هكذا هو الحال إذن، إن فشل روسيا في استخدام اتفاق تصدير الحبوب عبر ممرات أمنة في البحر الأسود، للضغط على خصومها الغربيين في سياق غزوها لأوكرانيا من خلال تهديدها بالانسحاب منه، قد قدها إلى فشل جديد، وهو الانسحاب فعليا من الاتفاق، عندما تبين أنه لا جدوى أو تأثيرات فعلية من الانسحاب على الأمن الغذائي العالمي، بحسب المعطيات المتاحة حتى الآن، خلافا لما كانت ترنو إليه موسكو في إرباك المشهد العالمي.

فبعد أن هددت روسيا مرارا وتكرارا طيلة الفترة الماضية، بتعليق مشاركتها في اتفاق تصدير الحبوب عبر البحر الأسود الذي تم تجديده ثلاث مرات سابقة فعليا، أعلنت موسكو أنها ستتخلى عن الاتفاق الذي كان عبارة عن حالة نادرة من التعاون الذي انخرطت فيه روسيا مع أوكرانيا، وذلك في خطوة قد تؤدي كما يتوقع الروس إلى تفاقم أزمة الغذاء العالمي، مما يتيح لهم الضغط على خصومهم في ملفات أخرى.

على النحو هذا، علق الكرملين في 17 تموز/يوليو الحالي، مشاركته في اتفاق تصدير الحبوب عبر البحر الأسود، الذي سمح لكييف بتصدير حبوبها من الموانئ الأوكرانية المحاصرة من قبل روسيا عبر ممر آمن في البحر الأسود، إلى جانب الصادرات الروسية، وذلك في وقت يواجه فيه ما يصل إلى 783 مليون شخص الجوع في جميع أنحاء العالم، بحسب لأمين العام لـ “الأمم المتحدة”، أنتونيو غوتيريش الذي عبر عن أسفه إزاء القرار الروسي، وأضاف قائلا، سوف يدفع هؤلاء الثمن، بإشارة إلى ملايين الجياع.

انسحاب يخالف التوقعات

المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف، قال إن اتفاقيات البحر الأسود لم تعد سارية المفعول اليوم، مضيفا أنه، بمجرد أن يتم تنفيذ الجزء الروسي من الاتفاقات، ستعود روسيا للالتزام ببنود هذا الاتفاق فورا. وكانت روسيا قد ربطت في منتصف أيار/مايو، تمديد الاتفاق برفع القيود عن الصادرات الروسية من الأسمدة والمنتجات الغذائية.

موسكو عقدت وقتئذ تجديد الاتفاق، برفع التجميد المفروض على أصول شركاتها المرتبطة بالقطاع الزراعي الموجودة في الخارج، واستئناف تشغيل خط أنابيب “توجلياتي أوديسا” الرابط بين روسيا وأوكرانيا والذي ينقل الأمونيا، وهي مكون كيميائي يستخدم على نطاق واسع في الزراعة.

غير أن الولايات المتحدة الأميركية، اعتبرت أن روسيا تعمل على جعل الأمن الغذائي العالمي رهينة لألاعيب السلطة الساخرة والتربح، وذلك بينما تستمر في تصدير محصولها الضخم من الحبوب بنجاح، كما قال روبرت وود نائب السفير الأميركي لدى “الأمم المتحدة”، وشدد على أنه لذلك يجب أن تتوقف موسكو عن هذه الأساليب.

وسط ذلك، جاءت نتائج الانسحاب الروسي من الاتفاق عكس التوقعات، إذ إن الأسواق لا تبدو مقتنعة بأن فترة تعليق الاتفاق ستكون طويلة. فموسكو هددت بالانسحاب من الاتفاق مرات كثيرة، لكن لم يتم التعامل مع أي منها بجدية، لذا في كل الأحوال، فإن “الكرملين” يعتمد على شركائه بدرجة لا تجعل الانسحاب من الاتفاق بسيطا بالنسبة له، وفق تحليل نشره موقع “كارنيغي”.

كما إن مستوردي الحبوب في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يتعاملون بهدء مع إغلاق ممر الشحن الآمن للصادرات الأوكرانية عبر البحر الأسود هذا الأسبوع، بحسب تقرير لـ “رويترز”، نقل عن تاجر حبوب أوروبي قوله، لم ينفذ المستوردون هذه المرة أي عملية شراء مدفوعة بالذعر على النطاق الذي شهدناه العام الماضي، حين ارتفعت الأسعار بشدة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا. يريد المشترون الترقب لبضعة أيام لتقييم الوضع، فلا أحد يشعر بالعجلة أو الذعر فيما يبدو.

روسيا تفقد تأثيرها باتفاق تصدير الحبوب عبر البحر الأسود

تعليقا على ذلك، يقول الاستاذ المساعد في “جامعة كييف الوطنية للغات”، الباحث والمحلل السياسي ميكولا باستون، إن إمكانيات موسكو في التأثير على الأسعار في أسواق الحبوب العالمية محدودة جدا، وتبين في العام الماضي إنها تبيع منتجاتها الزراعية، وغيرها من المنتجات، بخصم كبير، في حين تمكنت أوكرانيا من إيجاد طرق بديلة لنقل حبوبها خلال السنة الأخيرة، ولو لم تعوض تلك الطرق حجم التصدير عن طريق البحر مئة بالمئة. 

روسيا تنسحب من اتفاقية تصدير الحبوب عبر البحر الأسود/ إنترنت + وكالات

باستون أكد في حديث مع موقع “الحل نت”، على عدم تأثير روسيا في سوق الحبوب العالمي، بالإشارة إلى وجود طرق برية وموانئ نهرية وغيرها من الطرق، فيما زادت بعض الدول الأخرى مثل البرازيل صادراتها من الحبوب، لافتا إلى أن النظام الروسي لا يهتم ويبالي لمعاناة الناس في إفريقيا وآسيا الذين سيتعرضون لارتفاع الأسعار.

بيد أن روسيا، بحسب الخبير الأوكراني، أيضا ستتحمل دون أدنى شك تكاليف انسحابها من صفقة الحبوب وعدم الالتزام بتعهداتها، مشيرا إلى أن روسيا قد تكبدت خسائر مالية واقتصادية هائلة جراء الغزو وفرض العقوبات التالي، مبينا أن مستوى الحياة للروس البسطاء سينخفض، لكن بطبيعة الحال مشاكل الناس لا تهم نظام الـ “كرملين”.

باستون، لفت إلى أن التزام روسيا يساوي صفر بأي تعهدات ومواثيق واتفاقيات، كما أنها لا تحترم القوانين، وإن ذلك تبين في السنة الماضية بعد غزوها لأوكرانيا التي التزمت باحترام سيادتها وسلامة أراضيها وحتى حمايتها من العدوان في أكثر من 10 اتفاقيات ثنائية ومتعددة الأطراف.

كما أكد، بأن روسيا ستستمر في انتهاك ميثاق “الامم المتحدة” والقوانين الدولية عن طريق ارتكاب جرائم الحرب من قتل وتعذيب المدنيين، وأسرى الحرب وتعريض المواقع النووية للخطر، لافتا إلى أن انتهاكها للاتفاقية التي ابرمتها مع تركيا و”الامم المتحدة” دليلا جديدا على ذلك، بشارة إلى اتفاقية تصدير الحبوب عبر البحر الأسود التي تمت بوساطة دولية وأممية في تموز/يوليو 2022.

يشار إلى أن الاتفاق كان يهدف إلى السماح بتصدير كميات الحبوب الأوكرانية التي تحتاج إليها أسواق العالم بشدة لوقف ارتفاع أسعار الغذاء العالمية، ووفقا للجزء الأول من الاتفاق، تعهدت روسيا بعدم مهاجمة سفن الشحن التي تحمل الحبوب الأوكرانية من موانئ البحر الأسود.

دور الاتفاقية في تصدير الحبوب

 في حين تتولى تركيا و”الأمم المتحدة” تفتيش حمولة السفن في المقابل، يقضي الجزء الثاني من الاتفاق بإعفاء صادرات روسيا من المنتجات الزراعية والأسمدة من العقوبات الأمريكية والأوروبية، ومنذ توقيع الاتفاق قبل عام تم تصدير نحو 32 مليون طن من الحبوب الأوكرانية تتراوح قيمتها بين 8 و9 مليارات دولار إلى دول كثيرة، منها الصين، وإسبانيا وتركيا، فيما ساهم الاتفاق في خفض أسعار الغذاء العالمية بنسبة 11.6 بالمئة، بحسب مؤشر “الأمم المتحدة” لأسعار الغذاء.

روسيا تستهدف الموانئ الأوكرانية عقب انسحابها من اتفاق تصدير الحبوب عبر البحر الأسود/ إنترنت + وكالات

بينما ساعد الاتفاق رغم القيود الغربية، روسيا في تصدير 60 مليون طن من الحبوب إلى الأسواق الخارجية خلال السنة الزراعية المنتهية في 30 حزيران/يونيو الماضي، وجنت أكثر من41 مليار دولار من هذه الصادرات.

إلى ذلك، وما إن أعلنت روسيا انسحابها من اتفاقية الحبوب، حتى بدأت بعد ساعات من انسحابها في استهداف الموانئ الأوكرانية في الساعات الأولى ليوم الثلاثاء الماضي، حيث قال مسؤولون أوكرانيون، إن الهجمات الصاروخية الروسية على الساحل الأوكراني على البحر الأسود، دمرت 60 ألف طن من الحبوب وألحقت أضرارا بالبنية التحتية للتخزين.

جاء ذلك بعد وقت قصير من إعلان وزارة الدفاع الروسية، أنه اعتبارا من منتصف ليل الأربعاء، ستعتبر أي سفن متجهة إلى الموانئ الأوكرانية، على أنها ناقلة محتملة لشحنات عسكرية وطرف في الصراع، مضيفة في إعلانها، أن بعض المناطق الشمالية الغربية والجنوبية الشرقية من البحر الأسود ستكون خطرة مؤقتا على الملاحة.

على هذا الأساس، بدأت روسيا في استهداف الموانئ الأوكرانية، وتلا ذلك المزيد من الضربات حتى يوم الأربعاء، حيث استهدفت صوامع الحبوب والبنية التحتية للموانئ في أوديسا، وعلى طول ساحل البحر الأسود في تشورنومورسك، وهما من الموانئ الثلاثة التي تم تضمينها في اتفاق تصدير الحبوب.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة