لا يبدو المشهد واضحا بعد فيما يخص مستقبل مجموعة مرتزقة “فاغنر” الروسية، حيث لا تزال تداعيات تمرد الجماعة شبه الحكومية ضد القيادة العسكرية الروسية يُسمع صداه حول العالم، لاسيما في مناطق النفوذ الروسي في القارة الإفريقية الذي عملت “فاغنر” على تكريسه منذ العام 2018، الأمر الذي ترك مستقبل الوجود الروسي هناك مجهولا حتى اللحظة، فيما إذ ستكون هناك ضرائب على موسكو ستدفعها، أما سينتهي الأمر بنفي رئيس الجماعة يفغيني بريغوجين إلى بيلاروسيا.

مبدئيا، تظهر روسيا حتى الآن كما لو أنها تحاول وأد الصراع الذي هدّد كيانها كدولة تصدّر نفسها واحدة ضمن الدول العظمى، من خلال احتواء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، للموقف الذي وضعه فيه ما يعرف بطباخه السابق والقائد الحالي لـ “فاغنر” يفغيني بريغوجين، عندما دفع قواته لمواجهة قوات الجيش الروسي الأسبوع الماضي، بعد اتهامات وجّهها إلى وحدات من الجيش باستهداف عناصره، وتعمّد قطع الإمدادات اللوجستية عن جماعته.

فبعد أن اتهم بوتين في أول موقف له على حالة التمرد؛ “فاغنر” ورئيسها بمحاولة دفع روسيا إلى حرب أهلية، متوعدا إياهم برد قاسي، عاد ليظهر مجددا في خطاب تلفزيوني بعد يومين، ليضع ثلاث خيارات أمام الجماعة المتمردة. قائلا إن لديهم فرصة لمواصلة خدمة روسيا من خلال إبرام عقد مع وزارة الدفاع أو غيرها من وكالات إنفاذ القانون، أو العودة إلى عائلاتكم وأصدقائكم. فيما يمكن لكل من يريد الذهاب إلى بيلاروسيا ذلك.

تطمينات بوتن ما بعد تمرد فاغنر

الرئيس الروسي الذي يقود غزوا عسكريا واسعا ضد أوكرانيا منذ شباط/فبراير العام الماضي، كان لـ “فاغنر” دورٌ عسكري كبير فيه؛ وجه خلال خطابه الشكر إلى “الروس على صمودهم ووحدتهم ووطنيتهم التي أظهرت أن أي ابتزاز وأي محاولة لإثارة اضطرابات داخلية محكوم عليها بالفشل”، مشيرا إلى أن “الغالبية العظمى من مقاتلي وقادة مجموعة فاغنر هم أيضا روس وطنيون مخلصون لشعبهم وللدولة، إذ أثبتوا ذلك من خلال شجاعتهم في ساحة المعركة”.

عناصر “فاغنر” تتمرد على القيادة العسكرية الروسية/ إنترنت + وكالات

إلى جانب ذلك، يسعى وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، لطمأنة الدول التي تستعين بخدمات مرتزقة “فاغنر” من خلال تأكيداته بأن الأمور ستسير كالمعتاد. ففي مقابلة تلفزيونية استهدفت الجمهور الأجنبي قال سيرجي لافروف، إن أحداث مطلع الأسبوع، في إشارة إلى تمرد مجموعة “فاغنر” على السلطات الروسية، “لن تؤثر على العلاقات مع الشركاء والأصدقاء”.

في حين رأى المحلل السياسي الأميركي بوبي جوش، أن رسالة لافروف استهدفت بشكل أساسي قادة دولتي مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى، اللذان يعتمدان على مقاتلي “فاغنر” لحماية أنظمة حكمهم، لافتا إلى أن حكام الدولتين سيحتاجون إلى ما هو أكثر من الكلمات المهدئة لكي يشعروا بالاطمئنان، فهؤلاء القادة يدركون أن بوتين سيقوم بعملية تطهير لجيش بريغوجين الخاص بعد التمرد الأخير.

ففي مالي ينتشر حاول 1000 مسلح من مقاتلي “فاغنر” الروسية، بقيادة إيفان ماسلوف المدرج على قائمة عقوبات وزارة الخزانة الأميركية بتهمة محاولة تهريب الأسلحة من مالي لاستخدامها في حرب روسيا ضد أوكرانيا، حيث تصف وزارة الخزانة عمليات “فاغنر” في إفريقيا بأنها مزيج من العمليات شبه العسكرية لروسيا ودعم لأنظمة الحكم المستبدة واستغلال الموارد الطبيعية للدول الإفريقية.

غير أن “المجلس العسكري” المالي، يقول إن الروس الموجودين في مالي “مدربون عسكريون”، إلا أن هناك أدلة واضحة على أن مقاتلي “فاغنر” يشاركون في العمليات العسكرية إلى جانب قوات مالي، كما تتهمهم “الأمم المتحدة” بالتورط في عمليات تعذيب واغتصاب.

بالإضافة إلى ذلك، يشير تقرير صادر عن “منظمة سنتري الأميركية غير الربحية”، إلى تورط عناصر “فاغنر” في جرائم مماثلة في إفريقيا الوسطى، استنادا إلى ادعاءات جمعتها المنظمة من خلال نشطاء محليين ومنظمات حقوقية دولية وحكومات غربية على مدى سنوات.

تعليقا على هذا المشهد، يشير أستاذ العلوم السياسية في جامعة “قناة السويس” بمصر، سعيد الزغبي، إلى أنه منذ منتصف العقد الماضي تزايد وجود مجموعة “فاغنر” بشكل كبير في عدد من البلدان الإفريقية المضطربة سياسيا وأمنيا، حيث تعمل “فاغنر” في القارة السمراء عبر استراتيجية رمادية تمزج بين أنشطة متباينة من حيث شرعيتها القانونية.

سيناريوهات بصالح الغرب

بناء على ذلك، يرى الزغبي في حديث مع موقع “الحل نت”، أن الجماعة تحولت خلال العامين الأخيرين من مجرد مقاول قتال إلى منظومة متكاملة تضم مجموعة متعددة من التحالفات والشركات والعلاقات التجارية لحماية الأنظمة الحاكمة في عدد من الدول الإفريقية، مشيرا إلى وجود 2000 مدرب تابع للجماعة في جمهورية إفريقيا الوسطى لدعم القوات الحكومية في الحرب الأهلية المستمرة هناك منذ أكثر من عشرة أعوام.

رئيس فاغنر يفغيني بريغوجين مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين/ (صورة أرشيفية)

كذلك أشار أستاذ العلوم السياسية المصري، إلى وجود أكثر من 1500 مقاتل تابع لـ “فاغنر” في ليبيا، يساهمون في استمرار الأزمة الليبية التي تشير تصريحات مصرية رسمية إلى أن حل هذه الأزمة متوقفٌ على خروج هؤلاء المقاتلين المرتزقة من الأراضي الليبية، مضيفا أن ضعف هذا العدد متواجد في مالي الغارقة في الأزمات الأمنية، وذلك بجانب تواجد أضعاف هذه الأعداد ببلدان غرب وشرق القارة.

لكن مع المتغيرات الأخيرة والتمرد الذي نفذته الجماعة ضد القيادة العسكرية الروسية مؤخرا، يرى الزغبي أن نفوذ المجموعة في بلدان القارة الإفريقية سيكون وفق نهج جديد وذلك استنادا إلى شبكات المصالح الكبيرة التي تمكنت من بنائها خلال الفترة الأخيرة، بيد أن مستقبل هذا التواجد في القارة الإفريقية يخضع لثلاثة سيناريوهات محتملة.

السيناريوهات الثلاثة بحسب أستاذ العلوم السياسية، ستشكل جميعا فرصة كبيرة للدول الأوروبية لتعويض الحيز الذي تشغله الجماعة في القارة السمراء، بخاصة فرنسا الباحثة على إعادة تعويض نفوذها العسكري في الجانب الاقتصادي بمناطق مستعمراتها التاريخية، ما يعني أن ذلك سيمثل اهتزازا لمستقبل الجماعة الروسية.

السيناريو الأول وفق الزغبي، يتمثل بتخلي “فاغنر” عن أنشطتها الخارجية وفي مقدمتها الأنشطة الإفريقية، وذلك في حال تلقي الجماعة أي هزيمة محتملة وفق المشهد الأخير الذي تعرضت له في حالة التمرد في روسيا. أما السيناريو الثاني الذي يستبعده أستاذ العلوم السياسية حاليا؛ يتمثل في تعزيز المجموعة لوجودها في القارة الإفريقية بشكل أكبر، وربما تقنينه في شكل علاقات ثنائية مباشرة وذلك في حال ساعد الصراع الحالي في تعزيز موقفها داخل موسكو بأي صيغة من الصيغ.

السيناريو الثالث، الذي يرجحه أستاذ العلوم السياسية في جامعة “قناة السويس” المصرية، هو أن يؤدي إضعاف موقف الجماعة شبه العسكرية في روسيا إلى التركيز أكثر على وجودها الخارجي ولاسيما في القارة الإفريقية.

هذه التطورات تعطي الغرب فرصة للضغط من أجل تغيير قواعد اللعبة في إفريقيا، وعلى فرنسا والولايات المتحدة و”الأمم المتحدة”، الضغط على الحكومات الإفريقية للابتعاد عن تعاملاتها مع “فاغنر”، ما يتيح مجالات للقوى الغربية لتقويض النفوذ الروسي.

نفوذ روسيا مهدد بإفريقيا

بيد أن ذلك يتطلب بحسب مراقبين في الوقت نفسه؛ من واشنطن وحلفائها فرض المزيد من العقوبات على مجموعة “فاغنر” وعناصرها، والشركات التي تعمل معها، مع فرض غرامات باهظة على الأنظمة التي تواصل الاستعانة بالمرتزقة.

عناصر فاغنر في إفريقيا/ إنترنت + وكالات

في الأيام التي أعقبت التمرد الفاشل، حاول بوتين وإدارته نقل انطباع عن الوحدة والثقة والاستقرار، حيث التقى بوتين يوم الثلاثاء في 27 حزيران/يونيو الحالي، بمسؤولين أمنيين ومع القوات التي يزعم أنها ساعدت في قمع التمرد.

في غضون ذلك، يواجه الجيش الروسي هجوما مضادا أوكرانيا متسارعا، وقد تعاني معنوياته المهتزة بالفعل أكثر إذا تزايدت الشكوك حول ولاءات القادة، وفق تحليلات غربية نقلتها صحف عريقة.

يشار إلى أنه، منذ التدخل العسكري الروسي بسوريا عام 2015 ارتبط اسم “فاغنر” بأعمال ونشاطات “قذرة” بحسب مسؤولين غربيين وتقارير محلية سورية، كون عناصر هذه المجموعة من المرتزقة انتشروا على الأرض، وكان لهم دور في حرف دفة الصراع هناك.

لم يقتصر النشاط على ما سبق فقط، إذ أسس بريغوجين “إمبراطورية اقتصادية”، رسمت معالمها عقود واتفاقيات منحت لشركاته في قطاع النفط، فيما تحدثت تقارير وسائل إعلام أميركية سابقا عن قروض قدمت باسمه للنظام السوري، في محاولة من موسكو للالتفاف على العقوبات الغربية.

في البداية كانت موسكو ترفض الاعتراف بوجود “فاغنر” أساسا، ثم تحولت إلى نفي علاقة الحكومة بها، قبل أن تغير الحرب الأوكرانية هذا الخطاب، وفيما بعد اعترف بوتين بتمويل الدولة لشبكة المرتزقة، قبل أن تحاول موسكو الآن إدارة الشبكة مباشرة ليفجّر ذلك صراعا بين الجماعة والجيش.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة