صعود على سلم الدبلوماسية الإيرانية، مارسه مؤخراً سكرتير مجلس الأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، من حضوره للاتفاق السعودي الإيراني في بكين، إلى زيارات دولية كالإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان والعراق. وفي المقابل، انكفاء وزارة الخارجية عن هذه المهام، مما أثار التساؤل عن سر غياب وزير الخارجية عن زيارات من صلب مسؤولياته.

لم يكن غياب الوزير الإيراني عن الاتفاق السعودي الإيراني برعاية صينية، والذي تم توقيعه في العاشر من آذار/مارس الماضي، مستغربا. فالاتفاق جاء تتمة لمباحثات عقدها مسؤولون أمنيون من الجانبين، على مدار العامين الماضيين في العراق وعُمان.

في التاسع عشر من آذار/مارس الماضي، زار شمخاني بغداد، التقى خلال زيارته برئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني. ووقع خلال الزيارة، اتفاقاً أمنيا مع مستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي، تعهدا بموجبه بتعزيز التعاون الأمني على طول حدودهما.

لا غرابة أيضاً في ذلك، فالاتفاق أمني، وقد يمثل الأمنيون دولهم في هذه الاتفاقات. لكن ما أثار الاستغراب والتساؤل أيضا، غياب الوزير المختص عن زيارات قام بها شمخاني لكلا من سلطنة عمان ودولة الإمارات، وتكرار زيارته لدولة العراق، التقى خلالها رئيس البرلمان العراقي، محمد الحلبوسي، ورئيس السلطة القضائية، فائق زيدان.

في المقابل، يصر وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان علناً على أن جميع مؤسسات الدولة على نفس الصفحة، إلا أن القليل منهم مقتنعون، ففي تغريدتين، بالفارسية والإنكليزية، على حسابه على موقع “تويتر”، كتب الوزير عبد اللهيان “تتم زيارة الأدميرال شمخاني إلى الإمارات والعراق في إطار العلاقات الأمنية القائمة. إنها ليست ظاهرة جديدة. ممثل وزارة الخارجية يرافقه في رحلاته. هناك تنسيق في السياسة الخارجية. كل شيء في إطار النظام وتحت إشراف رئيس الجمهورية. هناك تنسيق. دع الأعداء يعرفون”.

إثبات عضويته بعد الحديث عن إقالته

تكرار الانسجام أو التنسيق في تغريدة عبد اللهيان أثار حفيظة المراقبين، حيث فسروا ذلك بالتوتر لدى الوزير الإيراني.

في حديثه لمراسل وكالة “إرنا” قبل مغادرته طهران، قال أمين المجلس الأعلى للأمن القومي: “إن وجهة نظر الحكومة الثالثة عشر حكومة الرئيس إبراهيم رئيسي بشأن التعاون الإقليمي التي تم اتباعها في إطار الدبلوماسية المجاورة هي إنشاء “منطقة قوية”. معتقدا عجز جميع دول المنطقة عن تحقيق الاستقرار والأمن الدائمين “إلا من خلال محاولة إنشاء منطقة قوية”.

وبخصوص زيارته للإمارات، وفقا لما أورده موقع “نور نيوز”، قال الناطق باسم مجلس الأمن القومي الإيراني، “هناك العديد من القواسم المشتركة الاقتصادية والسياسية والأمنية بين البلدين، والتي تحتاج إلى مواصلة لتعزيز التشاور المستمر بين كبار المسؤولين في إيران والإمارات العربية المتحدة”.

فالزيارة التي رافقه فيها رئيس البنك المركزي الإيراني ورئيس وكالة الاستخبارات الخارجية التابعة لوزارة الاستخبارات، ومساعد وزير الخارجية لشؤون دول الخليج العربي، “بداية ذات مغزى للبلدين لدخول مرحلة جديدة من العلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية”.

ويأتي ذلك في الوقت الذي أثارت فيه محادثات علي شمخاني الأخيرة في الصين لاستعادة العلاقات مع المملكة العربية السعودية، ومن بعدها الزيارات المنوه عنها، تساؤلات حول دور وزارة الخارجية في الدبلوماسية الإيرانية، وعن دور شمخاني الذي تناقلت بعض المواقع أخبار غير رسمية، حول إمكانية تغييره، خصوصا بعد عملية إعدام علي رضا أكبري بتهمة التجسس، وهو الذي كان نائبا لشمخاني مع علاقة جيدة به.

وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان
وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبداللهيان

أستاذة العلوم السياسية جامعة “بنى سويف”، والخبيرة في الشؤون السياسية الصينية والآسيوية، ناديا حلمي، ترى أن ممارسة شمخانى للعديد من ملفات السياسة الخارجية الإيرانية ركيزة دستورية الإيراني، باعتباره أمينا لمجلس الأمن القومي الإيراني، والذي يتولى مهام تحديد سياسات الدفاع والأمن القومي وتنسيق الأنشطة السياسية والمخابراتية والاقتصادية المتعلقة بأمن البلاد، مع مواجهة التهديدات الداخلية والخارجية.

 لا تغفل حلمي، في حديثها لـ”الحل نت” الإشارة لثقة المرشد بشمخاني وأصله العربي، الذي يدحض سرديات اضطهاد الأقليات وفق المنظور الإيراني، مع ما يعطيه أفضلية للتفاوض مع دول الجوار العربي ومنها السعودية. وقد كان أول وزير دفاع “للجمهورية الإسلامية الإيرانية” يزور المملكة، ووقع معها الاتفاقية الأمنية، والتي أشار لها بيان الاتفاق في بكين.

كما حصل على وسام الملك عبد العزيز، نتيجة دوره في تحسين العلاقات بين البلدين. بالإضافة لاحتسابه على التيار الإصلاحي، الأقل تشددا في إيران، وتقلده عدد من المناصب الرفيعة داخل الأجهزة العسكرية والاستخبارية. مما جعله على إدراك كامل بالإستراتيجية الإيرانية في المنطقة، وهو إدراك مطلوب في الحراك الدبلوماسي الإيراني الأخير.

رغم الردود الفعل الإيجابية على الاتفاق الإيراني السعودي في بكين، سؤال مهم أثار الشارع الإيراني، حول سبب عدم إبرام مثل هذا الاتفاق المهم من قبل وزارة الخارجية.

فيما وقعه أمين المجلس الأعلى للأمن القومي، والذي كان من المفترض أن تتم إقالته من أمانة المجلس لأسباب مختلفة، حسب صحيفة “آرمان ملي”، رغم عدم تأكيدها من قبل أي مسؤول. ولكن قيادته للمباحثات مع الجانب السعودي، أوقفت التغيير حتى ينهى شمخاني مهمته، وقد انتهت. ومع ذلك، اتخذت القصة شكلا آخر، بزيارة شمخاني لأبو ظبي وبغداد.

لولا شمخاني لما استطاع النظام الإيراني إعادة علي رضا أكبري إلى إيران، بعد مغادرتها إلى المملكة المتحدة، حسب الباحث المشارك في “المنتدى العربي لتحليل السياسات الإيرانية”، مصطفى النعيمي. وقد أورد شقيق أكبري في مقابلته مع “بي بي سي”، أن شمخاني اتصل برضا وطلب عودته لمناقشة بعض القضايا. ولوضع الأمر في سياقه، لابد من التنويه إلى أن أمين عام مجلس الأمن القومي الإيراني، يعتبر أحد نجوم الفضاء السياسي الإيراني، وما أثير عن تغييبه عن هذا الفضاء، كانت تكهنات غير واقعية.

في حديثه لـ”الحل نت”، بيّن النعيمي، أن زيارات شمخاني الأخيرة تظهر مساعي لتحجيم بعض الأجنحة السياسية والعسكرية الإيرانية، ومنها “الحرس الثوري” ووزارة الخارجية، المحسوب وزيرها على الحرس. وهذا الأمر، أحد المتغيرات التي تلجأ لها طهران حين اضطرارها لتهدئة محدودة في مواجهة “الخصوم”، دون أن يعني ذلك أنها تتخلى عن مشروعها الخارجي وأهمية تأثيره على المسارات السياسية، أو فرض رؤيته على من تصفهم بالخصوم.

إصلاح الفشل باب مقفل

وجود شمخاني في كشف المعادلات الإقليمية المعقدة، وكشف معه قصور أداء وزارة الخارجية. فحتى لو لم يكن هناك خلاف بين مجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية، وأن كل شيء يتم بإدارة رئيسي وبالتنسيق مع الخارجية، حسب تغريدة عبد اللهيان، فإن هذه الزيارات ترخي بظلالها العملية على وزارة الخارجية عمليا بهذه الأحداث. كما كان أداء وزير الخارجية السابق، محمد جواد ظريف، وسماته الشخصية، التي لا تسمح لشخص أو كيان آخر بالقيام بواجباته في الوزارة.

هنا لابد من التذكير باستقالة ظريف من منصبه، بسبب عدم علمه المسبق بالزيارة التي أجراها الرئيس السوري، بشار الأسد، إلى طهران عام 2019. والتي نسق لها القائد السابق لـ”فيلق القدس”، قاسم سليماني، الذي قتل برفقة نائب قائد “الحشد الشعبي” العراقي، أبو مهدي المهندس، بالقرب من مطار بغداد مطلع عام 2020، بواسطة طائرة أميركية مسيرة.

اختيار شمخاني لمهام خارجية دلالة على حالة من انعدام الثقة الكاملة بوزارة الخارجية، حسب حلمي، رغم تبريرات الوزير عبد اللهيان. فاختيار شمخاني لإنجاز مهام التهدئة الإقليمية، يُشير إلى أن المؤسسة الحاكمة في طهران ربما توصلت إلى أن فريق وزارة الخارجية لا يملك الفاعلية اللازمة للحصول على الثقة للقيام بهذا الدور.

لذا أوكلت المهمة إلى جهاز أكثر كفاءة، وبإشراف سياسي محنك، مثل شمخانى. وهذا الأمر أشارت له الصحيفة الإصلاحية “آرمان ملي”، بأنه انعكاس لرغبة القيادة الإيرانية في إزالة الآثار السلبية التي لحقت بوزارة الخارجية الإيرانية وتراجع مكانتها على الصعيد الدبلوماسية العالمي، وما سببته من عقبات وتحديات في وجه السياسة الخارجية لطهران.

حكومة رئيسي تواجه معالجة فشل وزارة الخارجية بثلاث عقبات، أولا، تغيير الوزير الأصولي له علاقات وثيقة مع نهج جبهة الاستدامة، مما يضع رئيسي موضع انتقادات شديدة. ثانيا، محيط رئيسي يفتقد لبديل أكثر قدرة من عبد اللهيان. ثالثا، التأثير السلبي لهذا التغيير على الدعاية الحكومية التي مارستها سابقا، حول إنجازاتها في السياسة الخارجية، خاصة فيما يتعلق بالقضايا الإقليمية.

في هذه الظروف، يمكن إبقاء عبد اللهيان في منصبه، حفاظا على الحكومة بأكملها. وفي الوقت نفسه، يقوم الجنرال شمخاني بالمهام الإقليمية المهمة. فتوقيع الاتفاق في بكين، مع رحلات شمخاني إلى الإمارات والعراق، دلالة على أن القرارات بيد النظام لا الحكومة، التي يتوجب عليها التنفيذ.

وجهة النظر الإيرانية، في تعاطيها مع الملفات السياسية، تقضي توليها من قبل شخصيات من الدوائر الأقرب للمرشد، حسب النعيمي. مضيفا، وفقا للدستور الإيراني ولحالة الاستبداد الديني والسياسي في إيران، يتربع المرشد الأعلى منصب إلهي، ويدير الدولة بموجب الصلاحيات الممنوحة له من قبل الإله، والتي قررها الدستور الإيراني، ومنها السياسة الخارجية التي يديرها من خلال ممثليه في مؤسسات الدولة، ومنهم شمخاني، أو من خلال مستشاريه وممثليه الشخصيين، كلقاء مستشار المرشد للشؤون الدولية بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين عام 2018. والذين يتم تكليفهم بهذه المهام لاعتبارات تتعلق بقدرتهم على فهم مشاريع إيران الخارجية، حسب منطق الخامنئي. ومن هذا المنطق يمكن فهم سبب غياب وزير الخارجية الإيراني عن مهام هي من صلب مسؤوليته.

هيمنة “الحرس الثوري” ربما استدعت حالياً إعادة الاعتبار للدبلوماسية بعيدا عن العسكرة، حسب “المعهد الدولي للدراسات الإيرانية” (رصانة). وهذا الأمر ليس بمقدور الوزير أو الرئيس. لذا، تدخل المرشـد، بالتعاون مع المؤسسات التابعة له، للإمساك بزمام الأمور ودفع الشخصيات الموثوقة للعب دور أكبر في تنفيذ التوجهات الخارجية.

هياكل متعددة وأجنحة متباينة، تشكل بمجموعها النظام السياسي الإيراني. يعلو بعضها حينا ويخفت حينا آخر، محدثة تغيير في التكتيك، مع ثبات في الاستراتيجية، كون الحاكم الفعلي واحد. وعلى اعتبار أن “لكل زمان دولة ورجال”، فإن مسار التهدئة مع دول الجوار يفترض رجال ثقات، وأقرب لفهم هذه الدول.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة