في زمن تتشابك فيه الأمور الاقتصادية والاجتماعية بشكل لا يمكن تجاوزه، تبرز ظاهرة مربكة تنذر بعواقب وخيمة. تتسلل إلى قلوب الناس وحياتهم اليومية، تاركة وراءها آثارا تُلحق بالاقتصاد الوطني لدولة سوريا. إنها ظاهرة الاكتناز، الظاهرة التي بدأت تتسلل بجرأة إلى المشهد الاقتصادي خلال الأشهر الأخيرة، تاركة وراءها أسئلة ملحّة تتطلب إجابات واضحة.

الاكتناز هي ظاهرة تنمّ عن حالة من الخوف والقلق والعدمية لدى الناس، تدفعهم إلى التشبث بأموالهم وممتلكاتهم، وعدم الاستثمار أو الإنفاق أو التبرع بها. فهي تعكس نقص الثقة بالنظام الاقتصادي والسياسي والأمني، وتشير إلى تدهور الوضع المعيشي والاجتماعي. كما أنها تؤدي إلى تراجع النشاط الاقتصادي والتجاري، وانخفاض الطلب والعرض، وزيادة التضخم والفقر.

ظاهرة الاكتناز في سوريا تجسّد انغلاقا اقتصاديا خطيرا، فبينما يُحاول الاقتصاد الوطني التعافي والنهوض من بين أشلاء الأزمات المالية والاقتصادية، يتمسك البعض بمقتنياتهم بشدة، مما يقيّد التداول الاقتصادي ويجمّد عجلة الحركة المالية. والنتيجة هي انحسار السيولة وتضييق الفرص الاقتصادية، ما يتسبب في تباطؤ وانخفاض النشاطات التجارية.

كيف بدأت ظاهرة الاكتناز في سوريا؟

إن مفهوم الاكتناز يتجاوز الجمود المادي ليصل إلى الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية. فالاكتناز ليس مجرد حفظ الأموال والثروات، بل تدرجت هذه الظاهرة إلى شراء وتجميع كميات ضخمة من السلع والخدمات، بغض النظر عن الحاجة الفعلية لها. وهذا السلوك الاقتصادي يخترق الأسواق ويثير تساؤلات مهمة حول تأثيره على البنية الاقتصادية والمجتمعية.

لكن هذا الاتجاه للحفاظ على الثروات يسبب توترا في الأوضاع المالية ويخلق حالة من عدم اليقين في السوق. وعليه تُثار التساؤلات حول أن هذه الظاهرة مخطط محكم يهدف إلى ضرب البنوك ونزع جذور الاقتصاد، أم هو تعبير عن حالة من القلق وعدم اليقين التي تخيم على مستقبل الاقتصاد المحلي.

رجل الأعمال والخبير في الشؤون الاقتصادية السورية، منير الزعبي، أوضح لـ”الحل نت”، أن ظاهرة الاكتناز في سوريا هي ظاهرة اقتصادية اجتماعية ظهرت في الأشهر الأخيرة، وهي تتمثل في اتجاه الناس إلى جمع الأموال والذهب وليس ذلك فحسب؛ بل شراء وجمع السلع والخدمات بكميات كبيرة، دون الحاجة إليها فعليا.

طبقا للزعبي، فإن كلمة الاكتناز تطلق كترجمة للمصطلح الاقتصادي باللغة الإنكليزية “هوردينغ” وتعريف الاكتناز بمعناه الاقتصادي أنه إمساك النقود وحبسها عن التداول، وقد يكون الاكتناز بدفن النقود أو بحفظها في الصناديق داخل البيوت وعدم إخراجها للتداول في أسواق النقد ورأس المال.

هذه الظاهرة بحسب الزعبي ليست جديدة في سوريا، ولكن انتشارها مؤخرا حتى على مستوى السلع يدل على أن الأفق العام للاقتصاد السوري أمام موجة تضخم كبيرة، فضلا عن أن هذا سيؤدي إلى شلل السيولة داخل الأسواق التي افتقدت في الأشهر الأخيرة للقوة الشرائية.

عدم الثقة في النظام المصرفي السوري

ظاهرة الاكتناز في سوريا تتجلّى كعبارة عن استجابة متسارعة لظروف اقتصادية وسياسية معقدة. وهذه الظاهرة الشائكة تتجلى في اتجاه الأفراد نحو تجميع الأموال والمقتنيات بما يفوق الحدود العادية، ولكن ما يبدو أنه يكمن وراء هذا السلوك الاقتصادي المتغاضي عنه هو عامل الثقة، أو بالأحرى نقص الثقة في النظام المصرفي السوري.

في وقت تشهد فيه البلاد تقلبات اقتصادية جذرية وتدهورا متسارعا في القيمة الشرائية للعملة المحلية، يصبح الشك وعدم اليقين حلّا دائما في الواجهة. حيث يعيش الأفراد على وقع الشائعات والتكهنات بخصوص مصير النظام المالي ومستقبل الاقتصاد. وهذا ما يدفع بعضهم إلى اتخاذ قرارات احتياطية، منها تجميع الأموال وتحويلها إلى مقتنيات ذهبية أو عقارات، كما يقلّلون من استخدام البنوك ويفضّلون تخزين أموالهم خارج النظام المصرفي.

على الرغم من جهود الحكومة لتحفيز الثقة وتحقيق الاستقرار، إلا أن الاكتناز يبقى ظاهرة تشكّل تحديا خطيرا للنظام المالي السوري. فقد تؤدي هذه الظاهرة إلى نقص السيولة في البنوك وعجزها عن تقديم القروض والتسهيلات الاقتصادية المطلوبة للأفراد والشركات. وكذلك، قد تؤثر في تقليل حجم الودائع المصرفية وزيادة التوترات النقدية.

في سياق محلي وجيوسياسي غير مستقر في سوريا، كما في مجمل الشرق الأوسط، لا تنذر سنة 2023 بالخير وفقا لتوقعات مدير الموقع الاقتصادي “سيريا ريبورت”، جهاد يازجي، الذي يبين أنّ حالة الاقتصاد ستزداد خطورة، مع ارتفاع نسب السكان المفقّرين الذين يعيشون تحت ظروف أكثر بؤسا، ويبحثون عن منجى لهم.

ثقافة الاستهلاك التي تروج لها وسائل الإعلام

إن ثقافة الاستهلاك التي تروّج لها وسائل الإعلام تمثل جوانب متعددة ومتضاربة في المشهد الاجتماعي والاقتصادي. حيث تعد هذه الثقافة نتاجًا للتفاعل المعقّد بين العوامل الاقتصادية، والثقافية، والتكنولوجية، ولعبت دورا كبيرا في تشكيل نمط الحياة وسلوك المستهلكين منها ظاهرة الاكتناز.

في الفترة الأخيرة، كانت معظم المقالات الصحفية والبرامج التلفزيونية وحتى على مواقع التواصل الاجتماعي في سوريا تتحدث عن ارتفاع الأسعار، والتضخم وانهيار الليرة السورية، فضلا عن انهيار الوضع الاقتصادي محليا، وهذا نتج عنه أسلوب الحياة الاستهلاكي والتشجع على الشراء وتعزيز فكرة الاكتناز على مستوى السلع.

ثقافة الاستهلاك المعمول بها أثرت بحسب الزعبي، على سلوك المستهلكين بطرق متعددة. حيث شجعت وسائل الإعلام على شراء المزيد من الممتلكات والمستلزمات الجديدة، وسحب الودائع من البنوك وتصريف العملة المحلية إلى الدولار، مما أدى إلى زيادة الإنفاق وتحفيز دورة اقتصادية نشطة لبعض الوقت. 

لكن في الوقت نفسه، فإن نتائج هذه الثقافة ستظهر خلال الأشهر القادمة بعد الإفراط في الاستهلاك وإهدار الموارد وزيادة الديون الشخصية بهدف الاكتناز.

إضافة إلى ذلك، يمكن أن تؤدي ثقافة الاستهلاك ومن ثم الاكتناز إلى تأثيرات اجتماعية أخرى. إذ سيعمل التركيز الشديد على الاقتناء المادي إلى انعدام التوازن في العلاقات الاجتماعية، والتسبب في شعور بالتفرقة وعدم الرضا. كما يمكن أن يتسبب الضغط لمواكبة عدم غلاء السلع مما سيزيد في مستويات القلق والتوتر لدى الأفراد.

من الممكن أن يكون التلاعب بسعر الصرف والتضخم المستمر من بين العوامل التي تزيد من عدم  الثقة بين المواطن السوري ومؤسسات الدولة. خصوصا أن سياسات الحكومة وآليات الرقابة المالية والمصرفية ودورها في تعزيز الثقة بين الجمهور غائبة كليا، ولذا فإن آثار ظاهرة الاكتناز ليست مجرد محدودة في الوقت الحاضر، بل قد تتجاوز حدود الزمن الراهن لتلامس مستقبل الاقتصاد الوطني وتنعكس على سيرورة التنمية والبنوك.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات