منذ مطلع أيلول/ سبتمبر 2022 وحتى منتصفه، تراجعت قيمة الليرة السورية، فوصلت إلى ما بين  4500-4750 ليرة للدولار الواحد، في عموم المحافظات السورية، باستثناء مناطق شمال شرقي سوريا، حيث كانت أعلى بنحو مئة ليرة سورية. وفي الخامس من شهر تشرين الأول/ أكتوبر الجاري ارتفع سعر الصرف، ليصل إلى نحو 4870 ليرة للدولار الواحد، لكن أسعار الصرف في مناطق شمال شرقي سوريا، كانت أكبر وواصلت الارتفاع بشكل مهول، حتى وصل في يوم الـ12 من الشهر الجاري إلى أكثر من 5400 ليرة، فيما بقي سعر الصرف في العاصمة دمشق وعموم المحافظات السورية الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية، عند حدود 4950-5000 ليرة للدولار الواحد، والفارق بين هاتين المنطقتين كان كبيرا، أي بنحو 400 ليرة سورية، وهذا أمر دعا للتساؤل.

ضخ تريليون ليرة سورية

حسبما أفادت مصادر خاصة لـ “الحل نت”، فقد كشفت عن وجود عملية تلاعب بسعر الصرف تُدار من قِبل شخصيات تتبع القصر الجمهوري في دمشق، بغية سحب ملايين الدولارات من المناطق السورية عامة وتحديدا مناطق شمال شرقي سوريا، التي تعتبر غنية بالعملة الصعبة؛ لما فيها من تجارة للنفط وتواجد كثيف للمنظمات المدنية والشركات التجارية وحركة خروج ودخول هائلة من المغتربين الذين يدخلون عبر معبر سيمالكا/ فيشخابور الواصل بين إقليم كردستان العراق ومناطق “الإدارة الذاتية” لشمال شرقي سوريا، ويجلبون معهم مبالغ مالية كبيرة.

المصادر ذاتها، قالت لـ”الحل نت”، إن الشخصيات المسؤولة عن عملية سحب الدولار مقابل ضخ العملة السورية هم تابعين للقصر الجمهوري في دمشق وتحديدا رجال وسماسرة حسام القاطرجي (أحد تجار الحرب السورية)، يقفون وراء ارتفاع سعر الصرف مؤخرا.

المصادر الخاصة أردفت بأن “هناك أربعة مكاتب رئيسية للصرافة تابعة للقصر الجمهوري، وتقع هذه المكاتب في كل من دمشق واللاذقية وحلب وحمص، ويعلمون في السوق السوداء. التحكم الكامل بسوق الصرافة السورية في مناطق سيطرة دمشق ومناطق الإدارة الذاتية، يكون عبر سماسرة هذه المكاتب حصرا، وذلك عبر أساليب الضغط من قِبل أجهزة الأمن السورية ورجال القاطرجي، على أصحاب مكاتب الصرافة الصغار والذين يعدون أفرع للمكاتب الرئيسية هذه”.

في الربع الأخير من شهر أيلول/سبتمبر 2022، قام أصحاب هذه المكاتب بالضغط على المكاتب الفرعية لإعطائهم العملة السورية، وتحديدا فئة الألفي ليرة سورية والخمسة آلاف، مقابل سحب الدولارات منهم، وبالفعل جرى استبدال العملات، من خلال استخدام أساليب الضغط والقوة، الذين اعتادوا عليه منذ سنوات، وفق المصادر الخاصة ذاتها.

المصادر الخاصة أشارت إلى أن الشخصيات التابعة للقصر الجمهوري قد وزعوا قرابة التريليون ليرة سورية على محافظات حمص وحلب ودمشق واللاذقية، بالإضافة إلى مناطق شمال شرقي سوريا، حيث صُدر نحو 500 مليار ليرة منهم للمناطق الشمالية الشرقية، مقابل سحب ما يُقدر نحو 100 مليون دولار تقريبا، وهذا ما أدى إلى انخفاض قيمة الليرة، وخاصة في مناطق الشمال الشرقي.

علما أنه بالتزامن مع هذه العملية فقد خفّض مصرف سوريا المركزي سعر الصرف الرسمي إلى 3015 ليرة للدولار، ليكون أحد العوامل المساهمة في تدهور الليرة السورية، ويكون عاملا في عملية استبدال الدولار بالعملة السورية ما بين أفراد القصر الجمهوري وأصحاب مكاتب الصرافة.

ضمن هذا الإطار، يرى الباحث الاقتصادي والدكتور في العلوم المالية والمصرفية، فراس شعبو، أنه فيما يخص قيام ضباط القصر الجمهوري بهذه العملية، فـ”اليوم معروف أن سوريا لم تعد دولة مؤسسات، بل دولة ميليشيات وأفرع أمنية، وبالتالي فإن مسألة تدهور الليرة السورية لها عدة عوامل وأسباب، ولا جديد في هذا الموضوع سوى أن الليرة السورية خسرت العديد من حاملاتها بالتزامن مع التضخم العالمي”.

بالتالي، وفق راي شعبو الذي تحدث لـ”الحل نت”، فإنه قد يكون ضباط القصر هم من يقفون وراء هذا الأمر ولكن “كدولة سورية، دولة مافيوية”، من الممكن أن يكون هذا الأمر قد حدث بالفعل وساهم في تدهور الليرة.

حسام قاطرجي مع الرئيس السوري، بشار الأسد

بحسب شعبو، فإنه طالما أن مناطق شمال شرقي سوريا لا تزال تتعامل بالليرة السورية، فإن الطلب عليها أكبر من مناطق شمال غرب سوريا، وبالتالي قد يساهم ذلك أولا في رفع سعر الصرف مقارنة بمناطق دمشق، وثانيا، فإن مناطق دمشق تخضع لنفوذ قوات الأمن، وعملية تبديل الليرة بالدولار ليست بهذه السهولة والمرونة، مثل مناطق شمال شرقي سوريا، وبالتالي هذا الأمر يرجح أكثر بأن مبلغ 500 مليار ليرة سورية قد ذهبت إلى تلك المناطق حقا.

قد يهمك: القضية الفلسطينية خارج حسابات مصالحة “حماس” والأسد.. ما الدوافع الحقيقية لاستعادة العلاقات؟

لماذا ارتفع الدولار؟

عملية استبدال الدولارات بالعملة السورية التي قامت بها الشخصيات التابعة للقصر الجمهوري مع أصحاب المكاتب في شمال شرقي سوريا، دفعت إلى رفع قيمة الدولار أمام الليرة. إ دفع هذا الأمر بالعديد من تجار الصرافة إلى تبديل الدولار مقابل الليرة، خاصة أن المتحكمين بالاقتصاد وسعر الصرف لا يؤتمن لهم، فكان من الممكن أن يقوموا بنوع من المضاربة خلال أيام، ما يعني احتمالية “تكبد أصحاب مكاتب الصرافة لخسائر كبيرة”، بحسب المصادر.

يوجد في سوق صرافة مدينة القامشلي وعموم المدن من عامودا والدرباسية والمالكية/ديريك التابعين لمحافظة الحسكة، أكثر من 70 محال صرافة، قرابة أربعة محال رئيسية والباقي منهم يعدون محال صغيرة، تقريبا كل المكاتب الرئيسية تقع في القامشلي، وهي: “مكتب كاميران للصرافة، مكتب الحسن للصرافة، مكتب عبدي اخوان للصرافة، خيرات الجزيرة”، والأفراد العاملين فيها، يخضعون بشكل أو بآخر لرجال القاطرجي، وفق مصادر “الحل نت”.

بحسب أحد أصحاب مكاتب الصرافة، الذي تحدث لـ”الحل نت”، فإن متوسط صرف الدولار إلى الليرة السورية بالنسبة للمكاتب الصغيرة يتراوح ما بين 5- 8 آلاف دولار يوميا، بالإضافة إلى أن تجار العملة يصرفون حوالي 100 ألف دولار للتجارة بها.

أما بالنسبة للمكاتب الرئيسية، فيتراوح ما بين 50-60 ألف دولار يوميا، هذا بالإضافة إلى تجار العملة، الذي يقدر أحيانا بـ 400 ألف دولار يوميا. أما خلال أيام رفع قيمة الدولار أي بداية شهر تشرين الأول/ أكتوبر ولغاية الـ14 من الشهر نفسه، فقد صُرف أكثر من المبالغ المعتادة، حيث تهافت الناس إلى صرف ما بحوزتهم من الدولارات وذلك ظنا منهم أنهم يربحون من هذا السعر، مع العلم أن أسعار كل شيء ترتفع بالتزامن مع ارتفاع الدولار، ولا يعود بعد انخفاضه.

بالتالي، فإن قرابة 50 مليون دولار ما يعادلها 500 مليار ليرة سورية قد تم استبدالها بالفعل في مكاتب الصرافة بمناطق شمال شرقي سوريا، وهذه المبالغ ذهبت للقصر الجمهوري.

بعد منتصف شهر أيلول/ سبتمبر الماضي وحتى مطلع تشرين الأول/ أكتوبر، جالت مصادر “الحل نت” في أسواق الصرافة بمناطق شمال شرقي سوريا، وكان يتوفر فيها العملة السورية من فئة الخمسة آلاف بكثرة، لكن في منتصف الشهر الجاري فُقدت هذه الفئة من أسواق الصرافة، بالتزامن مع تراجع قيمة الدولار أمام الليرة، حيث وصل إلى نحو 5150 ليرة مقابل الدولار الواحد، ما يعني أن أصحاب المكاتب قد نجحوا في سحب الدولارات من المنطقة بالحد المطلوب، لذا بدأوا بخفض قيمة الدولار تدريجيا، مع العلم أن سعر الصرف بقي مستقرا عند 4900-5000 ليرة خلال هذه الفترة كلها.

مصادر “الحل نت” تأكدت من أن العملة الأكثر استخداما في هذه المناطق هي من هاتين الفئتين، علما أن هاتين الفئتين غير مستخدمتين بكثرة في المحافظات الأخرى وتحديدا في دمشق.

قد يهمك: ما الذي يتغير في المثلث الحدودي عند قاعدة “التنف” بسوريا؟

طباعة العملة السورية داخل سوريا

مصادر خاصة أخرى، قالت لـ”الحل نت”، إن العملة السورية باتت تُطبع في الداخل السوري منذ أكثر من 3 سنوات، وذلك بالتعاون مع ميليشيا “حزب الله” اللبناني، عن طريق جلب خبراء اقتصاديين من لبنان، وبأن العملة السورية وتحديدا فئة الألفين والخمسة آلاف تُنقل عبر الطائرات إلى مطار القامشلي الدولي، ويتم توزيعها تباعا إلى تلك المناطق.

ضمن هذا الإطار، يعتقد الباحث الاقتصادي، فراس شعبو، أن مسألة طباعة العملة السورية، ليس بالأمر المعقد، فاليوم أي تاجر عملة يستطيع طبع أية عملة يريدها، وخاصة إذا كان يملك مفاتيح وأسرار هذه العملة، وبالتالي “النظام السوري لديه كل هذه الأمور، هذا أولا”.

ثانيا، وفق شعبو، قد تكون تكلفة طباعة العملة السورية أكثر من قيمة الورقة النقدية نفسها، لذا يتم طباعة فئة الألفين والخمسة آلاف بشكل أساسي، وبالتالي “النظام السوري ضخ في الداخل السوري منذ خمسة أعوام كميات هائلة من العملة السورية، والعجز المستمر في الموازنات دليل على هذا الأمر، وهذا العجز يتم تغطيته عبر إصدار أو طباعة العملة السورية بكميات أكبر وهو ما يساهم في تدهور قيمة الليرة السورية بشكل كبير، وعلى الرغم من المشاكل الاقتصادية السورية، يقوم النظام باستخدام أسلوب طباعة العملة، وعليه قد يكون فعلا هناك طباعة داخلية للعملة السورية”.

قد يهمك: ما المخطط الذي ترسمه تركيا لشمال غربي سوريا؟

السيطرة على سوق الحوالات

منذ سنوات عديدة، قيّدت الحكومة السورية، حركة شركات الحوالات الداخلية، حيث تم تحديد قيمة الحوالات المرسلة من مناطق شمال شرقي سوريا إلى مناطق حكومة دمشق، حيث حدد خلال سنة 2019 و2020 بإرسال نحو 100 ألف ليرة سورية فقط يوميا وباسم شخص واحد فقط، في حين تم إغلاق المكاتب جميعها في عام 2021 وحتى بداية عام 2022 (بمناطق الشمال الشرقي)، ومن ثم تم السماح بفتح المكاتب ولكن ضمن المربع الأمني فقط في محافظة الحسكة وللشركات المرخصة عند دمشق. المبلغ المسموح به حاليا يقدر بنحو 500 ألف ليرة سورية يوميا، وهذه الاستراتيجية هي للحد من زيادة العملة السورية في مناطق دمشق من جهة، ولفتح الباب أمام سوق السماسرة بالسوق السوداء والسيطرة على سوق الحوالات الداخلية والخارجية قدر المستطاع في سوريا، الذين هم بشكل أو بآخر يعودون للمكاتب الرئيسية الذين هم تابعين للقصر الجمهوري.

تقرير صحفي لـ”تلفزيون سوريا” المعارض، أشار مؤخرا إلى أن “حزب الله” اللبناني يسيطر على سوق حوالات الدولار في سوريا، من خلال إدارته لشركة “الفاضل” للصرافة، والشركة بدورها تسيطر على سوق الحوالات الخارجية في المحافظات السورية عبر فروعها، وتَدخل عبر الشركة يوميا 5 مليارات ليرة سورية إلى مدينة حلب وحدها.

التقرير قال إن الشركة تدار من قبل “مقتدى بلوي” المنحدر من بلدة نبل في ريف حلب الشمالي، وشددت المصادر على أنه رغم أن شركة “الفاضل للصرافة” سورية ومرخصة، لكنها تتبع لـ “حزب الله” وتشكل مصدرا من مصادر تمويل عناصره الموجودين في سوريا.

شركة “الفاضل” للحوالات المالية تنشط في السوق السورية وتحديدا في حلب وتسلم الحوالات القادمة من الخارج لأصحابها بالدولار بغض النظر عن قيمتها في مخالفة واضحة وعلنية للمرسوم رقم 3 لعام 2020 الذي يمنع تداول الدولار من قبل المواطنين ويجرّم المخالفين. التقرير الصحفي أشار إلى أن مديري فروع الشركة في المحافظات كلهم من المقربين من “حزب الله”، ويرتبطون مباشرة بمدير الفرع الرئيسي مقتدى بلوي الذي ينسق بدوره مع مكتب الشركة في بيروت، واسمه “صراف الفاضل أو مكتب زين العابدين” ويديره فاضل بلوي.

مراسل “الحل نت”، جال في سوق الحوالات في القامشلي، وجميع شركات الحوالات الداخلية، أكدوا بأنه “من غير المسموح إرسال أكثر من 500 أو 300 ألف ليرة سورية إلى المحافظات الأخرى الخاضعة لسيطرة دمشق”، إلا أنه يوجد مكتب في مركز المدينة يعمل بالسوق السوداء، يُرسل مبالغ إلى دمشق ودون تحديد الكمية، حيث يسمح بإرسال حتى نحو عشرة ملايين ليرة سورية. المدهش في الأمر، أن المكتب غير مرخص في القامشلي ولكن يتم الاستلام عبر مكتبي “الهرم” و “الفاضل” سواء في دمشق أو حلب أو اللاذقية.

بحسب تقرير سابق لموقع “الحرة”، فإن هناك مكتب يُعرف باسم “المكتب السري” وهو مكتب مؤلف من عناصر في أمن الدولة، يقومون بجولات للابتزاز المالي تشمل حتى المحال متوسطة الحال في أسواق المدن السورية مثل مدينة حمص. وقد أَضفت تسمية “المكتب السري” بعض الغموض والالتباس حول تبعية المكتب الحقيقية، إذ كان للإدارة العامة للجمارك مكتب يحمل اسم “المكتب السري”، وكان يعمل بصفة رسمية لمكافحة عمليات التهريب الكبيرة والتحقيق فيها، لكنه على أرض الواقع كان يقوم بممارسات مشابهة، وهو ما دفع إلى الخلط بين المكتبين. إلا أن تقرير آخر لموقع “الجمهورية” أشار إلى أن “المكتب السري” التابع للقصر الجمهوري يعمل اليوم تحت اسم رسمي هو المكتب المالي والاقتصادي بإشراف مباشر من أسماء الأسد.

في تصريحات سابقة لموقع “الحرة” في 2020 كانت ثلاثة مصادر مطلعة قالت إن “أسماء الأسد؛ زوجة الرئيس السوري بشار الأسد، شكّلت منذ تلك الفترة لجنة تحمل اسم، استرداد أموال الفاسدين وتجار الأزمة، ولهذه اللجنة هدف واحد هو تحصيل الأموال التي جمعها عدد من المسؤولين ورجال الأعمال المصنفين على تجار الحرب، وذلك ضمن خريطة مرسومة”.

الخريطة المرسومة التي تسير فيها اللجنة والتي شكّلتها أسماء الأسد تندرج ضمن عمليات وصفتها المصادر بـ “التسوية”، والتي طالت عشرات من رجال الأعمال، كان على رأسهم رامي مخلوف، ومؤخرا محافظ ريف دمشق، علاء منير إبراهيم. وتسير الحملة التي تقودها “لجنة استرداد الأموال” بقيادة أسماء الأسد بشكل تدريجي وعلى فترات زمنية متقاربة.

قد يهمك: شركات الاحتيال في سوريا.. الأبعاد ودوافع الاستمرار

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.