بينما تستمر الأزمة الاقتصادية اللبنانية في إنهاك البلاد، ثمة من يقترح في لبنان على الجهاز الحكومي والمالي التوجه نحو جذب استثمارات المغتربين اللبنانيين كخطوة يمكن أن تمثل رافعة حقيقية للاقتصاد بوصفها واحدة من أكبر محركات إعادة عجلة التنمية إلى الدوران، لاسيما في ظل استمرار الأزمة السياسية التي تعطل إيجاد حلّ للوضع الاقتصادي المنهار.

إذ تدفع الأوساط الاقتصادية اللبنانية السلطات في البلاد إلى التوجه نحو الاستفادة من ملايين المغتربين اللبنانيين المنتشرين حول العالم، بغية توفير دعم مالي أكبر للبلاد التي تسعى لتخفيف أزماتها الاقتصادية المتراكمة منذ سنوات، حيث يعوّل خبراء ورجال أعمال على أن ذلك يمكن أن يحمي النظام المصرفي.

فهناك قناعة لدى السلطات اللبنانية بأن نظام التحويل سيدعم الاستثمار ويمنح النظام المالي جرعة تحفيز تبعده عن المخاطر، وبالتالي ضخ إيرادات إضافية في خزينة الدولة، وذلك بالنظر إلى أن الشلل السياسي الجاثم على الدولة، التي تعاني من أسوأ أزمة اقتصادية على الإطلاق، يعرقل مسار الإصلاحات التي يطالب بها اللبنانيون قبل الجهات الدولية المانحة.

دور تحويلات المغتربين اللبنانيين في الاستثمارات

خصوصا وأن تحويلات المهاجرين تلعب دورا مهما في الاقتصاد العليل لكونها أحد العوامل المؤثرة في الناتج المحلي الإجمالي، وفي معدلات النمو التي باتت تحت رحمة تراكم المؤشرات السلبية، كما تُعدّ هذه الأموال من أبرز روافد القطاعين المصرفي والعقاري، بالإضافة إلى البُعد الاجتماعي الذي تؤديه في دعم الأُسر، ولذلك فإن حركتها موضع رصد دائم من الهيئات الدولية والمحلية.

لكن ذلك من دون أدنى شك يحتاج إلى إصلاحات جادة من قبل السلطات اللبنانية، وهو ما دعا له مختصون لبنانيون في محاولة لحث السلطات على التحرك إلى الأمام وترك مربع الجمود، بما في ذلك إعادة هيكلة البنوك واعتماد التشريعات المناسبة لتشجيع المغتربين على الاستثمار في بلدهم.

ذلك جاء خلال “مؤتمر الاقتصاد الاغترابي” الثالث المنعقد حاليا في العاصمة اللبنانية بيروت، حيث أكد وزير الطاقة وليد فياض أثناء افتتاح المؤتمر، على أن إعادة هيكلة القطاع المصرفي واستعادة ثقة الصناعة وجذب المغتربين للاستثمار ببلدهم والمساهمة في الانتعاش الاقتصادي أمر ضروري.

كما أكد الوزير اللبناني، أنه في الوقت الراهن الأولوية هي لجذب الاستثمارات من خلال معالجة تحدي انهيار القطاع المصرفي، مشددا بالقول، نحتاج إلى أن نكون قادرين على منح الائتمان للقطاع الخاص لتنشيط الاقتصاد مرة أخرى، وأن ذلك يبدأ مع توزيع الحكومة للخسائر في القطاع المصرفي وإعادة جدولة أموال المودّعين. فالتقديرات الرسمية تشير إلى أن هناك 18 مليون مغترب لبناني ينتشرون بمختلف أنحاء العالم، وتبلغ قيمة ودائعهم في البنوك اللبنانية قرابة 35 مليار دولار.

المؤتمر الذي يحضره أكثر من 300 مشارك، بينهم سياسيون ورؤساء هيئات وغرف اقتصادية ورؤساء مجلس أعمال وقادة شركات مالية وصناعية وتجارية واستثمارية من ثلاثين بلدا؛ يحاول إيجاد طرق عملية للاستفادة من أموال المغتربين اللبنانيين في ظل الوضع الضاغط، بخاصة وأن هذه الأموال تمثل أحد المصادر المهمة للعملة الصعبة في لبنان الذي يعاني من أعلى مستويات الديون عالميا، في ظل انهيار اقتصادي وتضخم وتقلص المداخيل السياحية، التي كانت تساهم بنحو 20 بالمئة.

حول جدوى ذلك، وما يحمله من مكاسب إيجابية وسلبية للبنان لاسيما في ظل الحديث عن أموال المغتربين اللبنانيين القادمة للبلاد تلفّها شبهات بتبعيتها إلى “حزب الله” المصنّف على قوائم الإرهاب، أوضح خبير الاقتصاد اللبناني بلال علامة، أن أموال المغتربين التي تأتي من الخارج إلى لبنان، ويجري الحديث عن ضرورة استثمارها لدعم الاقتصاد الوطني لا تمثل ذات الأموال الناتجة عن عمليات التهريب والتجارة غير المشروعة وغسيل الأموال.

تفريط لبنان باستثمارات المغتربين

ذلك لأن كل التحويلات في العالم وكيف ما كانت وإلى أين ما تذهب، فإنها تخضع لرقابة شديدة، وفقا لعلامة، بالتالي لو كانت هذه الأموال غير شرعية لما كانت هذه التحويلات قد تمت، مبيّنا أن عمليات غسيل الأموال تُعدّ منظمة ومعقدة لا يستطيع الأفراد العاديين القيام بها، بل هناك جماعات وأجهزة مختصة، بالتالي أن ما يرد من تحويلات مغتربين للبنان هي من أفراد ومواطنين ومؤسسات صغيرة.

تحويلات المغتربين اللبنانيين هي الأعلى بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا/ إنترنت + وكالات

خبير الاقتصاد اللبناني وفي حديث لموقع “الحل نت“، أشار إلى أنه في حال الاقتصاد اللبناني لا يتحمل ضربات جديدة ولا حتى شبهات، بالتالي أنه على لبنان تولي مسؤولية أي أموال أو مبالغ كبيرة تابعة لحساب منظمات وشركات كبيرة ومموّهة بطريقة غير اعتيادية يمكنها تجاوز الرقابة الدولية، لما في ذلك من تبعات كبيرة تتحملها الدولة اللبنانية التي هي في أمسّ حاجتها لهذه الأموال التي تأتي من المغتربين.

لذلك يجب أن تكون الأمور بما يتعلق بأموال المغتربين القادمة إلى لبنان في غاية الشفافية، وأنه يتم العمل على تميز هذه الأموال السليمة من غير السليمة مهما كانت الجهة التي تقف وراءها، لافتا إلى أن الاهتمام بهذا الجانب أمرٌ في مصلحة الاقتصاد الوطني.

علامة بيّن، أن تحويلات المغتربين اللبنانيين لها دور كبير في دعم الاقتصاد الوطني، على الرغم من عدم الاستفادة منها بالشكل المطلوب، مشيرا إلى أن هذه الأموال باتت تذهب إلى الحاجات الأساسية التي يحتاجها المواطنون اللبنانيون على العكس مما يُفترض أن تُستخدم فيه وهي الاستثمارات، حيث تحولت هذه التحويلات بمثابة الدعم الذي يغطي عجز المؤسسات الرسمية.

أما عن ما يمكن أن تتسبب به العملية السياسية المتعطّلة في البلاد في عدم استثمار هذه الأموال، لفت خبير الاقتصاد، إلى أن العملية السياسية في البلاد لا تؤثر على عدم استثمار هذه التحويلات، ذلك لأن المغتربين اللبنانيين في الخارج يتبعون لكل الفئات السياسية، بالتالي ليس من مصلحة أحد عرقلتها، لكن ما أدى لعدم استثمارها هو حالة الانهيار وتخلف مؤسسات الدولة عن مسؤولياتها الأساسية وهو ما اضطر المواطنون لاستخدام هذه الأموال التي تصلهم من الخارج في الدورة الاستهلاكية.

علامة أشار إلى أن لبنان يعاني من خلل في الميزان التجاري، إذ يستورد 90 بالمئة من احتياجاته، وذلك على الرغم من أن الأزمة عدلت كثيرا في القطاعات الصناعية والزراعية، إلا أنه لو كان هناك توظيف لهذه التحويلات التي تأتي من المغتربين في الخارج وتصنيفها في خانة الاستثمارات لكانت هناك استفادة كبيرة للبنان في قطاعات الصناعة والزراعة والتبادلات واقتصاد المعرفة، حيث كان بالإمكان توفير فُرص عمل أكثر وزيادة دخل المواطنين وتخفيف العجز في الميزان التجاري وتحسين التبادلات التجارية مع دول العالم.

حجم تحويلات المغتربين اللبنانيين

وسط ذلك، كانت تحويلات المغتربين اللبنانيين المقيمين في الخارج والمرسلة إلى لبنان، قد بلغت 4.6 مليار دولار أو 37.8 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد في عام 2022، وفق تقرير صادر عن برنامج “الأمم المتحدة” الإنمائي في أيار/مايو الماضي، وتأتي أغلبية هذه التحويلات من المهاجرين اللبنانيين المنتشرين في الأميركتين، ومن ثم الخليج العربي لتتبعها التحويلات القادمة من إفريقيا.

دعوات في لبنان لاستثمار تحويلات المغتربين/ إنترنت + وكالات

هذا الرقم الذي وصلت له تحويلات المغتربين اللبنانيين العام الماضي، يمثّل أعلى نسبة في منطقتي الشرق الأوسط وشمال القارة الإفريقية، بحسب خبراء البرنامج الإنمائي، بيد أن هذه الأموال وبالرغم من حجمها الكبير بالنسبة للبلاد التي يبلغ عدد سكانها ستة ملايين نسمة، لم تستطع لجم خسائر الليرة التي تستمر بفقدان قيمتها أمام الدولار بشكل شبه يومي.

جدير بالذكر، أن لبنان يعاني منذ أواخر العام 2019 من أزمة اقتصادية ومالية حادة صنّفها “البنك الدولي” من بين الأسوأ في العالم منذ العام 1850، في وقت يستمر فيه الشغور الرئاسي منذ تشرين الأول/أكتوبر الماضي، عندما انتهت ولاية الرئيس ميشال عون، وتدير شؤون البلاد حكومة تصريف أعمال عاجزة عن اتخاذ قرارات ضرورية.

في حين تنتظر البلاد انتخاب رئيس جديد وتشكيل حكومة قادرة على إجراء إصلاحات هيكلية كبرى لوضع البلاد على طريق الانتعاش، لكن ليست ثمة دلائل على أن الحل سيأتي قريبا، لاسيما بعد فشل جلسة انتخاب رئيس الجمهورية للمرة الثانية عشرة في حزيران/يونيو الماضي، بسبب إصرار “حزب الله” تمكسه بمرشحه للمنصب، ورفض المعارضة التي تدعم وصول رئيس يمكنه تحقيق توازن في علاقات البلاد الخارجية، على العكس من رغبة “حزب الله” برئيس قريب من إيران.

على هذا النحو، يواجه لبنان أزمة مالية غير مسبوقة، أدت إلى خسارة المليارات من الدولارات في الودائع وجعلت أكثر من 80 بالمئة من السكان يقعون في براثن الفقر، في حين تعتمد البلاد اليوم بشكل كبير على الدعم المالي من المغتربين اللبنانيين في جميع أنحاء العالم لمساعدة أُسرهم وأقاربهم، سيما وأنه بإمكان المغتربين أن يكونوا شركاء للدولة في مشاريع استراتيجية مثل الكهرباء وتدوير النفايات وسكك الحديد والمرافئ البحرية والمشاريع الاستثمارية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات