هجرة أهل الكار تظهر فيها الواقع الصعب الذي يواجهه قطاع الذهب في سوريا؛ إذ لم تعد هذه الظاهرة مجرد تحوّلٍ في سوق الصاغة، بل هي نقطة تحوّل حقيقية تؤثر بشكل كبير على اقتصاد البلاد وصناعة التعدين؛ ويبدو أن تأثير هجرة أهل الكار ستترك بصمة لا تُمحى على إنتاج عصب السوريين.

على مرّ العصور كان سوق الصاغة أو ما كان يسمى سابقا سوق “القوافين” رمزا لصناعة الذهب في سوريا، وأصحابه حفظوا أسرار هذه الحرفة وأخذوا يمتازون بخبرات تراثية تمتد لأجيال. ولكن الوضع الراهن والتحولات الكبيرة التي يشهدها العالم أثرت بشكل كبير على حياتهم وعملهم. بالاضافة إلى ذلك فإن الأوضاع الأمنية والاقتصادية الصعبة في سوريا أهل الكار بتحديات غير مسبوقة، ما أجبر العديد منهم على اتخاذ قرار الهجرة وترك ورائهم مهنة كانوا يمارسونها بشغف.

حاليا في سوريا يواجه قطاع الذهب أزمة خطيرة، بسبب هجرة أهل الكار، الذين يُعتبروا مصدرا رئيسيا لإنتاج الذهب في سوريا، ولكن مؤخرا قرر العديد منهم ترك مهنتهم والسفر إلى بلدان خارجية، بحثا عن حياة أفضل ومكان آمن لمخزونهم الذي عملوا على جمعه منذ أكثر من نصف عقد. وهذه الظاهرة أدت إلى تراجع كبير في إنتاج الذهب في سوريا، وانخفاض في جودته وتنوعه.

احتياطي سوريا ينخفض

بحسب معلومات المؤرخين، فإن أول نشوء لسوق الصاغة في دمشق كان في العهد “الأيوبي” حينما ظهرت سوق الصائغين جنوب الجامع “الأموي” في قيسارية مستقلة، أما في عهد “المماليك” فقد ازدهرت هذه الصناعة كثيرا.

كان للصاغة في أواخر العهد “الأيوبي” سوقان، “الصاغة العتيقة” وسوق “اللؤلؤ” عند سوق “الحدادين”، والصاغة الجديدة في القيسارية التي أنشئت عام 631 هجرية ـ مقابل سوق “النحاسين”، وقد جددت شرقي هذه الصاغة الجديدة وسكن فيها الصوّاغ وتجار الذهب والجواهر.

رغم هذا التاريخ فإن تأثير هجرة أهل الكار من الصاغة يتجاوز حدود العمل ويمتد إلى قطاع التعدين وإنتاج الذهب. فالخبرات الفريدة التي كانوا يمتلكونها لا تُحل بسهولة، وهذا يعني أن سوريا قد تفقد مورّديها الأساسيين للذهب. وهذا التحول قد يتسبب في تراجع كبير في إنتاج الذهب في البلاد، مما يؤثر بالتأكيد على الاقتصاد المحلي والقدرة على تلبية الاحتياجات الداخلية.

علي المهدي، مالك محل “المهدي” للمجوهرات، قال لـ”الحل نت”، إن أكبر خمسة صاغة في دمشق غادروا البلاد مع بداية الشهر الجاري، من ضمنهم باشورة وسعيد منصور والجزماتي، ونقلوا كافة مخزونهم من الذهب والمقدر بحوالي 300 كيلو من الذهب ما يقدر بـ1 بالمئة من إجمالي احتياطي البلاد.

عودة الليرة والأونصة واختفاء الأطقم

طبقا لما ذكره المهدي، فإن عملية النقل جرت على دفعات خلال 7 أشهر، فمع استمرار الأوضاع الأمنية والاقتصادية الصعبة، تجاوز كبار ممتهني الصياغة تراثهم وقرروا السفر والاستقرار في بلدان خارج سوريا، وأنهوا أعمالهم بشكل كامل مع نقل كامل مخزونهم من الذهب.

هجرة الصاغة السوريين ظهر تأثيره مباشرة على السوق بحسب المهدي، إذ اختفت الأطقم المصنّعة من محال المجوهرات وسوق الصاغة، فيما عادت الأونصات والليرات الذهبية للظهور بشكل كبير، ما يدل على الأثر الذي تركه هجرة أكبر خمسة صاغة في دمشق.

التراجع الكبير في إنتاج الذهب المُصاغ يُعزى تبعا لما أفاد به المهدي إلى هذه الهجرة المستمرة؛ حيث أثّرت على القوى العاملة والبنية التحتية لصناعة التعدين. وبالتالي، تسببت هذه الهجرة في نقص واضح في الإنتاج وتعطيل عمليات صناعة الذهب.

حاليا في دمشق كل ورشة تختص بصنف معين من المصاغ ويرتبط بمهارة صُنّاع الذهب العاملين فيها، إضافة للأدوات المستعملة ضمن الورشة. فـ“كل صنف له ورشته ومعلميه وخصوصيته، ولا يمكن أن يصنع صاحب الورشة كل الأصناف”، في حين أن الصاغة الذين هاجروا كانوا يتقنون جميع الأصناف.

الذهب المحلي مدور وليس جديد

من أصل 300 ورشة في دمشق لم تبقَ سوى 150 مع نهاية الأعمال العسكرية في محيطه. بينما لم يبقَ من 1200 ورشة في حلب، وهي التي كانت تصنع حوالي 65 بالمئة من إنتاج سوريا من الذهب إلا القليل، ونقلت كثير منها عملها إلى دمشق.

رغم أنّ التقديرات العالمية الرسمية تشير إلى أن سوريا لم تفقد كثيرا من احتياطيات البنك “المركزي” السوري من الذهب خلال الحرب، حيث تمتلك حوالي 25.8 طنا من الذهب حاليا، إلا أن هذه الأرقام ليست صحيحة بحسب العديد من التجار، خصوصا أن إحصائية الذهب الرسمية لم تصدر منذ أعوام كثيرة.

في ضوء سعي الصاغة السوريين إلى توسيع رقعة العمل وتحقيق نمو أكبر عبر فتح آفاق التصدير، تظهر تحديات تُعرقل تلك الطموحات. وتكمن هذه التحديات في القيود المفروضة على منح التأشيرات وفي السياسات المتّبعة من قبل وزارة الاقتصاد والتجارة الداخلية المتعلقة بالتصدير. 

هذه القيود تكبّل إمكانيات الصاغة وتقيدهم بحدود ضيّقة، مما يجعلهم يواجهون صعوبات في الاستفادة من الفُرص المتاحة للدخول إلى أسواق جديدة والمشاركة بشكل قانوني في المعارض الدولية. ويتعيَّن عليهم التعامل مع هذا الوضع من خلال تقديم حلول تساهم في تذليل هذه العقبات دون اللجوء إلى التصرفات التي تُفضي إلى التخطي على القوانين والتجاوز عبر الحدود.

سوق الذهب في سوريا يعيش حاليا على وتيرة دخول حوالي 25 كيلوغراما شهريا من الذهب الخام، حيث يخضع للتشكيل والصياغة لاحقا قبل تصديره. ومع أنّ منتجي الذهب السوري يشعرون بالفخر تجاه منتجاتهم، التي تتميز بالصنع اليدوي الذي يحتل مكانة مرموقة في دول مثل العراق والسودان، إلا أن هذه المنتجات تواجه تحديات فيما يتعلق بقدرتها على الوصول إلى الأسواق الإقليمية. 

هكذا، يتجلى من أن التحديات التي يواجهها قطاع الذهب في سوريا ترتبط بتنوع الجوانب، سواء على الصعيدين القانوني والاقتصادي، وهذا ما يجعل الذهب داخل سوريا عبارة عن ذهب معاد تصنيعه وليس جديدا، مما يعني أهمية البحث عن حلول مستدامة تُمكّن الصاغة من التطوير والابتكار دون تجاوز القوانين أو التخلي عن الجودة.

استهداف القطاعات يجبر على الهجرة

ظاهرة الاستهداف المتكرر للقطاعات الصناعية طبقا لحديث المهدي، تزيد من حجم التحديات التي يواجهها القطاع الصناعي، ما يجعل الهجرة خيارا ضروريا للكثير من العاملين في هذه القطاعات. فعندما تتعرض الصناعات المحلية لاستهداف مستمر من قبل مختلف العوامل، يصبح من الصعب على العاملين في هذه الصناعات البقاء والاستمرار في العمل.

الاستهداف يمكن أن يتضمن مجموعة متنوعة من العوامل، مثل الزيادة غير المبررة في التكاليف، والتشريعات والقوانين التي تعيق عملية الإنتاج والتوسع، وانخفاض الطلب المحلي على المنتجات الصناعية. وهذه العوامل تُجمع سويا لتشكل عبئا كبيرا على القطاع الصناعي ولا سيما الذهب، مما يضع العاملين في موقف صعب.

نتيجة لهذا الوضع، يجد الكثيرون أنفسهم مضطرين إلى اتخاذ خطوات الهجرة بحثا عن فرص أفضل. حيث يسعى العديد منهم إلى العمل في بلدان أخرى حيث البيئة الأكثر تشجيعا للصناعات وفرصا أوسع للنمو والازدهار.

هذا السيناريو يبرز حقيقة تأثير الاستهداف المتكرر للقطاعات الصناعية على اقتصاد البلاد وعلى مصير العاملين فيها. ومع هجرة أهم صاغة دمشق تظهر خطورة الأوضاع الراهنة وأثرها على الصناعة والاقتصاد السوري، وعلى مستقبل قطاع الذهب وصناعة التعدين في سوريا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات