في أعقاب ارتفاع الأسعار في سوريا قبل أيام قليلة من شهر رمضان، حلّت حالة من القلق تطارد السوريين في الداخل، خاصة في المناطق التي تسيطر عليها حكومة دمشق، ذات الدخل المحدود للغاية، إذ بالكاد يُقدر بنحو 20 دولارا شهريا، وسط ارتفاع متسارع في الأسعار.

في خضم هذا الوضع المتدهور، وُجهت اتهامات عديدة لحكومة دمشق بأنها هي التي توفر المناخ لرفع الأسعار. ويتطلّع المواطنون ويدعو العديد من المسؤولين في “غرفة تجارة دمشق” الحكومة إلى زيادة الرواتب والأجور، على أمل أن ينتشلهم إلى حد ما من مأساة الغلاء الفاحش. ومع ذلك، فإن الحكومة السورية لم تستجب بعد لهذه الدعوات.

بالتالي تُثار تساؤلات حول هذا الارتفاع المهول في الأسعار، ولماذا تتهرب الحكومة السورية من مسؤولياتها تجاه المواطنين الغارقين في الأزمة الاقتصادية والتضخم الجامح، وهو في الأساس من فِعل الحكومة ونتيجة لمخططاتها الفاشلة وفساد مؤسساتها وسلوكياتها، وكذلك تساؤل حول تقاعس الحكومة السورية في رفع الرواتب والمداخيل وسط انهيار الليرة السورية أمام النقد الأجنبي.

دمشق وراء الغلاء؟

نحو ذلك، أكد عضو “غرفة تجارة دمشق” فايز قسومة، أن تجربة حكومة دمشق في تحرير الأسعار جزئيا “فاشلة”، وأن الغلاء وصل إلى درجة متقدّمة، مطالبا برفع الرواتب إلى مليون ليرة سورية، مضيفا في لقاء عبر إذاعة “ميلودي إف إم“، قبل يومين، إن تحرير الأسعار جزئيا تجربة باءت بالفشل والغلاء أصبح لا يوصف، لذا يجب أن تلجأ الحكومة إلى ما وصفه بـ “تكبير الاقتصاد، من خلال تأمين حوامل الطاقة وإنتاج أعظمي وتشجيع للصادرات لزيادة الرواتب بشكل متتال”، مشيرا إلى أنه يجب أن تُرفع الرواتب حتى مليون ليرة.

من وجهة نظر قسومة فإن الخطوات الحكومية ما زالت قاصرة ويجب إزالة العقبات أمام المستوردين ومحاسبتهم إن أخطأوا، ولكن الحكومة حاليا لا تستطيع محاسبتهم لأنها لم تعطِ الحلول السليمة للمستورد، معترفا للإذاعة المحلية أن سبب ارتفاع الأسعار هو البضائع التي تم سحبها من المستودعات في أثناء فترة الزلزال والتي كانت مؤونة شهر رمضان، وبالتالي هي من خلقت مناخ رفع الأسعار.

مع اليوم الأول من شهر رمضان ارتفع سعر لحم الخروف الحي إلى 36 ألف ليرة سورية أي نحو 6 دولارات، ووصل سعر الكيلو الهبرة إلى 100 ألف ليرة بعدما وصل هذا الحد الشهر الماضي ثم انخفض إلى نحو 80 ألف ليعاود الارتفاع من جديد مع دخول رمضان، فقد وصل إلى 120 ألف ليرة في المولات، وفي المقابل وصل سعر كيلو لحم العجل إلى 75 ألف ليرة، بينما انخفض سعر صدر الدجاج من 42 ألف ليرة إلى 35 ألف ليرة، وفق تقارير محلية.

الموائد السورية اعتادت على “تبييض اليوم” في اليوم الأول من شهر رمضان، وتعني أن تبدأ العائلات السورية إفطارها في أول أيام الشهر بإعداد أكلة تحتوي على اللبن، مثل “الشاكرية والكوسا بلبن أو الكبة بلبنية” وغيرها من طبخات كان السوريون يبدؤون بها شهر الصيام.

السوريون يقولون إن هذه الأكلات غابت عن إفطارهم، نظرا لغلاء الأسعار بشكل كبير ولا سيما اللحوم، وأن رواتبهم ومداخيلهم لا يخوّلهم لشراء هذه المواد، وبالتالي صار المواطن أمام واقع مرير، فتارة تتقلص قيمة مداخيله وتتدنى قدراته الشرائية، على إثر تراجع قيمة الليرة السورية والفقر والعوز يتفشى في العديد من المحافظات السورية. وتارة أخرى، ليس أمامهم سوى القبول بالواقع والرضوخ له، أي استهلاك الأطعمة ذات الأسعار المنخفضة، مثل “الجزمز” و”المجدرة” و”المعكرونة”.

قد يهمك:  انتعاش الأسواق السورية.. ما السر وراء حركة “الميركادو” المريبة؟ – الحل نت

الخبراء يقولون من جهتهم إن حكومة دمشق مفلسة، وغير قادرة للتصدي لتراجع الليرة أمام الدولار، حيث إن ميزانيتها شحيحة، وبطبيعة الحال هي حكومة متداعية، فحتى لو وضعت خطط مستقبلية جيدة، إلا أن إمكانياتها غير قادرة على تنفيذ واحدة منها، فضلا عن حالة الفساد المستشري بين مؤسساتها، والتي تهضم معظم موازنات الدوائر الحكومية.

قرارات حكومية فاشلة

بالعودة إلى عضو “غرفة تجارة دمشق”، قسومة، فإنه يقول عند الاستيراد، يسدد التجار لـ “منصة تمويل المستوردات” التي أنشئت في العام الماضي، ما هو مطلوب وعندما تصل البضائع لا تكون قد صدرت الكلفة الحقيقة “لأننا لم نكن قد حوّلنا ثمن البضاعة، بالتالي التجار يقومون بالتحوط الشديد الذي بدوره يؤذي التاجر والمستهلك معا”، على حد تعبيره.

قسومة يرى أن المنصة “تحولت إلى عملية مؤذية، أما اليوم فالمنصة مديونة بأكثر من 500 مليون دولار وبالتالي أثبتت فشلها، ولم تستطع الحفاظ على سعر الصرف وما نتج عنها هو حجب الليرة السورية من الأسواق”.

قسومة شدد على أن رفع الأسعار “ليس له علاقة بزيادة الرواتب. فقبل أن تعطي الحكومة منحة الـ 100 ألف، كانت قد رفعت قبلها أسعار لتر المازوت والبنزين، وبالتالي الحكومة هي من بدأت بجمع المنحة للموظف من مكان ثاني، والتاجر لا يبيع أكثر مما يسمح به السوق وحاجته لأن السوق يجب أن تقوده الحكومة والمجتمع الأهلي”، على حد وصفه.

كذلك يشير إلى أنه لم يعد هناك انخفاض أسعار بالمطلق، والسبب هو غياب المنافسة وقلة المستوردين الكبار والصغار، والجاهل يعتقد أن هناك حيتانا تسيطر على المصالح ولكن ما يحدث هو بيع البضائع بالسعر الذي يريد وخوفه من الخسائر أيضا.

قسومة ليس الوحيد الذي طالب برفع الرواتب والأجور وإنما العديد من أعضاء “مجلس الشعب” السوري، طالبوا بذلك خلال الفترات الأخيرة، كي تتناسب مع غلاء أسعار السلع والخدمات ووصول معدلات التضخم إلى أرقام قياسية. كذلك، قبل أيام قال رئيس “جمعية حماية المستهلك”، عبد العزيز المعقالي في حديث لصحيفة “الوطن” المحلية، إن “مَثَل الجوع كافر أصبح ينطبق على واقع عشرات الأسر ويدفع بعض أفراد المجتمع نحو مسالك غير صحية تؤثر في النسيج الاجتماعي”، وأوضح المعقالي أن بعض الأسر أصبحت تشتري البطاطا بالحبة، داعيا “وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك” لطرح سلة غذائية تناسب حاجات المستهلك وإمكاناته خصوصا في ظل فوضى الأسعار الحالية.

المعقالي أيضا طالب برفع الرواتب والأجور في القطاعين العام والخاص، وقال “إن رفع الرواتب أصبح حاجة وليس ضرورة في ظل انعدام القوة الشرائية نتيجة ضعف الرواتب والأجور”. وطالب الحكومة بإيجاد “الحلول المناسبة لتطبيق ذلك وليس اللجوء إلى الحلول الترقيعية”.

لكن بالنظر إلى الواقع السوري، يبدو أن الحكومة لا تملك قدرات لهذه الزيادات فهو لا تكاد تعتاش على حوالات المغتربين لزيادة حركة السوق والاقتصاد بالبلاد، فضلا عن نهبها وسرقتها للمساعدات الإنسانية الدولية، التي أظهرت صحة ذلك العديد من التقارير الحقوقية الدولية.

المواطن ضحية الحكومة

في المقابل، تزداد الأوضاع المعيشية في سوريا سوءا يوما بعد يوم، مؤخرا ومع اشتداد أزمة المحروقات في البلاد، ارتفع أجور النقل والمواصلات بشكل كبير، لدرجة أن تكاليف النقل للذهاب إلى العمل باتت متساوية لقيمة راتب الموظف الحكومي، وفقا لموقع “أثر برس” المحلي.

الخبراء في الجدوى الاقتصادية أوضحوا، أن دراسة الجدوى الاقتصادية لأي عمل يقوم به الإنسان البسيط تقوم على دراسة المنفعة من هذا العمل، ويقوم بالدراسة قبل الفعل وبعد تنفيذه، وتساءلوا “ما هي المنافع هل هي أقل أو تفوق أو تساوي التكاليف وبناء عليه يتم اتخاذ القرار”،  ومن ثم ما فائدة العمل إذا كان مردود العمل ضئيلا جدا، وهنا يضطر الموظف إلى ترك العمل أو البحث عن بدائل أخرى وتفضيل الجلوس في المنزل على العمل بوظيفة تكاليفها المادية تساوي المدخول أو أكثر منه.

خلال الأشهر الستة الماضية شوهد تدهور كبير في سعر الصرف، وعدم قدرة الحكومة السورية على استيراد شحنات النفط بنفس الوتيرة السابقة، وتحديدا في شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، ثم عاد وتحسّن نسبيا في كانون الأول/ديسمبر الفائت، وهذه كلها أسباب تعكس مدى تدهور الوضع الاقتصادي للحكومة السورية.

المراقبون الاقتصاديون يقولون إن بقاء الرواتب على حالها في سوريا وخاصة رواتب العاملين في القطاع العام، سيرفع من معدل التضخم بشكل أكبر في البلاد، وبالتالي سترتفع نسبة ترك العمل بين موظفي القطاع العام، لا سيما أولئك الذين يعملون في أماكن ليست في الواجهة، أيّ غير قادرين على تحصيل موارد ومنافع جانبية، بما في ذلك “الرشاوى”.

على سبيل المثال، الموظفون الذين يعملون في وزارة الصناعة ومن في حكمهم، غير قادرين على تدبير معيشتهم بهذه الرواتب الضعيفة التي لا تتناسب مع الواقع المعيشي، وبالتالي سيميلون إلى ترك العمل، وقد حصلت حالات سابقة وستزداد وتيرة هذا الأمر لاحقا.

مع بداية العام الجاري 2023، ارتفع متوسط تكاليف المعيشة في سوريا إلى أكثر من 4 ملايين ليرة سورية لعائلة مكونة من خمسة أفراد، بعد أن كان في نهاية شهر أيلول/سبتمبر الماضي أكثر من 3.5 ملايين ليرة سورية، في حين يبلغ متوسط دخل المواطنين ما بين 165-250 ألف ليرة سورية، بحسب دراسة نشرتها جريدة “قاسيون” المحلية.

يبدو أنه ليس ثمة حلول تلوح في الأفق في هذا الدرك المظلم الذي يمر به السوريون اليوم، بل ويزداد أوضاعهم المعيشة سوءا، خاصة وأن حكومة دمشق غير مبالية بهذا الوضع وباتت تتصرف مع الدول وكأن “الأزمة انتهت” والوضع في سوريا بخير، صحيح أن مستوى العمليات العسكرية تضاءلت ولكن يبدو أن حربا اقتصادية ونفسية كبيرة تتحضر ليكون بمواجهة من بقي في سوريا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.