إيران تملأ فراغ الانسحاب الروسي من سوريا بسبب تأثيرات غزو أوكرانيا، أو أن إيران تسعى لإعادة تفعيل حضورها العسكري والسياسي في الملف السوري مستغلة الظروف الدولية والإقليمية. هي ذي فرضيات واستقراءات سياسية سادت مؤخرا داخل الملف السوري حيال ما يتعلق بالنفوذ الإيراني، ودور كل من إسرائيل وروسيا وتأثيرهما على ذلك النفوذ.

الضربات الإسرائيلية التي تستهدف مواقع عسكرية تتبع النفوذ الإيراني ما تزال مستمرة، وهي قد تكون أحد أشكال تبديد احتمالات الاستقرار في سوريا، لكن التأثير الأحدث يكمن في تبعات الغزو الروسي لأوكرانيا وما خلفه لانسحابات روسية جزئية من الأراضي السورية، وفق ما وصفته عديد التقارير الصحفية، وأكدته بعض التصريحات الرسمية.

العاهل الأردني، الملك عبدالله الثاني من الفراغ الذي تخلفه روسيا في سوريا، مشيرا إلى أن إيران “تملأ هذا الفراغ”.

وقال الملك عبدالله في لقاء مع برنامج “باتل غراوندز” العسكري التابع لمعهد هوفر في جامعة ستانفورد، والذي يقدمه الجنرال الأميركي المتقاعد، هربرت ماكماستر، إن ملء إيران ووكلائها الفراغ الذي تخلفه روسيا في سوريا قد “يؤدي إلى مشاكل على طول الحدود الأردنية”.

ويرى أن “الوجود الروسي في جنوب سوريا كان “مصدر تهدئة”، ولكن مع انشغال موسكو في أوكرانيا، فإن الأردن يتوقع “تصعيدا في المشاكل على الحدود”.

وأجاب عن سؤال حول إيران “نريد أن يكون الجميع جزءا من شرق أوسط جديد، وأن يمضي قدما، لكن لدينا تحديات أمنية. نشهد هجمات حدودية بشكل منتظم ونعرف من يقف وراء ذلك”.

تحركات إيرانية تزعج الروس

كثيرة هي أشكال الخلاف المحتملة بين الروس والإيرانيين في سوريا، وليس وحدها فقط مسألة الانسحاب الروسي من سوريا وملء هذا الفراغ بالنفوذ الإيراني هي التي قد تؤجج فعليا الخلافات الروسية الإيرانية داخل الملف السوري.

لقد أعيد مؤخرا طرح التساؤلات حول مساعي طهران لإضعاف الوجود الروسي في الملف السياسي بسوريا، ولتبقى التحركات الإيرانية محط التساؤل دون التأكيد على قدرة إيران الكاملة على منافسة روسيا لاسيما في ظل الضغوط الإقليمية والدولية الرافضة لأي دور إيراني في المنطقة أو في سوريا على وجه التحديد.

الكثير من التساؤلات دارت حول معاني تحرك إيران لخلق دور وساطة بين أنقرة ودمشق من أجل تأسيس مسار علاقات جديد بين الطرفين، ما يعني بأي حال من الأحوال أن تحرك إيران يأتي بمعزل عن روسيا. ويبدو أن التحركات الإيرانية ستستمر بمعزل عن روسيا لإقناع أنقرة بحل مشاكلها الأمنية مع دمشق، إلى جانب المساعي الخفية التي تقف وراء أهداف طهران من أجل حل المشاكل الأمنية بين أنقرة ودمشق.

مطلع الشهر الجاري تنقل وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، على خط أنقرة-دمشق، مبديا نية بلاده لعب دور “الوساطة” بين أنقرة ودمشق، في خطوة لم يسبق أن تم الإعلان عنها في السابق.

ويثير الموقف الإيراني تساؤلات عن الهدف الذي تسعى إليه طهران من لعب هذا الدور، الذي لطالما ارتبط بموسكو خلال السنوات الماضية، كونها تشترك بعلاقات “طيبة” مع أنقرة من جهة، وتعتبر أحد أبرز حلفاء الأسد من جهة أخرى.

إلى جانب المساعي الإيرانية لملء الفراغ الروسي، تبرز مسألة الوساطة الإيرانية بين دمشق وأنقرة كنقطة خلافية جديدة بين طهران وموسكو، لاسيما وأن الأخيرة لن ترى ضيرا في تحجيم الوجود الإيراني الذي بات يزعج العديد من الدول الإقليمية وفي مقدمتهم إسرائيل التي تنسق عمليات الغارات الجوية على سوريا مع روسيا.

هناك العديد من المشاكل بين الروس والإيرانيين، وكان هناك توجس روسي كبير من التحركات الإيرانية على مستوى التغيير الديموغرافي على الأرض السورية، وكانت هناك أيضا خلافات غير معلنة وغير مباشرة بين إيران وروسيا، والتي ربما تكون قد تعاظمت لاحقا، بعد تنامي الميليشيات الإيرانية وتوسعها بشكل كبير، فضلا عن التحركات السياسية الأخيرة لإيران في الملف السوري، وبالتالي هذا ما يقلق الجانب الروسي، وفق حديث الباحث السياسي، وليد شعبان.

قد تكون إحدى أهم الخطوات التي أظهرت وكشفت هذه الخلافات، هي بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، وأيضا عندما لوحت إيران وبعض الدول الأخرى مثل فنزويلا لدول الغرب لتصدير نفسها، كبديل لروسيا من حيث تصدير النفط والغاز إلى الاتحاد الأوروبي، كما وإيران مارست نوعا من الضغط في هذا الملف، وهي نقطة مهمة كشفت مدى الخلافات وتضارب المصالح بين الجانبين الروسي والإيراني.

ملفات متداخلة

بين منتصف نيسان/أبريل الماضي، وطوال شهر أيار الفائت، شنّت إسرائيل سلسلة غارات على مواقع وُجِدت فيها وحدات لـ”الحرس الثوري” الإيراني، والميليشيات التابعة لطهران من “فاطميون” و”زينبيون” و”حزب الله” في مناطق عديدة من سوريا في الجنوب ومحيط العاصمة دمشق والوسط والشمال الغربي، معظمها حصل نتيجة معلومات استخباراتية عن حلول بعض هذه الميليشيات مكان قوات روسية انسحبت من هذه المواقع وحلت مكانها قوات موالية لإيران.

حركة الانسحابات الروسية هذه تمت في شكل متواتر منذ اندلاع الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 شباط/فبراير الماضي، من بعض المواقع الصغيرة التي وجدت فيها القوات الروسية، أو من مواقع ليست أساسية بالنسبة إلى الدور الروسي العسكري والسياسي في بلاد الشام، إلا أن هذه الانسحابات تحصل أيضاً من بعض المواقع التي تعود أهميتها إلى أنها تضم مخازن أسلحة كبرى للجيش السوري، كانت موسكو قد زوّدت دمشق بها، والتي كان يقتصر الوجود فيها على بضعة عناصر من الشرطة الروسية، فوجود وحدات صغيرة فيها كان بمثابة رسالة إلى قوى خارجية بأنها تحت الحماية الروسية، حتى لا يتم استهدافها، سواء من إسرائيل أو التمركز فيها من قبل “الحرس الثوري” الإيراني.

أواخر شهر أيار/مايو الماضي نسبت محطة “سكاي نيوز عربية” إلى مسؤول في “البنتاغون” قوله إن “القوات الروسية تنفذ منذ أسابيع انسحابا تدريجيا من سوريا يشمل آلافا من وحدات المشاة وسلاحي الطيران والهندسة وبعضها من قاعدة حميميم الجوية”.

وفي 26 أيار/مايو، رد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف على هذه الأخبار بالقول لمحطة “آر تي”، “نحن هناك بناء على طلب الرئيس الشرعي للجمهورية العربية السورية، الحكومة الشرعية لذلك البلد. نحن هناك في حالة امتثال كامل للمبادئ المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة. ونؤدي المهام التي حددها مجلس الأمن في القرار 2254. وسنلتزم بهذا الخط في المستقبل أيضا”، لكنه رأى أنه “يتم تحديد أعدادنا (قواتنا) على الأرض من خلال المهام المحددة التي تحلها مجموعتنا هناك. والواضح أنه لم يعد هناك عمليا مهام عسكرية متبقية. لا تزال هناك مهام ضمان الاستقرار والأمن. ومن المهام العسكرية، تلك التي يحلها الجيش السوري بشكل مباشر بدعمنا. وفي إدلب، حيث لم يختفِ التهديد الإرهابي”.

لكن تصريح لافروف لا ينفي أن هناك انسحابات روسية تحصل، إلا أنه لم يشأ الدخول في تفاصيل تحديد العدد كما وصفه، إلا أن رصد تل أبيب هذه الانسحابات يتناول التفاصيل، التي يستند إليها الجيش الإسرائيلي لتنفيذ عملياته إذا كانت تؤدي إلى ملء إيران الفراغ.

لقد كانت عودة ملف ملء فراغ الانسحاب الروسي من سوريا عبر الميليشيات الإيرانية إلى الواجهة، من خلال تصريحات رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشورى الإيراني، وحيد جلال زاده، علامة مؤكدة على التغيرات الحاصلة على الأرض، رغم أنه ادعى بأن إيران أو الموالون لحكومة دمشق لم ينتشروا بعد أن انسحبت القوات الروسية من قواعدها، معتبرا أن التقارير التي تتحدث عن استبدال إيران بروسيا في سوريا “كاذبة”، وفق زعمه.

دلالات هذا التصريح، الذي يتشابه مع تصريحات إيرانية سابقة نفت عدة تطورات جرت على الأرض السورية رغم حدوثها فعليا، كان أبرزها تواجد قوات وميليشيات تتبع للنفوذ الإيراني، وهو أمر ادعت كذبا إيران في السابق عدم حصوله، هو احتمالية لتوسع النفوذ الإيراني على حساب الروس، لاسيما بعد الاعتراف الإيراني الأخير بوجود انسحابات روسية، فهل يكون هناك مستوى مرتفع من مواجهة خطر تمدد النفوذ الإيراني من قبل الدول الإقليمية والعربية، يبقى هذا السؤال الأبرز، إلى جانب فرضية عدم ارتياح روسي للتمدد الإيراني.

برزت في سوريا محطات هامة تدل على رغبة روسية في وضع إطار عام وواضح للنفوذ الإيراني، ومن هذه المحطات:
1- في شهر شباط/فبراير عام 2020 عقدت موسكو وطهران تفاهما من أجل وضع إطار عام للتحرك في سوريا، يضمن التوافق على نقل غرفة العمليات المركزية لـ”الحرس الثوري” الإيراني من مطار دمشق الدولي إلى كلية المدفعية في منطقة الراموسة غرب حلب، وعدم ممانعة روسيا للنشاط الإيراني على الأراضي السورية بشرط أن تحتفظ روسيا بقرار الحرب والسلم على الأراضي السورية.

2- فتح روسيا للأجواء السورية أمام الضربات الإسرائيلية بين الحين والآخر، وذلك بهدف استخدام هذه الضربات كورقة ضغط روسية على إيران من أجل ضبط تحركاتها في سوريا وفق الرؤية الروسية، وإظهار نوع من التوازن بين اللاعبين الإقليميين.

3- المرونة الكبيرة التي منحتها روسيا للفيلق الخامس في الجنوب السوري، والتي تصل أحيانا إلى حد مهاجمة أذرع محلية سورية محسوبة على إيران، وذلك رغبة من روسيا في الحفاظ على “تكتل سني” يقف سدا في وجه التمدد الإيراني، كنوع من التطمينات لتل أبيب التي تتخوف من تعاظم النفوذ الإيراني في الجنوب، إلا أن تلك الصدامات تبقى حتى اليوم محصورة بين الفاعلين المحليين ولا تتطور إلى مواجهات بين القوات الإيرانية والروسية الرسمية، مما يتيح المجال لضبطها، خاصة وأن روسيا لم تسعَ لإخراج الميليشيات الإيرانية من الجنوب بشكل كامل، بل تعمل على ضبط نفوذها فقط.

وعلى الأرجح فإن الاختبار الحقيقي للتعاون الروسي – الإيراني في سوريا لم يأتِ بعد، والحديث هنا عن ترتيبات الحل السياسي النهائي، والاشتراطات التي تضعها الجهات الدولية المؤثرة مثل أمريكا وإسرائيل وبعض دول الخليج، والتي تتضمن مطالب بإخراج إيران من سوريا مقابل رفع العقوبات ودعم إعادة الإعمار، إذ أن مدى التجاوب الروسي مع هذه المطالب من عدمه سيكون له الكلمة الفصل في تحديد شكل العلاقة بين الطرفين، بحسب ما أورده تقرير لمركز “جسور للدراسات”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.