في أعقاب التصعيد الصاروخي الأخير على الحدود الإسرائيلية اللبنانية، ومن ثم تصعيد المواجهات إلى ساحات أخرى، مثل قطاع غزة والأراضي السورية، من خلال تبادل الضربات الثقيلة من الجانب الإسرائيلي والحكومة السورية مع الفصائل الفلسطينية.

المفارقة أن الرد على إسرائيل لم يأتِ من لبنان أو عبر الأراضي الفلسطينية، بل جاء من الداخل السوري، وهذا ما دفع بتل أبيب لشنّ غارات جوية على الأراضي السورية ردا على إطلاق تلك القذائف الصاروخية باتجاه هضبة الجولان. ومن ثم قصفت طائرات تابعة للجيش الإسرائيلي أهدافا عسكرية حيوية تابعة للحكومة السورية، وبشكل خاص في محيط دمشق على مواقع ومنظومات قيادة وتحكم تابعة لـ”الفرقة الرابعة” التي يقودها ماهر الأسد شقيق الرئيس السوري بشار الأسد.

بيان للجيش الإسرائيلي أعلن فيه، أن هذا القصف يأتي ردا على إطلاق صواريخ من سوريا باتجاه مرتفعات الجولان، إلا أن بعض القنوات الإعلامية الإسرائيلية أشارت إلى أنه ردا على إطلاق طائرة مسيّرة إيرانية من جنوبي سوريا نحو الجولان قبل نحو أسبوع.

في الواقع، الرّد من داخل الأراضي السورية لا سيما مع عدم الرد على عشرات الغارات الإسرائيلية السابقة، التي تستهدف قيادات ومقرات وقواعد وقوافل عسكرية للعديد من النقاط الحيوية سواء لميليشيا “حزب الله” اللبناني، و”الحرس الثوري” الإيراني، أو لتمركز قوات الجيش السوري، يبرز عدة إشارات استفهام من جهة، والرد الإسرائيلي في هذا التوقيت بالذات وعلى نقاط تابعة لأكبر منظومة أمنية تابعة لحكومة دمشق، يثير تساؤلات أيضا.

التساؤلات تكمن حول قيام دمشق بالهجوم على إسرائيل وتدخلها في المواجهات القائمة بين الحدود الإسرائيلية اللبنانية من جهة وبين تل أبيب وغزة من جهة أخرى، مع العلم أنها لم ترد على أي من الضربات الإسرائيلية السابقة حين كانت تستهدفها، منذ قرابة عشر أعوام. وتساؤلات حول مدى احتمالية انتقال هذه المواجهة بالكامل إلى الساحة السورية وتداعيات ذلك على المشهد السياسي السوري ككل ولا سيما التحركات السياسية الجارية مؤخرا.

لماذا الرد من الداخل السوري؟

نحو ذلك، قال بيان للجيش الإسرائيلي، يوم أمس الأحد، إن إسرائيل قصفت مجمعا للجيش السوري وأنظمة رادار عسكرية ومواقع مدفعية تستخدمها قوات مسلحة سورية. وأكد المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، في تغريدة على منصة “تويتر”، أن “طائرات حربية إسرائيلية أغارت على أهداف إضافية في سوريا من بينها مجمع عسكري تابع للفرقة الرابعة بالإضافة لرادار ومواقع مدفعية تابعة للجيش السوري”.

الغارات الإسرائيلية استهدفت مقرا لماهر الأسد ،" قناة 13 الإسرائيلية"
الغارات الإسرائيلية استهدفت مقرا لماهر الأسد ، “قناة 13 الإسرائيلية”

المتحدث أردف “تأتي هذه الغارات بعد أن استهدفت مسيّرة إسرائيلية منصات إطلاق الصواريخ التي استخدمت لإطلاق القذائف من داخل سوريا باتجاه إسرائيل”، محمّلا “الدولة السورية مسؤولية من يجري داخل أراضيها”. المتحدث ذاته شدد على أن الجيش الإسرائيلي لن يسمح بمحاولات لخرق السيادة الإسرائيلية.

في الواقع، كل هذه التصريحات لها دلالات ومؤشرات عدة، فمن وجهة نظر الباحث السياسي السوري، والمتخصص بالشأن الإيراني مصطفى النعيمي، قيام دمشق بهذا الهجوم ليس من باب تقديم دعم للتحركات بالجنوب اللبناني وإنما قامت بدعم كيانات عسكرية تحت سيطرتها للمساهمة في تخفيف الأعباء المحتملة عنهم.

لكن بنفس التوقيت يرى النعيمي في حديثه لـ”الحل نت”، أن رفع التصعيد الإيراني في الجبهات الجنوبية من سوريا ولبنان يأتي في سياق رفع سقف التفاوض النووي خاصة بعد الحديث عن قبولها بعودتها للاتفاق السابق مع الولايات المتحدة والمتعلق بإرسال مراقبين دوليين للوقوف على النشاطات الإيرانية في المفاعلات النووية.

إلا أن تلك الاتفاقية لم تجرِ وفق ما كانت تطمح إليه، وعليه تحاول إيران تحريك الأوراق التي تمتلكها في سوريا ولبنان للتخفيف من تلك الأعباء رغم أن هنالك اتفاقية للتهدئة أشرفت عليها الصين ما بين إيران والسعودية، غير أن المعطيات الميدانية تشير إلى أن ثمة تصعيد عسكري كبير محصور في محاور اشتباك داخل سوريا ولا ترغب إيران استخدام كافة الأوراق التي تمتلكها، فيما تكتفي بتوجيه رسائل عبر القذائف الصاروخية التي تنطلق من الجنوب اللبناني تجاه إسرائيل ومن ثم تنتقل للضغط عبر الجغرافيا السورية المترامية الأطراف فتحرك أذرعها في الجنوب السوري وذلك من خلال المكتسبات التي حققوها بالغطاء الممنوح لهم من “الفرقة الرابعة” للتموضع بالقرب من نقاط التماس على الحدود الدولية مع منطقة الجولان، حسبما يوضحه النعيمي.

تلك الخطوة من وجهة نظر النعيمي تعزز من خلط الأوراق مجددا رغم الرسائل التحذيرية الإسرائيلية الورقية والصاروخية التي طالت خبراء لـ”الحرس الثوري” الإيراني، على جسر المتحلق الجنوبي للعاصمة السورية دمشق، وبالتالي أمام هذه الرسائل يرجّح النعيمي بأن الأرض السورية باتت هي الأخصب لتصفية حسابات الخصوم والمتضرر الوحيد هو الشعب السوري دولة وشعبا، والتي باتت تتقاذفها مصالح الخصوم الدوليين في ظل عدم الرغبة الدولية بتطبيق مقررات مجلس الأمن الدولي، وبالتالي فإن المشهد يتجه صوب التصعيد المتدرج نحو حافة الهاوية.

أما المحلل العسكري العقيد الطيّار عبد الرحمن حلّاق، يرى من جانبه أن القصف الإسرائيلي وفي هذا التوقيت يعود لمأزقها الداخلي، من الاحتجاجات الشعبية ضد بعض قرارات حكومتها. أما أن تقوم دمشق بالهجوم على إسرائيل فهذا “ضرب من الخيال ومعروف للقاصي والداني أن هذه ليست سوى تلميع وخلط الأوراق أمام الرأي العربي بأن دمشق مازالت عربية وممانعة”.

المفارقة وفق تقدير المحلل العسكري لموقع “الحل نت”، أن إسرائيل قصفت وتقصف متى تشاء داخل سوريا ومؤخرا بات بشكل شبه أسبوعي، فلماذا لا تتدخل دمشق بالرد ولو بطلقة واحد. بطبيعة الحال هذا الأمر يعود لكونها باتت تحت عباءة ما تسمى “محور المقاومة”، وهدفها تدمير ما تبقى من الداخل السوري وليس ردع العدو عن هذه الأرض.

هذا وكان الجيش الإسرائيلي قد قال في وقت سابق من فجر يوم الأحد، إن إسرائيل أطلقت صواريخ على سوريا في ساعة مبكرة من صباح اليوم ذاته ردا على إطلاق صواريخ على أراض تسيطر عليها إسرائيل، مع استمرار التوتر على طول الحدود الشمالية لإسرائيل في أعقاب تبادل لإطلاق النار عبر الحدود.

لماذا استهداف مقرات “الفرقة الرابعة”؟

تصريحات لـ”القناة 13” الإسرائيلية تقول إن القوات الجوية الإسرائيلية استهدفت صيدا ثمينا في مقر تابع لقائد “الفرقة الرابعة” ماهر الأسد، بمحيط دمشق، فجر يوم الأحد، بعد تصعيد شهدته جبهة الجولان، موضحة أن القصف جاء بسبب إطلاق طائرة مسيّرة إيرانية من سوريا إلى إسرائيل قبل نحو أسبوع.

تقارير صحفية أخرى أفادت بأن القصف استهدف مزرعة في يعفور يستولي عليها ماهر الأسد، كان يجري فيها اجتماعا بحضور قائد فيلق “القدس” إسماعيل قاآني، وضابط إيراني آخر يدعى سردار. والمنطقة شهدت استنفارا واضطرابا أمنيا وعسكريا كبيرا.

في حين اكتفت “وكالة الأنباء السورية” (سانا) بالقول إن وسائط الدفاع الجوي السورية “تصدت لصواريخ العدوان وأسقطت بعضها”، نقلا عن مصدر عسكري.

حسب تحليل خبراء، فإن احتمالية اغتيال ماهر الأسد في الفترة الأخيرة كانت مرتفعة جدا، والسبب معارضته لعودة العلاقات بين سوريا والعالم العربي، حيث حصل خلاف مع بشار الأسد حول طرح خطة العودة لـ”الجامعة العربية”، كون أحد الشروط  العربية المطلوبة هو إيقاف تصنيع “الكبتاغون”.

بينما تقرير نشرته صحيفة “يديعوت أحرونوت” رجحت فيه أن إسرائيل أرادت من خلال استهداف “الفرقة الرابعة” إيصال رسالة إلى دمشق مفادها أن “النظام يتحمل المسؤولية عن إطلاق الصواريخ من المناطق التي تخضع لنفوذه”، وأنها تضغط على دمشق لمنع استهداف إسرائيل انطلاقا من الأراضي السورية، ولا سيما بالمسيّرات. بمعنى أنه إذا تقدمت إيران أكثر صوب إسرائيل، فإن الضربات ستستهدف مباشرة أكبر المقار والنقاط الأمنية التابعة للحكومة السورية، بما فيهم القصر الجمهوري في دمشق.

النعيمي يعتقد أن الضربات الإسرائيلية الأخيرة للنقاط الحيوية يدلل على الانتقال المتدرج من استهداف شحنات الأسلحة إلى الخبراء الإيرانيين، ويأتي في سياق إعادة النظر والتقييم الإسرائيلي لحجم النفوذ المتزايد إيرانيا في سوريا وتلك الخطوات الاستباقية التي اتخذتها بغية منع طهران من الانتقال للمشاركة في الأراضي السورية من التمثيل الميليشياوي إلى التمثيل العسكري.

بالتالي فإن المشهد مرجّحٌ لأن يتجه نحو التصعيد في المنطقة الجنوبية من سوريا في المرحلة الأولى وبناء على الردود الإيرانية سيتم اتخاذ إجراءات الردع الإسرائيلية رغم أن هنالك أزمات داخلية في كل من طهران وتل أبيب، إلا أن الإجراءات الوقائية من قبل الأخير تُصنّف ضمن إجراءات الأمن القومي ومخاطرها ربما قد تزيد من تعقيد المشهد.

هذه الجبهة تعتمد كنقطة ارتكاز لاستنزاف إيران على المدى البعيد إلا أنها لا تغفل عن النقطة الأهم التي بدأ يلاحظ وجود جهود إسرائيلية كبيرة لاستهداف المنشآت العسكرية الإيرانية عبر المسيّرات إضافة إلى الخرق الاستخباري الكبير الذي حققته بداخل الجغرافيا الإيرانية والانتقال إلى خطوات متقدمة بخصوص التحقيق مع ضباط في “الحرس الثوري” الإيراني، ومن ثم هذا يعني أن إيران لا تمتلك وسائل الردع في المرحلة الحالية وإنما تحاول خلط الأوراق لإبعاد أي معركة تستهدفها في الداخل وتلتفت اليوم إلى معالجة مشروعها التوسعي وتخفيض مستوى الاشتباك والمشاغلة مع الخصوم إلى أن تحقق غايات مشروعها العدائي في المنطقة ككل، على حسب تقدير النعيمي.

من جانب آخر، يستبعد حلّاق، انتقال المواجهة إلى داخل الأراضي السورية، ذلك لأن إسرائيل لا تحتاج لهذا الأمر وتحقق ما تريده عن طريق تعامله الاستخباراتي الخفي مع الحكومة السورية وهو غير مستعد لخوض حرب مفتوحة. بمعنى أن حربها ستكون ضد الميليشيات الإيرانية وفي المنطقة عموما.

تداعيات التصعيد على المشهد السوري

في سياق التداعيات، فإنها من منظور النعيمي ستتمثل في تعطيل الاتفاقية السعودية الإيرانية برعاية بكين، لخفض التصعيد في المنطقة، وبالتالي تكون إيران قد جرت الصين إلى التموضع في المنطقة العربية ومشاغلتها والالتفات إلى تطوير برامجها “المسيّرات والنووي والبالستي”، لا سيما وأن هذا التكتيك تستخدمها طهران منذ الأزل، من حيث التشويش على كافة المسارات التفاوضية لتعزيز مناطق نفوذها بالمنطقة.

لكن في ذات الوقت تستثمر إيران في تلك المتغيرات الدولية بإدارة المناطق التي تشهد لها نفوذا وتدعم هذا النفوذ سواء في العراق أو سوريا أو لبنان وصولا إلى اليمن التي لا ترغب بفتح إي اشتباك جديد مع الرياض في تلك المرحلة لكنها ماضية في محاولتها تهريب السلاح إلى ميليشيا “الحوثي”، وإن قلّصت من حجم عمليات القرصنة البحرية الإيرانية.

إلا أنه في سوريا بات الاتفاق الثلاثي مختلفا بحيث تظهر إيران بمظهر المنتصر بعد العمل على الإجراءات الأولية لعودة التمثيل القنصلي ومن ثم الانتقال إلى تعزيز علاقاتها مع المملكة العربية للمقايضة على الملف السوري.

النعيمي يعتقد بأن سيطرة إيران على الملف السوري سيكون له تداعيات كبيرة لن تقف عند إعادة دمشق إلى “الجامعة العربية” والتطبيع فقط وإنما سيتبعه تموضع إيراني أكبر بعد تخفيض التوتر مع المحيط الإقليمي لسوريا، الأمر الذي يتعارض مع الرؤية الأميركية التي ترفض التطبيع وتحذر منه دوما.

هذا يعني أن إيران ستعمل من خلال هذا الاتفاق على تعزيز نفوذها ومن ثم ستهدد بتحريك أذرعها في حال توجيه أي ضربة لها، سواء بتحركاتها أو فيما يخص نشاطها النووي.

في العموم، فإن فكرة انتقال التصعيد الصاروخي الإسرائيلي إلى مقار “الفرقة الرابعة”، أكبر المنظومات الأمنية لدمشق، يبقى خيارا مفتوحا، لا سيما مع عدم قيام حركة “حماس” و”حزب الله” بالرد على إسرائيل، فضلا عن الاهتمام بتقديم عذر مباشر لإسرائيل بالاستهداف الذي حصل، وهذا يعني أن الاستراتيجية الأفضل لإسرائيل اليوم هو المواجهة مع إيران عبر الأراضي السورية سواء عبر استهداف ميليشياتها أو ضرب نقاط الحكومة السورية إن دعمت طهران بشكل أكبر أو سمحت لها باستخدام المسيّرات ضد الحدود الإسرائيلية، وهذا بالتأكيد سيعقّد من المشهد السياسي السوري ككل، وبالتالي إطالة عمر الأزمة السورية إلى أجل غير مسمى.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات