلى حد سيء جداً في عام 2017 وأصبحت كل السلع الضرورية للحياة تباع بأسعار خرافية إن صح التعبير، ففي شهر تشرين الثاني على سبيل المثال كان سعر الكيلوغرام الواحد من الخبز في الغوطة الشرقية يزيد بنسبة 1150% عن سعره في دمشق، في حين ارتفع سعر السكر بأكثر من 1000%. انتهى الحصار على المنطقة بعودة الغوطة الشرقية إلى سيطرة النظام السوري في آذار 2018 بعد حملة عسكرية دامية بمساعدة القوات الجوية الروسية.

التجويع في المعتقلات
انشق في كانون الثاني 2014 مصور الطب الشرعي الرسمي الملقب بالـ “قيصر” عن النظام آخذاً معه ملفاً يحتوي على 53,275 صورة فوتوغرافية تم التقاطها بين أيار 2011 وآب 2013، توثق عمليات التعذيب في مراكز الاحتجاز التابعة للنظام السوري تحت سيطرة فرع المخابرات العسكرية، فرع المخابرات الجوية، فرع الدوريات، وفرع فلسطين. تشير تقارير هيومن رايتس واتش إلى أن أكثر من عشرة آلاف حالة من هذه الصور قتلت بعد تعرضها للتجويع، فكانت الجثث في حالة هزال شديد حيث أن الأقفاص الصدرية وعظام الحوض بارزة بوضوح يدل على طول فترة الحرمان من الطعام والعلاج. هذا وقد قدم المحتجزون السابقون الناجون من المعتقلات شهادات على الظروف القاسية التي عاشوا فيها، كعدم كفاية الطعام، عدم وجود علاج طبي، التعرض للتعذيب الوحشي، المرض الناجم عن ظروف الحرمان الشديد، الاكتظاظ القاتل، ونقص التهوية، عدا عن الحالة النفسية والعقلية المضطربة نتيجة هذه الظروف.

ملاحقة المسؤولين ومحاسبتهم
يبدو أن هناك بعض التحقيقات والمقاضاة على المستوى الداخلي لمرتكبي جرائم التجويع ولكن هذه المحاسبة تركز فقط على ممارسات تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، ولا تشمل المسؤولين التابعين للنظام. ربما نحن عاجزون اليوم عن معاقبة هؤلاء ولكن لا بد أن نتوصل يوماً ما إلى إمكانية التحقيق مع الأفراد المسؤولين مباشرة عن الحصار والتجويع، وأن نقوم بمقاضاة كبار القادة البعيدين عملياً عن مسرح الجرائم، بعد إثبات تورطهم وأنهم السبب الحقيقي وراء ارتكاب هذه الأفعال الشنيعة. يمكن أن تتم الملاحقة القضائية اليوم من خلال رفع الدعوى القضائية على أساس “الولاية القضائية العالمية”، وهي أمر شائع حالياً في مختلف أنحاء العالم، وقد دعت لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن الجمهورية العربية السورية صراحة إلى ذلك كخيار عملي من أجل “تحقيق الإنصاف”. إن موضوع الارتكاز على الولاية القضائية العالمية مهم للغاية ومنتشر في قضايا تخص الجرائم المرتكبة في عدة دول ليس في سوريا فحسب، حيث تشير الإحصاءات الدولية إلى زيادة بنسبة 18% في عدد المشتبه بهم المدرجين منذ عام 2018 حول العالم، حيث تمت محاكمة 17 متهماً من مختلف الجنسيات، وتم إثبات 8 إدانات، وما زالت التحقيقات تجري بشأن 149 مدعى عليهم مشتبه بهم في 15 دولة.

المصادر:
تقارير عن: منظمة العفو الدولية، هيومن رايتس واتش، لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن الجمهورية العربية السورية، مؤسسة السلام العالمي

غالية مردم بك

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.