الحكومة السورية تعيش الآن لحظات حرجة تجمع بين التحديات السياسية والاقتصادية، حيث تواجه اختبارا جديدا يضعها في مأزق معقّد بعد إلغاء الإعفاءات الأميركية التي شكّلت حلا مؤقتا لبعض معاناتها الاقتصادية التي تسببت بها سياسات الحكومة داخليا وخارجيا. 

منذ اللحظة التي تم الإعلان فيها عن إلغاء الإعفاءات الإنسانية من برنامج العقوبات الأميركية ضد دمشق، أصبحت العاصمة السورية في وضع يستدعي التركيز والبحث العميق. فمع محاولات الضغط المستمرة من جانب مراكز الأبحاث والشخصيات الأميركية المقرّبة من إيران، تنكشف مجموعة من السيناريوهات المحتملة التي يمكن أن تشهدها دمشق في المستقبل القريب.

لم تتمكن دمشق، حتى الآن، من الحصول على رخصة جديدة لتمديد الإعفاءات الإنسانية، مما يجعلها تواجه تحديا إضافيا يتطلب منها البحث عن حلول بديلة لمعالجة احتياجاتها. وهذا الوضع يشكل امتحانا حقيقيا لا سيما بعد الأنباء التي تحدثت عن تراجع الدور العربي بعد عدم تنفيذ دمشق لمتطلبات اجتماعات عمّان وجدّة في أيار/مايو المنصرم.

على الجانب الآخر، تتجلى خلف هذه المعضلة أيضاً مساعي دمشق لتجنب الانعزال والتشدد الاقتصادي الذي قد ينتج عن استمرار تأثير العقوبات، مما يثير تساؤلات حول العواقب المحتملة لهذا القرار على الوضع الاقتصادي في سوريا، وما هو التأثير المحتمل لهذا القرار على قطاع الوقود وأزمة المحروقات في البلاد، وكيف يمكن أن يؤثر ذلك على عمل الحكومة السورية ومؤسساتها.

دمشق على شفا أزمة

في تطورٍ استثنائي، أُثيرت موجة من التوتر والتساؤلات حينما انعكست أخبار رفض الولايات المتحدة تمديد الإعفاءات الإنسانية المفروضة على دمشق. حيث أبلغت وزارة الخارجية الأميركية لجنة العلاقات الخارجية في “مجلس النواب” السبت الفائت، قرارها برفض التمديد، وذلك بعدما أرسل مشرّعون أميركيون رسالة إلى إدارة “البيت الأبيض” تعبّر عن رفضهم القاطع لأي تمديد لهذه الإعفاءات.

هذا الإجراء يأتي بعد أن جمّدت وزارة “الخزانة” الأميركية جزءا من العقوبات المفروضة على الحكومة السورية، وجاء هذا القرار على إثر الزلزال المدمر الذي هزّ سوريا في السادس من شباط/فبراير 2023. وكانت الخطوة تهدف إلى تسريع وتحسين الاستجابة الإنسانية لمساعدة الضحايا والمتضررين.

لم يقتصر الأمر على تلك الجهود من المشرّعين الأميركيين فحسب، بل تدخل مركز “كارتر”، والذي يمتاز بعلاقته الوثيقة مع إيران، في حملة دبلوماسية مكثفة لتحقيق تمديد هذه الإعفاءات. حيث تجسّدت هذه الجهود في رسالة وجّهها المشرعون الأميركيون إلى وسائل الإعلام، مطالبين بالتمديد لمدة غير محددة، للعمل على تعزيز الجهود الإنسانية وتسهيل وصول المساعدات الإغاثية إلى الشعب السوري والتخفيف من معاناتهم.

بناء على الإعفاءات السابقة، قامت وزارة “الخزانة” الأميركية بإزالة قيود مالية كبيرة تتعلق بالتحويلات إلى الداخل السوري، بهدف تسريع تدخل إنساني ملحّ لمعالجة الآثار المدمرة للزلزال. بالإضافة إلى ذلك، فإن الحكومة السورية استغلت الإعفاءات في قطاعات لم تُشمل بالأصل بتلك الإعفاءات. وعلى الرغم من أن هذا التصرف كان معروفا للولايات المتحدة والدول الغربية بشكل عام، إلا أن الظروف الإنسانية والاستثنائية دفعت لتجاوز بعض التجاوزات.

اختبار جديد بعد إلغاء الإعفاءات الأميركية

لم تقتصر التجاوزات على التحويلات المالية فحسب، بل تم رصد وصول طائراتٍ تحمل مساعدات إنسانية مع مواد صناعية وبضائع محظورة وفقا للعقوبات المفروضة على سوريا. وجدير بالذكر أن هذه المواد لم تشملها تلك الإعفاءات.

ففي مشهد آخر يكشف تجاوزات أخرى؛ لوحظ خلال زيارة الرئيس السوري بشار الأسد، الأخيرة لمحطة “بانياس” الكهربائية وجود آلات من صناعة شركة “سيمنس” الألمانية. وهذه الآلات تم تصويرها ونشر الصور عبر وسائل الإعلام ويعتقد بأن تلك الآلات قد دخلت إلى البلاد خلال الفترة التي تلت الزلزال، وهذا يثير تساؤلات حول مدى التزام الأطراف ذات الصلة بالعقوبات وتأثيرها على السيناريوهات المستقبلية.

النائب الأردني وعضو اللجنة السورية – الأردنية، الدكتور هاني السرحان، أوضح لـ”الحل نت”، أنه مع انقضاء فترة هذه الإعفاءات، من المتوقع أن تعود هذه القيود مجددا. وهذا التحول سيعكس بشكل مباشر على قيمة الليرة السورية أمام الدولار الأميركي، وسيتسبّب أيضا في تفاقم أزمة الوقود والشلل الاقتصادي.

بعد تحول سوريا إلى إيران والصين وطلب خط ائتماني جديد من الدولتين خلال الأسبوع الفائت بقيمة 2 مليار دولار، فإن توجّه الولايات المتحدة يجري تحت التوافق الدولي، بحسب السرحان. 

يبدو بتقديرات السرحان أن دمشق لم تتخذ حتى الآن قرارا بشأن تخوفات المنطقة من تحالفها مع طهران وبكين، وهذا الأمر يفسّره الاتفاقيات الاقتصادية التي وقِّعت بينهما مؤخرا، لذا من المؤكد أن يكون إلغاء الإعفاءات الأميركية له عواقب وخيمة على الوضع الاقتصادي في سوريا. حيث ستؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع الأساسية، وتفاقم الأزمة الاقتصادية، وتزايد الضغوط الاجتماعية. كما ستؤدي إلى تباطؤ عملية إعادة الإعمار، وزيادة اعتماد سوريا على المساعدات الخارجية والتي ستكون على شكل ديون.

الحكومة السورية ومؤسساتها أمام الشعب

قبيل قرار إلغاء الإعفاءات الأميركية، واجهت دمشق تحديا بشأن قطاع المحروقات والسلع المحلية والليرة السورية، إذ أدى انخفاض قيمة الليرة إلى 13200 أمام الدولار إلى موجة رفع أسعار، شملت الوقود ورفع الدعم عن المحروقات وتحرير أسعاره، وإقرار زيادة جديدة على أسعار الخبز.

ليس ذلك فحسب، بل إن إعلان الممثل الخاص لبوتين ميخائيل بوغدانوف على هامش المنتدى الروسي الإفريقي، بأن الاجتماع الحادي والعشرين لمسار “أستانا” المنهار عمليا بشأن سوريا سيُعقد في كازاخستان قبل نهاية العام الجاري، اعتبر إيذانا بصنع العقبات أمام مبادرة عمّان و”الجامعة العربية” التي وافقت عليها واشنطن ضمنيا.

القرار الأميركي بإلغاء الإعفاءات الإنسانية سيترك وفقا لسرحان، تداعيات كبيرة على الوضع الاقتصادي في سوريا. من المتوقع أن يؤدي هذا القرار إلى تعميق أزمة المحروقات وارتفاع أسعارها بشكل أكبر، مما سيؤثر بشدة على حياة المواطنين وقطاعات الاقتصاد المختلفة. كما أن تقلبات قيمة العملة السورية مقابل الدولار ستزيد من تفاقم الضغوط الاقتصادية، وقد يتسبب ذلك في انهيار أو تدهور أكبر للوضع الاقتصادي وزيادة معاناة الشعب السوري.

العواقب المحتملة لهذا القرار على الوضع الاقتصادي في سوريا هي سلبية وخطيرة بتقديرات السرحان. فإلغاء الإعفاءات الإنسانية يعني تشديد العقوبات الأميركية ضد دمشق وحلفائها على حد سواء، وتقليص فرص التجارة والتعاون مع الدول والمنظمات الأخرى. وهذا يؤدي إلى تفاقم أزمة النقد الأجنبي والعجز في الموازنة والتضخم في سوريا. كما يزيد من الضغط على الموارد المحلية مثل الزراعة والصناعة والخدمات، التي تعاني بالفعل من تدمير الحرب والجفاف وجائحة “كورونا”.

استماتة دمشق للحصول على تمديد الإعفاءات الإنسانية يمكن تحليلها على أنها محاولة لتخفيف الضغط الاقتصادي والسياسي على نظامها، والحفاظ على بقائه في مواجهة المعارضة المسلحة والشعبية. كما يمكن أن تكون مصالح وأهداف دمشق خلف هذه الجهود هي استغلال الإعفاءات لتمويل حربها ضد خصومها، وتأمين مصادر للطاقة والغذاء والدواء لقواتها وحلفائها، وتجنب انهيار كامل للاقتصاد والمجتمع في مناطق سيطرتها.

الإعفاءات كان فرصة

تداعيات إلغاء الإعفاءات على العملة السورية والوضع المالي للبلاد هي سلبية أيضا تبعا لحديث السرحان. إذ يؤدي ذلك إلى تزايد الطلب على الدولار كعملة ملاذ آمن، وانخفاض قيمة الليرة بشكل كبير، مما يرفع من أسعار السلع المستوردة والمحلية، ويخفّض من قدرة الشراء للسكان. كما يؤدي إلى تضاؤل احتياطيات سوريا من الذهب والنقد الأجنبي، وزيادة عجز الموازنة، وصعوبة سداد ديونها. ويمكن توقّع تدهور أكبر في قيمة الليرة مقابل الدولار، خصوصا مع استمرار التدهور في اقتصادات لبنان وتركيا، التي تؤثر على سوريا بشكل مباشر.

التأثير المحتمل لهذا القرار على قطاع الوقود وأزمة المحروقات في سوريا بذات الجانب السلبي. إذ يؤدي إلى تقليل إمكانية استيراد سوريا للنفط والغاز من الخارج، أو الحصول عليها من المناطق التي تسيطر عليها المعارضة أو مناطق الإدارة الذاتية. كما يؤدي إلى زيادة تكاليف النقل والإنتاج والتوزيع للمحروقات داخل سوريا، وتفاقم نقصها وغلائها. وهذا يؤثر سلبا على عمل الحكومة السورية ومؤسساتها، التي تعتمد بشكل كبير على الوقود لتشغيل محطات الكهرباء والمياه والاتصالات والصحة والتعليم والأمن.

يمكن توقع تحولات جديدة في السياسات الداخلية والخارجية للحكومة السورية على إثر هذا القرار. فمن المحتمل أن تحاول الحكومة السورية تعزيز علاقاتها مع حلفائها الإقليميين والدوليين، مثل إيران وروسيا والصين، للحصول على دعم مادي وسياسي تحت بند ديون. 

كما قد تحاول الحكومة تنفيذ بعض الإصلاحات الاقتصادية لتحسين كفاءة الموارد المتاحة، وتشجيع بعض القطاعات المنتجة، وتخفيف بعض الضرائب والرسوم على التجار المقربين من السلطة لدحرجة كرة الاقتصاد وعدم توقفه حتى لو على حساب المواطن. أما على المستوى الداخلي، فقد تزداد حدة الصراعات بين مختلف الفصائل التابعة للجيش السوري والميليشيات الموالية له، بسبب نقص الموارد والفساد والانقسامات. كما قد تزداد حدة التظاهرات والإضرابات من قبل المواطنين المنزعجين من سوء الأوضاع المعيشية.

بسبب سياسة دمشق التي لم تراعِ الانفتاح العربي والغربي عليها ولو بشكل جزئي ، فإن هذا القرار سيتسبب في تصاعد التوترات والضغوط الاقتصادية على سوريا، وقد يؤدي إلى تفاقم الأوضاع المعيشية للمواطنين، إذ إن الحكومة السورية لن تأخذ بعين الاعتبار تأثيرات هذا القرار على الشعب والاقتصاد، والبحث عن حلول للتخفيف من الآثار السلبية المتوقعة، ما يؤكد أن صيفا ساخنا يتنظر دمشق.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات