المطبخ السوري هو من أغنى وأشهى المطابخ في العالم، فهو يتميز بتنوع وتعدد أطباقه الشعبية والتقليدية، التي تحمل في طعمها ورائحتها تاريخا وثقافة وهوية أصيلة. من بين هذه الأطباق، نجد المكدوس واللبنة والزعتر وغيرها من الأكلات التي تشتهر بها سوريا، والتي تُعدّ بمهارة وإتقان من قِبل ربّات البيوت، خصوصا في فصل الشتاء، حيث تُعتبر مؤونة شتوية للأسرة.

إلا أن تكلفة أحد هذه الأطباق الشعبية تعادل 3 رواتب موظف حكومي هو عنوان ملفت للانتباه، فهو يُظهر حجم المأساة التي يعيشها الشعب السوري، والتحديات التي يواجهها في تأمين لقمة عيشه. كما أنه يُلقي الضوء على تدهور وانهيار الاقتصاد السوري، وفقدانه القدرة على تلبية احتياجات المواطنين.

هنا تثار العديد من التساؤلات، من بينها هل يستطيع المواطن السوري في ظل الأزمة الاقتصادية التي تضرب البلاد منذ سنوات، أن يحظى بهذه الأطباق على مائدته، وما هي التكلفة التي يتطلبها تحضير هذه الأطباق في ظل ارتفاع أسعار المواد الغذائية بشكل جنوني، وما الآثار السلبية التي قد تنجم عن هذا الارتفاع على صحة وغذاء المجتمع السوري.

أطباق تفوق رواتب الموظفين الحكوميين

حتى مع الزيادة التي أصدرها الرئيس السوري بشار الأسد، ليل الثلاثاء – الأربعاء على رواتب الموظفين، إلا أن  قائمة المؤن المتعلقة بموسم الشتاء تُعد تحديا بسبب تأثير الارتفاع الجارف للأسعار على القدرة الشرائية والحياة اليومية للمواطن البسيط.

سُلّم رواتب الموظفين الحكوميين الجديد والعلاوات السنوية، لا تكفي لصناعة كيلو واحد من طبق “المكدوس” السوري، وتواجد هذا الطبق على مائدة السوريين هذا العام في ظل الارتفاع الجنوني للأسعار محط جدل، لا سيما وأن تكلفة 50 كيلو من “المكدوس”، بعد شراء الباذنجان بـ 100 ألف ليرة، وكيلو جوز بـ 85 ألف ليرة، يُضاف لها 25 كيلو فليفلة بقيمة 50 ألف ليرة، كما تحتاج إلى نصف كيلو من الثوم بسعر 7500 ليرة، و4 لتر من الزيت النباتي، بقيمة 100 ألف ليرة، وبالتالي يكون ناتج التكلفة 342 ألف ليرة، أي ما يعادل مبلغ 3 رواتب لموظف حكومي قبل الزيادة وراتبَين بعد الزيادة.

بعض الأطباق الشعبية أيضا مثل اللبنة باتت تتفوق في بعض الأحيان على رواتب الموظفين الحكوميين، حيث أصبح تكلفة عمل 10 كيلو لبنة للمونة الشتوية لأسرة مكونة من 5 أشخاص يتجاوز 600 ألف ليرة سورية، ما يعادل سعرها قيمة رواتب الموظف لمدة 3 أشهر وقد يتجاوزها أحيانا.

من طعام الفقراء إلى طعام الأغنياء!

مع تتالي الأزمات الاقتصادية التي تعصف بالبلاد وارتفاع الأسعار يوما بعد يوم، يبدو أن العائلات السورية ستمتنع رويدا رويدا عن الشراء، حيث قرر معظمهم تقليص احتياجاتهم إلى النصف أو الربع في ظل ارتفاع أسعار السلع التي تجاوزت قدرتهم على الشراء.

فمع التدهور الأخير في قيمة الليرة السورية، حيث وصلت لنحو 15000 ليرة مقابل الدولار الواحد في أسواق الصرف المتداولة اليوم على منصات العملات، ارتفعت بموجب ذلك الأسعار من كل حدب وصوب، ما زاد الأعباء المعيشية التي يبدو أنها وصلت إلى ذروتها في الوقت الحالي.

بعض الأطباق الشعبية التي كانت تُقدّم في اليوم بمختلف المحافظات السورية، أصبحت نادرة أو باهظة الثمن بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية. ليس ذلك فحسب بل تحولت من أطباق على موائد الفقراء، إلى أكلات يتناولها الأغنياء كالمكدوس والشاكرية والورق عنب، والفلافل والفول والحمص وشيخ المحشي.

بعض الأطباق التي كانت تُعتبر طعاما للفقراء فقط، إلا أنها انتشرت لاحقا على موائد الأغنياء، نظرا لغلاء أسعارها، حيث تأثرت المائدة السورية بالأزمة الاقتصادية التي تضرب سوريا منذ سنوات، فارتفع سعر كيلوغرام من لحم الموزات إلى 90 ألف ليرة سورية، في حين ازداد سعر كيلو غرام من لحم المفروم إلى 75 ألف ليرة سورية، مما جعل من تحضير بعض الأطباق التقليدية مستحيلا للكثير من المواطنين.

كانت الأطباق الشعبية في الماضي بحسب حديث الصحفي السوري، نذير الحريري، لـ”الحل نت”، تمثل ببساطتها واقتصاديتها خيارا رئيسيا للفقراء والطبقات المتوسطة، حيث كانت تُعد مصدرا غذائيا معقولا وميسور التكلفة. لكن مع تصاعد أسعار المواد الغذائية وارتفاع تكاليف الحياة، شهدت الأُسر السورية تحوّلا غير متوقع، حيث أصبحت هذه الأطباق البسيطة تتحول تدريجيا إلى رمز للفخامة والترف.

“رفع الرواتب.. ورفع كلشي معاها”

بعد زيادة رواتب السوريين ليلة أمس الثلاثاء، قامت الحكومة برفع مشتقات النفط داخل البلاد ورفعت الدعم عن مادة البنزين، وعلى سبيل المثال قبل زيادة الراتب، كان راتب الموظف 140 ألف يشتري 46 ليتر بنزين، واليوم بعد زيادة الراتب والذي أصبح 250 ألف يشتري 31 لتر بنزين.

“الأسوأ لم يأتِ بعد”، أصبحت هذه الجملة واحدة من العبارات الأكثر تداولا بين السوريين خلال الفترة الماضية، فرغم كل الانهيارات التي صاحبت المستوى المعيشي في البلاد، فإن التوقعات ما تزال تشير إلى أن القادم أسوأ، خاصة في ظل انعدام ردة الفعل من قِبل الحكومة لمواجهة السقوط الحر لقيمة الليرة السورية أمام العملات الأجنبية، وزيادة الأسعار المتوقعة بسبب رفع أسعار المحروقات.

قبل نحو أربعة أشهر كانت التسريبات الحكومية تشير إلى خطة لزيادة الرواتب بنسبة لا تقل عن 70 بالمئة، وذلك نتيجة ارتفاع معدلات التضخم وارتفاع أسعار السلع الأساسية، وكان سعر الدولار الأميركي وقتها 8000 ليرة سورية للدولار الواحد.

أما اليوم فقد بلغ سعر صرف الدولار الأميركي نحو 15 ألف ليرة للدولار الواحد، ومع زيادة الأجور والرواتب في سوريا مئة بالمئة بشكل رسمي، فإن قطار ارتفاع الأسعار لم يتوقف عن السّير بسرعة كبيرة، حيث ستشهد الأسواق تضاعف جميع أسعار السلع والخدمات في البلاد.

هذا التحول يعكس تغيرات في مفهوم القيمة والاستهلاك، حيث أصبح الطعام الشعبي يُقدّر اليوم بشكل أعلى من قبل الطبقات الثرية والميسورة، في حين أن التقنين الذي تمارسه الأُسر السورية والموظفين الحكوميين يظهر أن مفهوم القيمة والرمزية للأطباق الشعبية قد انقلبت رأسا على عقب. وتظهر هذه الظاهرة أن الطعام لم يعد مجرد وجبة يومية، بل يحمل في طياته قصصا معقّدة عن تطور المجتمع وتحولاته المستمرة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات