بينما ترتفع أسعار الغذاء عالميا، نتيجة استهداف طائرات روسية مسيرة، ميناء ومنشآت تخزين الحبوب في منطقة أوديسا الساحلية جنوب أوكرانيا وميناء “إسماعيل” على نهر الدانوب، في الساعات الأولى من صباح الأربعاء الماضي، وفي الوقت الذي تواصل فيه موسكو فرض حصار على صادرات الحبوب الأوكرانية عقب انسحابها من اتفاق تصدير الحبوب عبر البحر الأسود، يجري الحديث عن أن هذه التصرفات الروسية يمكن أن تنعكس بشكل سلبي على مستقبل روسيا كمصدر أساسي في سوق الحبوب، وذلك بينما تحاول الضغط على خصومها.

على هذا النحو، قفزت أسعار القمح في “مجلس شيكاجو للتجارة” أربعة بالمئة في أعقاب هجوم الأربعاء، وذلك مع تجدد قلق التجار إزاء تضرر الإمدادات العالمية من فقد السوق لأوكرانيا، أحد أكبر مصدّري المواد الغذائية في العالم، بخاصة وأن ميناء “إسماعيل” الذي تم استهدافه، والذي يقع على نهر الدانوب في الجهة المقابلة لرومانيا العضو في “حلف شمال الأطلسي” (ناتو)، يشكل طريقا بديلا رئيسيا لصادرات الحبوب من أوكرانيا منذ أن أعادت روسيا فرض الحصار الفعلي على موانئ أوكرانيا على البحر الأسود في منتصف تموز/يوليو.

بالرغم من ذلك، فإن روسيا تكثّف هجماتها على البنية التحتية للقطاع الزراعي والموانئ في أوكرانيا، بعد أن رفضت تمديد اتفاق تصدير الحبوب عبر البحر الأسود الذي كان يسمح بالعبور الآمن لصادرات الحبوب الأوكرانية إلى جانب الروسية، وحول تلك الهجمات قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، على تيليغرام “للأسف وقعت أضرار… والأبرز في جنوب البلاد. هاجم الإرهابيون الروس مرة أخرى الموانئ والحبوب بما يهدد الأمن الغذائي العالم”.

انسحاب روسيا من اتفاق تصدير الحبوب عبر البحر الأسود

فبعد أن هددت روسيا مرارا وتكرارا طيلة الفترة الماضية، بتعليق مشاركتها في اتفاق تصدير الحبوب عبر البحر الأسود الذي تم تجديده ثلاث مرات سابقة فعليا، أعلنت موسكو منتصف تموز/يوليو الماضي، أنها ستتخلى عن الاتفاق الذي كان عبارة عن حالة نادرة من التعاون الذي انخرطت فيه روسيا مع أوكرانيا، وذلك في خطوة قد تؤدي كما يتوقع الروس إلى تفاقم أزمة الغذاء العالمي، مما يتيح لهم الضغط على خصومهم في ملفات أخرى.

إذ علّق “الكرملين” في 17 تموز/يوليو الماضي، مشاركته في اتفاق تصدير الحبوب عبر البحر الأسود، الذي سمح لكييف بتصدير حبوبها من الموانئ الأوكرانية المحاصرة من قبل روسيا عبر ممر آمن في البحر الأسود، إلى جانب الصادرات الروسية، وذلك في وقت يواجه فيه ما يصل إلى 783 مليون شخص الجوع في جميع أنحاء العالم، بحسب الأمين العام لـ “الأمم المتحدة”، أنطونيو غوتيريس الذي عبّر في وقت سابق عن أسفه إزاء القرار الروسي، قائلا، سوف يدفع هؤلاء الثمن، بإشارة إلى ملايين الجياع.

فمنذ ذلك الحين، ربطت موسكو تجديد الاتفاق، برفع التجميد المفروض على أصول شركاتها المرتبطة بالقطاع الزراعي الموجودة في الخارج، واستئناف تشغيل خط أنابيب “تولياتي أوديسا” الرابط بين روسيا وأوكرانيا والذي ينقل الأمونيا، وهو مكون كيميائي يستخدم على نطاق واسع في الزراعة، غير أن الولايات المتحدة الأميركية، اعتبرت أن روسيا تعمل على جعل الأمن الغذائي العالمي رهينة لألاعيب السلطة الساخرة والتربّح، وذلك بينما تستمر في تصدير محصولها الضخم من الحبوب بنجاح.

لكن، الأستاذ المساعد في جامعة “كييف الوطنية” والباحث والمحلل السياسي ميكولا باستون، رأى أن ما تفعله روسيا من محاولات للضغط على خصومها الغربيين من خلال التأثير على صادرات الغذاء العالمي، سيدفع العالم إلى البحث عن مصادر بديلة، رغم أنه يقرّ بأن ذلك لن يكون أمرا سهلا، بيد أنه سيكون على غرار ملف الطاقة.

باستون وفي حديث مع موقع “الحل نت”، أشار إلى أن روسيا حاولت سابقا استخدام ملف الطاقة للتأثير على خصومها في الغرب، لكن ذلك دفعهم للبحث عن مصادر بديلة، وعلى الرغم من أنهم لم يتمكنوا حتى الآن من تعويض تلك الصادرات، غير أنهم سيصلون إليها، وهو ما أفقد روسيا مكانتها في سوق الطاقة، على اعتبارها مصدر أساسي، لكنها عادت لتستخدم ذات الطريقة في ملف الغذاء الذي لن يُزيدها سوى عزلة دولية.

روسيا واتساع العزلة الدولية

إذ يمكن المقارنة بين الوضع بين تصدير الطاقة والغذاء، لكن جزئيا فقط، ذلك لأن مصادر الطاقة متنوعة وهناك احتياطات كبيرة منها في العالم، أما مصادر الغذاء محدودة للغاية وتتقلص بسرعة، حيث يعتمد إنتاج المواد الغذائية على التربة الخصبة والمياه، وهذه العوامل في انحسار، لذلك فإن تعويض المنتجات الزراعية الأوكرانية بأي شيء آخر صعب جدا.

جانب من استهداف روسيا لميناء “إسماعيل” جنوب أوكرانيا/ إنترنت + (رويترز)

لكن في نهاية المطاف ستؤدي تصرفات موسكو هذه إلى زيادة عزلتها وخسائرها الاقتصادية، بحسب باستون، الذي أردف قائلا؛ لكن قد يتطلب حل هذه المشكلة أكثر من الوقت والجهود، بما في ذلك الضغط المباشر على “الكرملين” من أجل إجبارها على العودة إلى صفقة الحبوب والالتزام بتعهداتها السابقة، حيث لا يمكن تنويع مصادر الغذاء كما هو الأمر بمصادر الطاقة، لذلك ليست هناك خيارات كثيرة.

لذلك فإن أيّة حواجز في طريق تصدير الحبوب تؤثر على أسعارها في الأسواق، وفق الأستاذ المساعد في جامعة “كييف الوطنية” والباحث والمحلل السياسي الأوكراني، مستدركا، لكن الأسواق ترد بسرعة على أي تغييرات وتطورات، فقد تعود إلى الانخفاض، بيد أن ذلك سيكون ممكنا في حالة خرق وإزالة الحصار الروسي للبحر الأسود بطريقة أو أخرى.

على هذا الأساس، تبحث العاصمة الأوكرانية كييف عن طرق بديلة، هنا يؤكد باستون، ويشير إلى أنها ستتمكن في نهاية الأمر من إيجادها، لكنها ستكون أطول وابطأ وأغلى، مشيرا إلى أنه في الوقت الحالي، إلى أن استعادة الأسعار إلى المستويات الطبيعية هي مسؤولية موسكو.

من جانبه “الكرملين” يقول إن الرئيس فلاديمير بوتين، تحدث هاتفيا مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان، الذي ساعدت بلاده في إتمام اتفاق تصدير الحبوب عبر البحر الأسود، حيث كرّر بوتين شرط روسيا للعودة إلى اتفاق الحبوب، وهو تنفيذ اتفاقٍ موازٍ لتحسين شروط صادراتها من الغذاء والأسمدة، بيد أن هذه الصادرات معفاةٌ بالفعل من العقوبات التي يقول الغرب إن موسكو تهدف إلى تقويضها من خلال ممارسة الضغط على الإمدادات الغذائية العالمية.

تأثيرات روسيا على الغذاء العالمي

هذا وأدى انسحاب روسيا من اتفاق تصدير الحبوب عبر البحر الأسود، بحسب مراقبين، إلى تراجع حاد في صادرات الحبوب الأوكرانية في تموز/يوليو بنسبة 40 بالمئة مقارنة مع حزيران/يونيو، حيث أجبر التهديد الذي يتعرض له الشحن عبر الموانئ الساحلية أوكرانيا على تحويل المزيد من شحنات الحبوب إلى الموانئ المطلّة على نهر الدانوب التي تعاملت مع ربع الصادرات على الأقل قبل انتهاء سريان اتفاق البحر الأسود.

استهداف روسيا للموانيء الأوكرانية يؤدي إلى ارتفاع أسعار الغذاء عالميا/ إنترنت + وكالات

مع ذلك، فإن الطائرات الروسية المسيّرة، هاجمت في أواخر حزيران/يونيو ميناء “إسماعيل” مما دمّر مخازن للحبوب، وقالت موسكو إن مثل هذه الهجمات انتقامية لضربة أوكرانية على جسر تستخدمه روسيا لنقل الإمدادات إلى قواتها في جنوب أوكرانيا، وعلى الرغم من ذلك ذكرت وسائل إعلام أوكرانية الأحد الماضي، أن العديد من الشحنات الأجنبية وصلت للميناء من البحر الأسود للمرة الأولى منذ انتهاء أجل اتفاق الحبوب.

يشار إلى أن الاتفاق كان يهدف إلى السماح بتصدير كميات الحبوب الأوكرانية التي تحتاج إليها أسواق العالم بشدة لوقف ارتفاع أسعار الغذاء العالمية، ووفقا للجزء الأول من الاتفاق، تعهدت روسيا بعدم مهاجمة سفن الشحن التي تحمل الحبوب الأوكرانية من موانئ البحر الأسود.

في حين تتولى تركيا و”الأمم المتحدة” تفتيش حمولة السفن في المقابل؛ يقضي الجزء الثاني من الاتفاق بإعفاء صادرات روسيا من المنتجات الزراعية والأسمدة من العقوبات الأميركية والأوروبية، ومنذ توقيع الاتفاق قبل عام تم تصدير نحو 32 مليون طن من الحبوب الأوكرانية تتراوح قيمتها بين 8 و9 مليارات دولار إلى دول كثيرة، منها الصين، وإسبانيا وتركيا، فيما ساهم الاتفاق في خفض أسعار الغذاء العالمية بنسبة 11.6 بالمئة، بحسب مؤشر “الأمم المتحدة” لأسعار الغذاء.

الجدير بالذكر، أن الاتفاق رغم القيود الغربية، وادعاءات موسكو، قد ساعد روسيا في تصدير 60 مليون طن من الحبوب إلى الأسواق الخارجية خلال السنة الزراعية المنتهية في 30 حزيران/يونيو الماضي، حيث جنت أكثر من41 مليار دولار من هذه الصادرات.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات