في زمن تشهد فيه سوريا أزمات اقتصادية وإنسانية خانقة، تظهر ظاهرة غريبة على المجتمع السوري؛ إنها هوس التسوق والشراء للسلع الفخمة وغير الضرورية، التي تفوق قدرات معظم المواطنين. وهذه الظاهرة تستفز الملايين من السوريين الذين يعانون من نقص في المواد الأساسية، وتثير التساؤلات حول دوافعها وآثارها على المجتمع.

فتحت عنوان الثقافة الاستهلاكية في سوريا، هل هي فرار من الواقع أم تحدي له، تثار التساؤلات حول أسباب وخلفيات هذه الظاهرة، والعوامل التي تؤثر على سلوك المستهلك في سوريا. بعض الأمثلة من حسابات التواصل الاجتماعي التي تعرض صورا للسلع المشتراة بأسعار باهظة، والانتقادات التي توجه لهذه الحسابات من قبل المتابعين تشير إلى مدى تأثير هذه الظاهرة على نفسية المستهلك والمجتمع.

الشراء بشكل يومي ومن أفخم الأماكن

مع عصر التطور والتغيير المستمر، حيث تتعايش التقنية والثقافة والاقتصاد في سياق واحد، وفي هذا الإطار تبرز ظاهرة تثير الفضول وتشد الانتباه، ظاهرة تتعلق بسلوك الإنسان واستجابته لمحيطه. هوس التسوق والشراء، هذا المفهوم الذي تعبّر عنه الصور والعبارات الملونة التي تغزو وسائل التواصل الاجتماعي، والذي يحمل في جوانبه تفاصيل معقدة تلتقي ما بين الغرابة والتأثير، وتحمل أهمية لا تقل عن أهمية الحاجات الأساسية.

في مجتمعٍ يعيش على وقع الصراعات والتحديات الاقتصادية، تظهر ظاهرة غير مألوفة ومتناقضة؛ هوس التسوق والشراء. فرغم ارتفاع أسعار السلع والخدمات بشكلٍ غير مسبوق، يبدو أن هناك طبقة محددة في سوريا انطلقت في سباق مع الزمن والمال، حيث أصبحت غنية جدا لدرجة لا تعكس الوضع الاقتصادي المتردي في البلاد. ويتساءل الكثيرون عن سر هذا الاستمرار في التسوق والشراء، على الرغم من الظروف القاسية التي يعيشها الكثيرون في سوريا.

هذه الظاهرة المتجددة تأتي في وقت تتزايد فيه تفاصيل الحياة اليومية وقرارات الشراء على منصات التواصل الاجتماعي. حيث يقدم الأفراد تجاربهم ومشترياتهم بفخر، مما يشجع على تعميق هذا السلوك الاستهلاكي. وهنا يبرز التساؤل الأساسي؛ هل هذا السلوك مجرد رد فعل للرغبة البشرية الأساسية في الحصول على الأشياء، أم أن هناك عوامل أخرى تحفز هذا التصرف.

طبقا لحديث الصحفي السوري، محمد الشرع، فإن ظاهرة الشراء وعرضها على مواقع التواصل الاجتماعي، وزيارة أفخم المحال داخل المدن الرئيسية في سوريا كدمشق وطرطوس، باتت منتشرة، وكل يوم تتصدر فيديوهات هؤلاء عبر صفحاتهم لعرض ما حظوا به خلال تسوقهم اليومي.

الشرع خلال حديثه لـ”الحل نت”، ذكر أن هذه الظاهرة ترتبط بعوامل متعددة، منها طبقة الأفراد الذين يملكون مواردا كبيرة تمكنهم من التسوق والشراء بغض النظر عن الوضع الاقتصادي. وأيضا ترتبط بالأنماط الثقافية والاجتماعية التي تشجع على الاستهلاك الزائد وتحسين الصورة الشخصية من خلال الملكيات المادية. 

الفجوة الطبقية خلقت فجوة سوقية

خلال تموز/يوليو الفائت، أثارت تصريحات المبعوث الأممي إلى سوريا، غير بيدرسن، أن 90 بالمئة من السوريين يعيشون تحت خط الفقر. فئة معينة داخل سوريا، اعتبرت هذه الشريحة الأرقام التي تخص الفقراء في سوريا هي خيال، مشكّكين بأن يعيش السوريون تحت خط الفقر بالفعل، وأن هذا مجرد رقم يحاول إثارة التعاطف ولفت انتباه العالم.

كميش بفاريان الذي يعيش في طرطوس، ذكر أن طرطوس وحدها يوجد بها نصف مليون يمتلكون سيارات من ماركة “أودي” و”بي إم دبليو” و”مرسيدس”، وأيضا هناك شريحة لا بأس بها تتوافد للسهر في أرقى نادي ومجمع سياحي بالمدينة “البورتو” يوميا، فضلا عن مرتادي الشاليهات.

داخل مولات دمشق حاليا والتي بلغ عددها 120 مول بتكلفة 10 بليون ليرة سورية أي ما يعادل 666 مليون دولار أميركي، حيث أصبح الأطفال قبل الكبار يطالبون بزيارة هذه المباني التجارية الضخمة، ذات الرفاهية العالية، من أجل ظفر الشراء منها.

ظاهرة المولات التجارية في سوريا شكلت بديلا حقيقيا عن الأسواق التجارية المتنوعة والمتخصصة، لفئة معينة داخل سوريا، وهي الفئة التي لم تتأثر بالأوضاع الاقتصادية، أو من تعيش على أموال وحوالات كبيرة تأتيها من الخارج، وبحكم تفاوت سعر الصرف، فإن المبالغ المرسلة من الخارج كفيلة أن تقلب حياة أي أسرة.

العودة إلى المسألة الطبقية في سوريا، بدأت أثاره بالظهور لينشب صراع طبقي داخل البلاد، حيث أثرت السياسات الاقتصادية للحكومة السورية على تفاقم هذه الفجوة وزيادتها بين الأغنياء والفقراء.

الفروق الطبقية في سوريا ازدادت بعد الحرب بشكل غير مسبوق. وإذا كان التدهور الاقتصادي من أبرز نتائج أي حرب كانت، فإن توسيع الفجوة بين طبقات المجتمع بين أهالي البلد في سوريا، الذين يعانون من الحرب، ليس مسارا حتميا للأمور؛ بل يتعلّق غالبا بسياسات السلطات الحاكمة، وكيف تدير شؤون الناس الذين تحارب بهم وباسمهم.

قرارات الحكومة لا تشملهم؟

في ظل الأوضاع الاقتصادية المعقدة، فإن الفجوة الطبقية لم تقتصر على تأثيرها على القطاعات الاجتماعية والاقتصادية فقط، بل صاغت أيضا واقعا جديدا في عالم التجارة والاستهلاك. حيث الفجوة السوقية هي مصطلح يجمع بين الواقعين المتباينين للاقتصاد الحالي، مكنت الفجوة بين الطبقات الاقتصادية وأثرت على نمط الشراء والاستهلاك.

فعلى الرغم من أن الأزمات الاقتصادية تطال كافة فئات المجتمع، إلا أنّ تأثيرها يتفاوت حسب الدخل والثروة. وهذه التفاوتات أدت إلى نشوء فجوة سوقية بين الطبقات المختلفة في المجتمع، حيث تزداد الطبقات الغنية تمكنا من الاستمرار في تلبية احتياجاتها ورغباتها الاستهلاكية، بينما تجد الطبقات الأقل حظا نفسها مضطرة لتقليص نفقاتها وتعديل أنماطها الاستهلاكية.

بحسب الشرع، فإن رؤية إحدى الشخصيات تعرض شراء مزهرية بحوالي 9 مليون ليرة من أحد المولات، يدل على أن قرارات الحكومة حول الاقتصاد والتضخم والندرة في المصادر لا تمس هؤلاء، وكأنهم يعيشون في عالم آخر لا علاقة له بسوريا.

الفجوة السوقية تسلط الضوء على الجوانب المتنوعة للسلوك الشرائي للأفراد في سوريا، حيث تظهر بوضوح الاختلافات في استجابة الطبقات المختلفة لتحديات الاقتصاد الراهن. وتعكس هذه الفجوة تصاعد التحديات التي يواجهها قطاع التجزئة، حيث يضطر البعض للتكيف مع تراجع الطلب على السلع والخدمات الضرورية، بينما يواصل الآخرون الإنفاق العالي والتسوق المتجدد لسلع ليست ضرورية.

بوصف أكثر تحديدا، فإن الطبقات المخملية لها دور محوري في دفع دورة الاقتصاد لأصحاب البضائع غير الضرورية، ولذا يظل الطلب المتواصل على هذه السلع والخدمات يسهم في حفظ ديناميات سوقهم فقط. وفي المقابل، تقف الطبقات المنخفضة في مواجهة تحديات جديدة، حيث يضطر الكثيرون منهم لتقديم تضحيات في الإنفاق والاستهلاك بشكل عام، مما يؤثر على دورة العرض والطلب داخل سوق السلع الضرورية.

التوازن بين النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية هو تحدي حقيقي تواجهه الحكومة السورية، إذ إن قضية هوس التسوق والشراء بمبالغ خيالي يعكس واقع الثروة والفقر في المجتمع. وهذه الصفقة  تثير التساؤل عن التوازن الاقتصادي ومدى تأثير ثروات القلة على مصير الأغلبية في ظل استعار رفع الأسعار وانخفاض قيمة العملة المحلية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات