مع تزايد الضغوط الاقتصادية والتحديات المالية التي تعصف بسوريا، يتصاعد الجدل حول قرار رفع الدعم، وهي خطوة محورية تثير تساؤلات حاسمة حول مستقبل البلاد ومعيشة ملايين السوريين. إذ إنها خطوة تحمل في طياتها تأثيرات عميقة ومتعددة الأوجه، تلامس حياة الشعب بجميع فئاته وترسم ملامح المرحلة المقبلة بألوان متنوعة.

على مدى السنوات الماضية، شهد السوريون تغيرات جذرية في واقعهم الاقتصادي، حيث تداولت السوق بوتيرة متسارعة بين انخفاض قيمة الليرة وارتفاع تكاليف المعيشة. ورفع الدعم عن الموارد الأساسية يمثل تحدٍّ كبير، فهو قرار يستدعي التفكير الجاد والمعاينة الدقيقة لتقييم السيناريوهات المحتملة.

قرارات رفع الدعم لها تأثيرات متشعبة، فهي ليست مجرد تغيير في أسعار المواد والخدمات، بل إنها تمسّ بشكل مباشر معيشة الناس، تتسلل إلى أُسرهم، وتلامس تطلعاتهم المعقدة. ولكن ما السيناريوهات القادمة والآثار المحتملة لها.

الحكومة تخالف الدستور

وفقا للدستور السوري فإن الحكومة الحالية مُلزمة بتقديم بيان خطتها الاقتصادية لمجلس الشعب، وفي حال عدم التنفيذ والعدول عنها كرفع الدعم، فيجب أن تستقيل لتفسح المجال لحكومة جديدة تحوز ثقة المجلس بموجب سياسة أخرى.

ظاهريا يبدو أن التوجه الحالي للحكومة مستمر في اتجاه رفع الدعم، وقد يكون هذا الرفع نهائيا، إلا أن السؤال الذي لا يزال يشغل الأذهان هو، ما البديل الواقعي الذي سيحلّ محل منظومة الدعم. يبدو أن الأمور ليست واضحة في هذا الصدد، وتعتبر زيادة الرواتب غير كافية لتحقيق هذا البديل، إذ إنها تمثل إجراءا استباقيا لمواجهة ارتفاع الأسعار، وهو إجراء تم تنفيذه بشكل دوري على مدى عقود مضت.

في هذا السياق، يعتبر الخبير الاقتصادي عامر شهدا، أن تنفيذ عملية رفع الدعم في الدول النامية يشكل مهمة معقدة، حيث تتطلب إعدادا مؤهّلا وخبرات اقتصادية عميقة. فعملية تغيير نظام الدعم تتطلب تحضيرات دقيقة وتقييم شامل للآثار المحتملة على الاقتصاد والمجتمع. 

بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يتم ذلك في إطار بيئي يسمح بتطبيق وإدارة هذه السياسات بفعالية وتأثير إيجابي على الناس بشكل عام.

أيضا يجب  تسليط الضوء على السلع المستهدفة لرفع الدعم عنها، وتقييم فعلي للسلع المدعومة وإلى أي مدى يستفيد المواطنون من هذا الدعم الذي يأتي ضمن إطار الخطة الاقتصادية. وهذا السياق يثير العديد من التساؤلات، منها متى تمّ توزيع مخصصات التموين آخر مرة عبر “السورية للتجارة”، وكم عدد المستفيدين الفعليين من دعم البنزين والمازوت الذي يُوزّع بناء على برامج الدعم.

الرقم المعلن عنه 27500 مليار ليرة كتكلفة للدعم مبالغ فيه بحسب تصريحات الأستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة “دمشق”، شفيق عربش، لموقع “سيريا ستيبس” أمس الخميس. فإذا كان هذا المبلغ يُنفق فعليا على الدعم، فإنه يخالف الدستور من حيث الإنفاق. 

بيانات الموازنة للعام الحالي 2023 أظهرت أن قيمة الدعم من اعتمادات الموازنة بلغت 15500 مليار ليرة، بينما بلغت اعتمادات الدعم في الموازنة 4921 مليار ليرة. وإذا كان الفارق بين هذين الرقمين والبالغ 23000 مليار ليرة يأتي من مصادر خارجية للتمويل، فإن هذا يتطلب بلا شك التحقيق والمساءلة بشأن كيفية ومن أين تأتي هذه الأموال وكيف تُستخدم بالتحديد.

سترتفع الأسعار 50 بالمئة

بالنسبة لتقديرات سقف متوسط الرواتب والأجور المتوقعة بعد رفع الدعم، أوضح الدكتور عربش أن الحد الأدنى للمعيشة كان من المتوقع أن يكون لا يقل عن مليون و700 ألف ليرة شهريا لكل أسرة قبل رفع الدعم. 

فضلا عن ضرورة ضبط الأسواق بشكل جيد، حيث يجب تجنّب أي تحليق للأسعار لمستويات غير معقولة في حال تم رفع الدعم. وإذ من المتوقع أن تشهد الأسعار زيادة تفوق 50 بالمئة بعد تنفيذ عملية رفع الدعم.

فيما يتعلق بتأثيرات رفع الدعم على سعر الصرف، أبدى عربش رأيه بأنه منذ بداية شهر شباط/فبراير الفائت عندما اتخذ “البنك المركزي” قراره بمقاربة سعر الصرف الرسمي للسوق الموازية، انخرط في دور تابع أكثر من دور القائد. وإذا استمرت هذه السياسة، فإن سعر الصرف قد يشهد ارتفاعا إضافيا في المستقبل.

عمليا وبحسب حديث الخبير الاقتصادي، ماجد الحمصي، لـ”الحل نت”، فهناك ثلاثة سيناريوهات متوقعة لمستقبل الدعم في سوريا، وهي استمرار رفع الدعم عن شرائح جديدة من المجتمع، بناء على مؤشرات اقتصادية أو اجتماعية، مثل حجم استهلاك المادة المدعومة أو نوعية المسكن أو عدد أفراد الأسرة. وهذا السيناريو قد يؤدي إلى تخفيف عبء الموازنة على حساب زيادة التضخم وانخفاض قدرة المستهلك على التوريد.

أما السيناريو الثاني، فهو إلغاء كامل للدعم عن جميع المادات والخدمات، باستثناء بعض المستحقات التأمينية أو التقاعدية. وهذا السيناريو قد يؤدي إلى تحرير سوق المادات والخدمات من التلاعب والهدر والفساد، لكنه قد يزيد من حجم التفاوتات الطبقية والإقليمية والانقسامات الاجتماعية.

 يما يخص السيناريو الثالث، فإنه بحسب الحمصي، يعني إعادة توزيع الدعم بشكل مباشر على الأسر الأكثر احتياجا، عن طريق منحهم مبالغ نقدية أو كوبونات شرائية أو بطاقات تموينية. وهذا السيناريو قد يؤدي إلى تحسين العدالة الاجتماعية وزيادة الكفاءة الاقتصادية، لكنه يتطلب وجود آليات دقيقة وشفافة لتحديد المستفيدين ومراقبة التنفيذ.

الوضع السوري لا يناسبه تعويم الليرة

“الأسوأ لم يأتِ بعد”، أصبحت هذه الجملة واحدة من العبارات الأكثر تداولا بين السوريين خلال الفترة الماضية، فرغم كل الانهيارات التي صاحبت المستوى المعيشي في البلاد، فإن التوقعات ما تزال تشير إلى أن القادم أسوأ، خاصة في ظل انعدام ردة الفعل من قبل الحكومة لمواجهة السقوط الحر لقيمة الليرة السورية أمام العملات الأجنبية.

رفع الدعم عن بعض السلع والخدمات الأساسية في سوريا هو قرار اتخذته الحكومة السورية منذ شباط/فبراير 2022، بهدف إعادة هيكلة الدعم وتحقيق العدالة ودعم الشرائح الأكثر حاجة وسد العجز في الموازنة العامة للدول.

بهذا القرار تأثر حتى الآن حوالي 600 ألف بطاقة أُسرية، أي ما نسبته 15 بالمئة من إجمالي البطاقات، وهي تنتمي إلى شرائح اعتبرتهم الحكومة من ذوي الدخل مرتفع أو المتوسط، مثل كبار دافعي الضرائب أو أصحاب السجلات التجارية أو الصناعية أو المُلّاك العقاريين أو مالكي السيارات.

طرح تعويم الليرة السورية بعد وصولها لحوالي 14 ألف ليرة مقابل الدولار الواحد، يفسّره الحمصي على أنه إجراء اقتصادي يعني ترك سعر الصرف ليتحدد وفقا للعرض والطلب في السوق، دون تدخل من “البنك المركزي”. 

هذا الإجراء قد يكون مفيدا في بعض الظروف، مثل تحسين التنافسية الخارجية وتشجيع الصادرات والاستثمارات. لكنه يتطلب أيضا بعض الشروط، مثل وجود احتياطي كاف من العملات الأجنبية، وسوق نقدية سيولة وكفاءة، وحوكمة جيدة وسياسات مالية ونقدية مستقرة.

في حالة سوريا، لا تتوفر هذه الشروط، بل على العكس، يعاني الاقتصاد السوري من استنزاف الموارد وإنهاك البنية التحتية والإنتاجية نتيجة للصراع المستمر منذ عام 2011. كما يتأثر الاقتصاد بالأزمات المالية في لبنان وتركيا، والفساد والهشاشة المؤسسية. وكل هذه العوامل تؤدي إلى تدهور سعر الصرف وارتفاع التضخم والفقر والجوع.

لذلك، فإن تعويم الليرة في ظل هذه الظروف قد يزيد من التدهور بدلا من تحسينه، حيث قد يؤدي إلى انخفاض قيمة الليرة بشكل كبير أمام العملات الأجنبية، وارتفاع أسعار المواد الأساسية والخدمات، وانخفاض مستوى المعيشة للمواطنين. 

بالإضافة إلى ذلك، قد يؤدي تعويم الليرة إلى فقدان الثقة في السلطات المالية والنقدية، وزيادة التهرب الضريبي والتهرب من التزامات التمويل. لهذه الأسباب، فإن معظم المحللين الاقتصاديين يحذّرون من تعويم الليرة أو حذف الأصفار منها.

ملخص الحياة في سوريا هو “أزمة ثم تقنين ثم غلاء”، ورفع الدعم قد يتسبب في تفعيل سلسلة من التحولات الاقتصادية والاجتماعية، فمن الممكن أن يؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع الأساسية والخدمات الضرورية، وهو ما قد يزيد من حدة الضغوط على الفئات الأكثر ضعفا في المجتمع.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
1 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة