وسط الغلاء الجامح، لم يكن مشروب “المتّة” الشعبي الأشهر في سوريا بعيدا عن الأزمات المتعددة التي تعصف بالبلاد منذ سنوات، حيث شهدت المادة ارتفاعا في سعرها واختلافا في التسعير من منطقة لأخرى مؤخرا نتيجة ارتفاع أسعار مادتي البنزين والغاز إلى جانب تدهور الليرة السورية أمام النقد الأجنبي، الأمر الذي أحدث فوضى غير مسبوقة في الأسعار بالأسواق.

بالنظر إلى ارتفاع سعر السكر والغاز المنزلي، يقوم السوريون بالتقنين من مشروبهم المفضل “المتّة”، ذلك لأن تكلفة شربه في كل جلسة اجتماعية تبلغ نحو 3 آلاف ليرة سورية للكأس الواحد، فيما يتراوح راتب الموظف الحكومي بين 160-175 ألف ليرة سورية، وبالتالي شرب “كاسة منّة” يعتبر غاليا مقارنة بالمداخيل.

“المتّة” مشروب مكلف

في ظل ارتفاع الأسعار، أصبحت “المتّة”، التي تُعد الضيافة الرئيسية في الساحل السوري وعدة مناطق أخرى بسوريا، مكلفة جدا هذه الأيام، خاصة في الجلسات الاجتماعية الطويلة التي تتطلب تغيير كأس المشروب أكثر من مرة، بحيث يستبدل صاحب المنزل الكوب ويضع “المتّة” مرة أخرى.

“المتّة” المشروب الأشهر في سوريا- “إنترنت”

هذا واشتكى بعض المواطنين لموقع “أثر برس” المحلي، من ارتفاع الأسعار، مضيفين “ليست المتّة هي المادة الوحيدة التي زاد سعرها، بل جميع المواد الأخرى، لكن فترة شرب المتّة تدوم أكثر من غيرها، وهنا الحديث عن العصائر والقهوة والشاي”.

في حين يرى آخرون أن تقديم “المتّة” للضيوف بات مكلفا أكثر من أي مشروب آخر، ودللوا على ذلك بحسبة سريعة وهي أن عبوة “المتّة” بوزن 200 غرام تُباع بـ 8000 ليرة سورية، وهي تكفي بين 11- 12 كأس، ما يعني أن تكلفة الكأس الواحد تتراوح بين 667-727 ليرة، إذا لم يتم تبديلها مرة أخرى، بالإضافة لوضع سكر بمقدار 75-100 غرام والتي يبلغ سعرها 700 ليرة، باعتبار أن سعر كيلو السكر يُباع بين 9500-10000 ليرة، ناهيك عن الغاز الذي يُستخدم لتسخين إبريق الماء والذي قد يستهلك غازا بمبلغ يتراوح بين 200-250 ليرة، ولا سيما بعد ارتفاع سعره.

بحسبة بسيطة، باتت التكلفة الإجمالية التقديرية لكأس “المتّة” الواحد تبلغ نحو 2000 ليرة، في حال لم يتم تجديدها، ونحو 3000 ليرة، في حال التجديد مستدركين، “ليس هناك أجمل من الضيف الذي يشرب المتّة من دون سكر”.

بدوره قال عامل في أحد الأكشاك الخاصة الموجودة في المدينة، “نظرا لجلوسنا ساعات طويلة في الكشك نضطر لشرب المتّة يوميا، وبحسبة بسيطة فإن شرب كأسا من المتّة تبلغ تكلفة إعدادها ما بين 2000-2500 ليرة، موزعة بين مادة المتّة والسكر، وصولا لاستهلاك الغاز المستخدم لتسخين الماء”.

شراء “المتّة” بالظروف!

في المقابل، بيّن صاحب أحد المحال في محافظة اللاذقية أن عبوة “المتّة” بوزن 200 غرام سعرها يتراوح بين 7500-8000 ليرة، وعبوة الـ 250 غرام تباع بسعر 9500-10000 ليرة، مبينا أن معظم زبائنه يشترون “المتّة” المعبأة في ظرف سعة 25 غرام يكفي لشخصين، عازيا ذلك إلى ضعف السيولة الموجودة لدى الزبائن مما يدفعهم لشرائها بالظرف الذي يُعتبر أقل حجما بسعر 1500 ليرة سورية.

إلا أن بعض المصادر المحلية الأخرى تقول إن “المتّة” في بعض المناطق والمحافظات الأخرى تباع أكثر من هذه الأسعار المذكورة، فمثلا في محافظة دمشق والحسكة تبلغ سعر العبوة الواحدة سعة 200 غرام ما بين 13-15 ألف ليرة.

بمعنى أن المادة تشهد تباينا في أسعارها في المحافظات السورية، يتخللها موجة غلاء كل فترة، مع عدم الالتزام بالأسعار التي تضعها الجهات المعنية بالحكومة.

أما حول دعوة البعض إلى مقاطعة “المتّة” دفعا لتخفيض سعرها بعد تراجع الطلب عليها، قالت إحدى السيدات “من يدعو إلى مقاطعة المتّة هو أول من يشتريها ولا يستطيع مقاطعتها”، مبررة عدم توجهها نحو مقاطعتها لأن أي مشروب آخر ليس أرخص منها، مدللة بارتفاع سعر القهوة والشاي، ناهيك عن أن أي مشروب ينتهي بسرعة، فيما مشروب “المتّة” يطول، وتطول معه الجلسات.

مقاطعة مشروب “المتّة” الشهير في سوريا وخصوصا مناطق الساحل، ليس بالأمر السهل لدى الأهالي، وحتى لو تم مقاطعته فلن يجدي ذلك نفعا في خفض سعره، بل أن التجار لن يستوردوها من الأساس، فليس من المعقول أن يخسروا في تجارتها، لأن استيرادها يتم بالعملة الصعبة، وبالتالي ارتأى الناس أن تقنين المشروب أفضل حل في ظل هذه الموجة من الغلاء.

من جهته، تساءل موظف عن عدم زراعة “المتّة” في سوريا للحد من رفع أسعارها باعتبار أن عدد من النباتات والأشجار ذات المنشأ الأرجنتيني نجحت زراعتها في عدد من المناطق السورية. بينما أوضح الخبير الزراعي سمير محمود للموقع المحلي أن التجارب التي قام بها بعض المزارعين أثبتت أنه بالإمكان زراعة “المتّة” في سوريا، مشيرا إلى زراعتها في كل من بانياس والشيخ بدر والدريكيش وصافيتا، مؤكدا أن المادة كغيرها من النباتات الاستوائية التي نجحت زراعتها في سوريا بالرغم من أن أحدا لم يكن يتوقع نجاحها.

كما بيّن محمود أن زراعة “المتّة” تحتاج لسنوات طويلة لتنتشر وتكون قادرة على تغطية السوق المحلية، ناهيك عن أن المزارعين ليست لديهم خبرة في زراعتها.

الأسواق السورية-“إنترنت”

خلال العام الماضي ارتفعت أسعار “المتّة” إلى أرقام غير مسبوقة، حيث وصل سعر الكيلو منها لأكثر من 20 ألف ليرة، وانقطعت المادة لأكثر من مرة آنذاك، وتداول ناشطون وصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، صورا لازدحام عشرات الأشخاص، قيل إنهم في انتظار الحصول على المادة في مدينة حمص.

في وقت سابق ربط عضو مجلس إدارة “غرفة تجارة” دمشق ياسر اكريم، غلاء “المتّة” بارتفاع تكاليف النقل من المصدر الرئيس إلى البلاد، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار البنزين والمازوت، الذي يزيد تكلفة نقلها داخليا. وبالنظر إلى ارتفاع أسعار البنزين والغاز فإن سعر “المتّة” مرشّحٌ للارتفاع أكثر في الفترات المقبلة.

هذا وتعتبر سوريا واحدة من أكثر الدول استهلاكا لـ”المتّة”، وكانت في عام 2019 المستورد الأول للمادة من الأرجنتين بـ 34.5 ألف طن، وفق بيانات “المعهد الوطني ليربا متة”. كما جرى استيراد 33 ألفا و407 أطنان منها بنحو 36 مليونا و363 ألفا و977 يورو خلال 2018.

تقنين المواد

في خضم التدهور المستمر للأوضاع المعيشية، إثر التراجع الكبير في سعر الصرف والزيادة الأخيرة في أسعار البنزين والغاز من قبل الحكومة السورية، مما يحمل في طياته أعباء اقتصادية تصل إلى ذروتها في الوقت الحاضر بسبب إضافة الناس أنواعا جديدة من المواد الغذائية إلى قائمة المقنّنات، خاصة تلك التي تُعتبر من أيقونات المأكولات السورية مثل الزعتر، فضلا عن تقنين شرب “الأركيلة” الدخان الأشهر في البلاد.

هذا بالإضافة إلى الاستبعاد الكامل للأسماك من موائد غالبية العائلات مقابل وجود شبه دائم على موائد الأغنياء، أو إن صح القول تسميتهم بالطبقة المخملية. ولا شك أن أسباب هذا العزوف والتقنين يعود لضعف القدرة الشرائية للمواطن مقارنة بهذه الأسعار التي لا تتناسب إطلاقا مع قيمة الرواتب والأجور، وبالتالي يبدو أن السوريين يضيفون تدريجيا عناصر جديدة إلى قائمة التقنين لديهم، ولا يُستبعد أن تُضاف أصناف أخرى في الفترة المقبلة.

الكثير من العائلات الحلبية أدرجت الزعتر الحلبي، الذي تشتهر المدينة بصناعته، على قائمة التقنين التي تتقيد بها لتقليل المصاريف بما يتماشى مع مداخيلهم، وسط الارتفاع الجنوني للأسعار في الأسواق للسلعة وللمواد الغذائية الأخرى، وفق ما أوردته صحيفة “الوطن” المحلية، مؤخرا.

منذ أيام وتشهد الأسواق السورية حالة غير مسبوقة من الفوضى والغلاء. ويعود هذا التخبط والتفاوت في الأسعار إلى عدة أسباب أساسية، لعل أبرزها غياب الدور الرقابي والتمويني الحكومي، وكذلك استغلال كبار التجار للأوضاع والظروف المتردية في البلاد.

لذلك فإن هذه الفوضى بالترافق مع غياب دراسات حقيقية عن التكلفة، تلعبان دورا مهما في فلتان الأسعار وفقا لبعض المختصين، فعند ارتفاع سعر أي سلعة رئيسية، مثل المازوت والبنزين والغاز والإسمنت، يُلاحظ أن أسعار المواد المرتبطة بهذه السلع قد ارتفعت بنفس النسبة أو أكثر، وهذا ما يجري بالفعل حاليا في الأسواق في ضوء القرار الحكومي الأخير برفع أسعار المواد الأساسية الآنفة الذكر.

يبدو أن حكومة دمشق عاجزة عن القيام بأية إجراءات من شأنها ضبط الأسعار في الأسواق السورية، بعدما جرّبت آليات عديدة وأصدرت عشرات التعاميم، التي لم يكن لها أية آثار إيجابية على جيب المواطن أو الأسواق.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات