“فيم تفكرين يا آية؟” هكذا يستقبلني موقع “فيسبوك” يوميا في مربع كتابة المنشورات. إنه السؤال الذي اعتدناه منذ دخل الموقع الأزرق حياتنا، واستطاع أن يأسر به مليارات المستخدمين لأكثر من عقد من الزمن. لسنوات طويلة منحنا ذلك السؤال حرية كتابة ما نفكر فيه بلا تفكير، لكن الوضع تغير مؤخرا.

خلال العام الجاري تعرض حسابي على “فيسبوك” للحظر عدة مرات، كانت الأولى عندما كتبت صديقة لي عن تعرضها للتحرش الإلكتروني بشكل مهين ويهددها بالخطر، فأخبرتها أن تبلغ السلطات لتقاضي هذا المشكلة. حُذف التعليق بعد دقائق من نشره، وحُظر حسابي لمدة 24 ساعة مع تحذير من تكرار الأمر.

توقفت عن استخدام ذلك اللفظ، لكن الحظر طالني للمرة الثانية بسبب كتابتي لتعليق أمزح فيه مع أصدقائي قائلة، “عقبال كل النسوان” في هذه المرة دام الحظر لمدة أسبوع، وعبثا حاولت مراسلة “فيسبوك” لأخبرهم بمراجعة المنشور، والتعليق بنفسهم ليفهموا أنه لا يتضمن إهانة، بل أمنية طيبة بالمرح والانطلاق لجميع السيدات، لكن لم تسفر مراسلتي لهم عن شيء، وأمضيت أسبوع “العقوبة” أراقب العالم الأزرق كشبح لا يستطيع التعليق أو التفاعل.

أمَّا الحظر الثالث فكان بسبب مشاجرة. بعد نشر أحد مقالاتي النسوية دخل أحدهم صفحتي لينهال عليّ سبابا مقذعا مهينا، ويخوض في شرفي بأحط وأقذر الشتائم الممكنة في سلسلة تعليقات لا تتوقف. ليس من عادتي أن أهين أي قارئ، لكن هذه الجرعة من السفالة فاقت تحملي، فكان ردي هو: “اضرب رأسك بالحائط يا جحش”. حُذف تعليقي بعد دقائق ووصلني التحذير المعتاد بأن حسابي كله قد يتعرض للإغلاق إذا واصلت هذه “الانتهاكات”، وفي المقابل لم يُقبل إبلاغي عن التعليقات المهينة التي طاردني بها هذا الشخص، ووصلتني رسالة بأن محتوى كلامه لا يتعارض مع معايير مجتمع “فيسبوك”.

صديقاتي حاولن مواساتي بعد هذا الموقف، وأخبرنني أنهن أصبحن يكتبن أغلب كلامهن مقطعا، تتخلله رموز وأرقام كي لا تُحظر حساباتهن، وهنا انتبهت لكلمات كثيرة مّت بي مشفَّرة مثل (الاغتصـ*اب، تحر*ش، انتها*ك، ج ن س، ختا.ن، عنـ،ف، فيمنـ،،ست)، بجانب تشفير الشتائم والعبارات الحادة، وهو ما كنت أظنه “موضة” لغوية ما، لكن اتضح أن ما حدث معي كان ظاهرة عامة، ولست الوحيدة التي تعرضت لها.

لم تحبنا “الكوميونيتي ستاندردز”

في مربع التعريف على صفحتها، كتبت صديقتي تعريفا عن نفسها لسنوات يقول، لم تحبنا “الكوميونيتي ستاندردز”. طاردتني تلك العبارة طويلا أتساءل عن المعنى الذي دفع صديقتي لكتابتها، حتى اصطدمت بنفسي بـ “الكوميونيتي ستاندردز” التي لم تحبني، وهي “معايير المجتمع” التي يفرضها “فيسبوك” على مستخدميه.

في سياسات “فيسبوك” يحظر على المستخدمين استعمال خطاب الكراهية والعنف والإساءة والتهديد، وتفرض عليهم قواعد أخرى متعلقة بعدم مضايقة الآخرين، بإرسال كثير من الرسائل أو طلبات الصداقة. لكن هل تطبق معايير المجتمع على الجميع.

منذ أن صعد الخطاب النسوي في بلادنا في السنوات الأخيرة، برز في مقابله خطاب عنف وكراهية ممنهج ضد المرأة، بداية من التعليقات العنيفة التي تؤازر المجرمين وتبرر للمتحرشين والقتلة، وتهين جميع النساء بلا تمييز، إلى منشورات بعض الشخصيات العامة التي تعيد إنتاج خطاب العنف ضد المرأة بمبررات دينية.

اقرأ أيضا: فرنسا تُطلق تطبيقاً يحمي النساء من التحرّش الجنسي في المهرجانات

في هذه الأجواء أصبح الإبلاغ عن محتوى المنشورات والتعليقات المؤذية والمحرضة ممارسة متكررة من النساء، في محاولة لتحجيم خطاب الكراهية الذي يستقطب آلاف الأشخاص ويشحنهم ضد قضيتهن، لكن المثير للاستغراب أن كثيرا من هذه البلاغات تم تجاهلها، بينما تعرضت النساء اللواتي يدافعن عن حقوقهن أو يهاجمن الجرائم لعقوبات إلكترونية متنوعة على “فيسبوك”.

مروة أحمد 30 عام تقول في حديثها لـ “الحل نت”، إنها قدمت شكاوي عدة إلى “فيسبوك” بسبب منشورات الشاب معاذ.ر، الذي اشتهر بمنشورات مهينة للغاية للنساء، وتحريضه على العنف ضدهن ومهاجمتهن في الشارع، وتصويرهن خلسة مع إشارات مهينة لأجسادهن. لم يتعرض حسابه لأي مشكلة واستمر في بث محتواه المروع لسنوات، لكنني أنا تعرضت للحظر وإغلاق حسابي بسبب تعليق ضد المتحرشين في جروب للسيدات.

الموقف نفسه تعرضت له خلود حسن 29 عام تقول لـ “الحل نت”، بإن “فيسبوك” عاقبها بالحظر لمدة أسبوع بسبب تعليق شتمت فيه المتحرشين، بعدها بدأت تضع رموزا وسط كلامها كله حتى لا يتم إيقاف حسابها. كلمات مثل تحرش واغتصاب وفيمنست أيضا أصبحت تُلتقط بسهولة وتصلني تحذيرات بشأنها، وكتبت ذات مرة لصديقي أخبره أن الحياة في أميركا أنسته الوضع في مصر، وحُظر حسابي بسبب هذا لسبب لا أفهمه.

من جهتها تضيف ماريان محمد 40 عام خلال حديثها لـ “الحل نت” بأنها كانت تمزح مع صديق لها عن الوضع المأساوي الذي تعيشه كنساء في مصر، وكتبت تعليقا من كلمتين عن الرجال المتحرشين، وفوجئت بحظر حسابها بعدها بدقيقة، وكأنها كانت خاضعة لمراقبة لصيقة على صفحتها الشخصية، تقول.

أمَّا شيماء عبد الله 31 عام، تقول لـ “الحل نت” بإنها كلما أبلغت عن المحتوى المحرض على العنف ضد النساء تجاهله “فيسبوك” تماما، لكنها حُظرت من التعليق والتفاعل لمدة أسبوع بسبب استعمال عبارة “متحرشين قذرين” على أحد الأخبار. نفس التجربة مرت بها سلمى يوسف 2 عام تقول لـ “الحل نت” إنها، تشاجرت مع أحدهم على أحد البوستات المتعلقة بالعنف ضد المرأة، وشتمها وشتم جميع النساء بأسوأ الألفاظ فشتمته أيضا. حظر “فيسبوك” حسابها خلال دقيقة، أمَا تعليقه فظل كما هو رغم إبلاغي عنه، وتضيف “ليلتها بكيت بحرقة لأنني شعرت أنهم تركوا الظالم وعاقبوني أنا”.

“فيسبوك” أصبح مستفزا جدا ومتحيزا ضد السيدات، وفق حديث أميرة الشريف 32 عام لـ “الحل نت” واستنتجت هذا الأمر من خلال ما يحدث معها ومع صديقات لها من حظر حساباتهم لأقل كلمة تمس الرجال، حتى لو ارتكبوا الجرائم، أمَا نحن فتنصب لنا المشانق. والبركة في “طنط توكل كرمان” بحسب تعبيرها.

تاريخ من التحيز والمخاوف

لم يكن تعليق أميرة هو الأول من نوعه خلال بحثي عن تجارب سيدات عن تحيز “فيسبوك” ضدهن. فعندما توَّلت الناشطة اليمنية الحاصلة على جائزة نوبل للسلام، توكل كرمان، منصبًا ضمن مجلس حكماء “فيسبوك” للإشراف على محتوى المنصة في الشرق الأوسط، هاجمها العشرات بضراوة متوقعين الكثير من التضييق على مستخدمي الموقع.

الهجوم الشديد الذي لاحق كرمان في أول أيام منصبها كان عائدا إلى كونها مقربة من تنظيم الإخوان المسلمين، الذي تدرجه بعض الدول العربية ضمن التنظيمات الإرهابية، بجانب انتمائها إلى تيار اجتماعي محافظ يخالف توجهات كثير من الشباب في عصر ما بعد ثورات “الربيع العربي”. مع تفاقم ظاهرة حذف التعليقات وحظر أصحابها، خصوصا من السيدات، ربط كثيرون بين هذا وبين توكل كرمان، وتساءلوا إذا ما كان لها يد في هذا الوضع المزري الذي تلمسه كثير من النساء في تفاعلهن اليومي على “فيسبوك”.

يمنح منصب توكل كرمان بين مجلس حكماء “فيسبوك” للإشراف على المحتوى، سلطة مراجعة منشورات بعينها لتحديد ما إذا كانت تبقى أم تُحذف من “فيسبوك” و”انستجرام”، أي أنها نظريا لها القدرة على حذف محتوى بعينه، لكن ماذا عن التعليقات. هل هناك استهداف ممنهج لتعليقات النساء، خصوصا النسوية منها، أو ما يمس الرجال خصوصا بأي نوع من الانتقاد. هل هناك سياسة ممنهج للتغاضي عن المحتوى العنيف وخطاب الكراهية بحق المرأة. لقد حاولت التواصل مع منصة “فيسبوك” لطرح تلك التساؤلات عليهم، دون جدوى.

إذا صدق أن هناك تحيّز من “فيسبوك” ضد النساء العربيات في نضالهن لأجل حقوقهن، فلن تكون هذه هي السابقة الأولى من نوعها، فقد سبق وأشارت بعض التقارير إلى كون “فيسبوك” يمارس تمييزا فعليا ضد النساء فيما يتعلق بإظهار إعلانات الوظائف، ما يجعلنا نفكر إلى أي حد يحاول العالم إسكات صوتنا كنساء.

لأكثر من عقد كامل احتل “فيسبوك” مساحة كبيرة في حياتنا، ووفّر لنا مساحة لنقول كل ما يجول بعقولنا، وأعطانا حرية لم نحظ بمثلها من قبل في مجتمعات متحفظة كمجتمعاتنا، وحين اندلعت ثورات “الربيع العربي” كان وسيلة التواصل الأولى بين الشباب، ولاحقا أداة للحشد، ثم منصة للاشتباك مع كل الأفكار والأيديولوجيات.

حتى غير المهتمين بالسياسة تعاملوا “فيسبوك” أشبه بمدونة يومية تؤرخ لحياتهم، وصور من ذكرياتهم، ويتحدثون فيها بحرية لا يتمتعون بها في حياتهم اليومية. كان “فيسبوك” صديقنا، لكن ربما ليس بعد الآن.

اقرأ أيضا: “التحرش”.. وسيلة جديدة للاحتيال والابتزاز بدمشق

لا يمكننا أن نخرج “فيسبوك” من حياتنا ببساطة، فهو منصة شديدة الأهمية للتواصل، والتوعية، وخوض نقاشات مجتمعية مهمة واشتباك ضروري بين جميع الأطراف. لكن بالنسبة لنا كنساء، علينا أن ننتبه للطريقة التي نكتب بها عليه، والاحتراس من تحيزه الملموس ضدنا، والسعي لتحسين الوضع. إنه قتالنا الأبدي محاولة النجاة من نظام مصمم للرجال، متسامح مع تفكيرهم، وينتظر أي هفوة منا ليعاقبنا.

“فيم تفكرين يا آية”. في الكثير جدا يا “فيسبوك”، لكنني لا أظنك تتحمل الإجابة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.