الأوضاع المعيشية الصعبة في سوريا، وتحديدا موجة ارتفاع الأسعار الأخيرة التي رافقت زيادة في أسعار المشتقات النفطية وارتفاع بالرواتب والأجور التي ساهمت في تدهور الأوضاع المعيشية بدلا من تخفيفها، فرضت نفسها على بعض الطقوس الاجتماعية المعتادة لدى المجتمع السوري، إذ تتمحور الأحاديث المسائية “السهرات” للعائلات السورية المتبقية في الداخل حول ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة وكيفية تمضية أحوالهم الاقتصادية.

هذا بالإضافة إلى أن موائد السهرات أصبحت شبه فارغة وتحتوي على نوع واحد فقط من المشروبات، بعدما كانت السهرات تزيّين بمائدة تضم أنواعا عديدة من المأكولات والمشروبات، وبذلك تفقد ليالي السوريين رونقها التي حملت معها معاني الألفة وصلة الرحم والتكافل الاجتماعي وغيرها من الالتزامات الاجتماعية. واليوم صارت تكافح بخجل للاستمرار، ولو في حدودها الدنيا، في ظل الالتزامات المالية التي أصبحت تتطلبها هذه العادات، والتي تُعتبر مرهقة للشريحة الأكبر في البلاد.

أحاديث سهرات المجتمع السوري

في السياق، أثّر الارتفاع القياسي للأسعار وضعف القوة الشرائية على العديد من الطقوس والعادات الموجودة في المجتمع السوري، ولعل أبرزها التجمعات والسهرات التي تجمعهم كل ليلة جمعة تحديدا أو غيرها من الأيام، وتُعتبر هذه الأمسيات بمثابة نوع من الترفيه وواجب جماعي على جميع السوريين، خاصة في أيام العُطل والأعياد، وتشكل هذه الجمعات روابط قرابة بين الوالدين والإخوة وحتى العمات والأعمام والأخوال والخالات، فضلا عن الأصدقاء، كنموذج للتواصل.

إلا أن الظروف المعيشية الصعبة أثّرت بشكل كبير على هذه التجمعات، إذ لم تعد العائلات قادرة على إعداد مائدة متكاملة للضيافة كما في السابق، مثل تقديم “الأركيلة” وبعض أنواع الموالح والحلويات والفواكه، إذ أصبحت الجمعات مقتصرة إما على تقديم القهوة أو الشاي أو مشروب “المتة” في أحسن الأحوال، إضافة إلى أن حديثهم أصبح يتركز فقط على غلاء المعيشة والأزمات الاقتصادية والخدمية في البلاد، وفق ما تقوله ريهام، إحدى سكان العاصمة دمشق.

ريهام التي تعمل موظفة حكومية، تحدثت لـ”الحل نت” عن مدى تأثير الوضع المعيشي على سهرات السوريين التي بدأت تفقد ذكريات الزمن الجميل بالفعل. فتقول “في السابق كنا نضع أشكالا وألوانا على الطاولة للضيوف من الأقرباء والأصدقاء، وكل شهر كنا نعمل مثل جمعة للبنات، ونقدم التبولة وورق العنب وبعض المعجنات والكيك والحلويات والموالح والكولا والمقرمشات وما إلى ذلك، لكن للأسف هذه المأكولات أصبحت اليوم خارج حساباتنا، لأن تكلفة مثل هذه الجَمعة أصبحت تساوي راتب 3 أشهر وربما أكثر”.

كما أشارت إلى أنه في الماضي كانت الأحاديث المسائية تدور حول بعض المشاكل الاجتماعية والعاطفية التي تعيشها البلاد، وكذلك تطلعات البعض، فضلا عن بعض الجوانب التعليمية وكان الجانب المعيشي حاضرا ولكن ليس بكثافة اليوم، فمثلا اليوم كل الأحاديث إما عن زيادة أسعار المواد الغذائية أو عن المواصلات والمحروقات أو الخبز والغاز وغيرها من الأزمات التي يعاني منها السوريون.

بعد القرارات الحكومية الأخيرة حول زيادة أسعار المشتقات النفطية وزيادة الرواتب في سوريا وأسعار السلع الاستهلاكية في ارتفاع مستمر، وهكذا فقد ارتفعت أسعار البزورات والموالح بنسبة كبيرة بلغت حوالي 100 بالمئة، وارتفع البُن بدوره فتجاوز الكيلو الواحد منه الـ 100 ألف ليرة.

أسعار المكسرات

بحسب عدد من أصحاب المحامص في دمشق فإن الإقبال على شراء هذه الأصناف بات ضعيفا جدا والشراء بات بالأوقية ونصف الأوقية بعد أن كان الناس يشترون بالكيلو، وفق موقع “أثر برس” المحلي، مؤخرا.

بلغ سعر كيلو البزر “دوار الشمس” 45 ألف ليرة سورية، بينما وصل سعر كيلو الفستق الحلو والمالح لـ 50 ألف ليرة سورية، والبزر الأبيض نوع أول وصل لـ 75 ألفا.

أما بزر الكوسا فقد سجل 100 ألف للكيلو، بينما بلغ سعر كيلو البزر الأسود البلدي 60 ألف ليرة، وكيلو البزر الإيراني 65 ألفا، وكيلو القضامة المغبرة والمالحة  35 ــ 40 ألفا، أما الذرة المالحة فقد وصل الكيلو منها إلى 60 ألف ليرة سورية.

من جانبه، يصف أبو ناصر الذي يعمل في محمصة بأحد أحياء دمشق، حركة البيع بالضعيفة والمعدومة أحيانا، وقد تنشط في الأعياد والمناسبات الخاصة، مضيفا أن معظم الناس تطلب البزر والفستق بـ 10 آلاف أو أكثر بقليل فمعظم الأسعار باتت لا تناسب ذوي الدخل المحدود.

أما رضوان، صاحب محمصة أخرى، فقال “ما عاد توفي كل شيء يرتفع والمنتجات تتكدس وحركة البيع ضعيفة جدا فَيوم عمل ويوم ملل”، مضيفا أن معظم الناس يشترون تشكيلة مثلا بقيمة 40 ألفا وكل شهر أو شهرين مرة، وهناك زبائن ألغوا هذه المادة من حساباتهم.

ارتفاع أسعار المكسرات في سوريا- “إنترنت”

البُن أيضا لم يمكن بمنأى عن موجة الغلاء هذه، فقد ارتفع سعر كيلو البُن في أسواق دمشق وريفها، ووصل الكيلو الواحد لنحو 100 ألف ليرة سورية، ما يُقدّر بنصف راتب موظف حكومي وسطيا.  وتبدأ أسعار البُن عند 90 ألف للكيلو في منطقة صحنايا مثلا وصولا لـ 110 ألف، وتصل لـ 120 ألف في جرمانا ومناطق عدة أخرى، وتزيد لـ 160 ألف في محال معينة بمنطقة المالكي والجسر الأبيض، طبقا للموقع المحلي.

بدورهم، أوضح بعض بائعي البُن، أن كيلو القهوة أصبح عبئا إضافيا على الأهالي وأن غالبية الزبائن تفضل شراء كمية قليلة منها حتى أقل من “أوقية”، حيث يوجد كثير منهم يشتري بمبلغ 5 أو 10 آلاف فقط، وأن ارتفاع سعر كيلو القهوة يعود لتغير الأوضاع الاقتصادية وغلاء جميع المنتجات الغذائية.

بينما أردف آخرون أن سعر القهوة المعلّبة أكثر غلاءً من بيعها في البزورية مثلا، حيث وصل سعر نصف كيلو القهوة المعلّبة من إحدى الشركات إلى 60 ألف ليرة سورية، وأن ما يؤثر على سعر القهوة اسمها ونوعها، أي توجد أنواع منها تفرض سعرا قويا وتحظى بإقبال، لكن الوضع العام حاليا غير إيجابي.

بالتالي، فإن المكسرات والحلويات والفواكه وأنواع كثيرة من الخضار باتت خارج حسابات السوريين. بل صارت تقتصر على الطبقة الغنية أو “المخملية” كما يسمّونها، ويشكّلون نسبة قليلة من المجتمع السوري اليوم.

العزوف عن أشهر المأكولات

رغم عرضه في أسواق حلب بطريقة جذابة في سلل “قش” كبيرة تدعو المارة للشراء، إلا أن سعر “الذهب الأحمر” الفستق الحلبي، الذي تجاوز الـ90 ألف ليرة جعله خارج حسابات أغلب الحلبيين مبتعدا كغيره من السلع، التي تُصنّف بطريقة أخرى ترفيهية عن سهراتهم وجلساتهم المعتادة.

الفستق الحلبي يُعرض على استحياء في أسواق مدينة حلب بكميات قليلة على خلاف المعتاد، حيث تضعه بعض المحال التجارية في سلل القش أمام واجهاتها في سوق الجميلية التجاري، لكن أغلب المواطنين يمرون مرور الكرام أمامه بعد رؤية تسعيرته الكبيرة الموضوعة بشكل بارز، ما جعل هذا المنتج الموسمي للفرجة فقط مع اقتصار شرائه على فئة ميسوري الحال والأغنياء فقط، وفق تقرير لموقع “غلوبال نيوز” المحلي، قبل يومين.

من جانبه، أرجع معاون مدير زراعة حلب جورج عازار، أسباب غلاء الفستق الحلبي عن العام الفائت، إلى تصدير هذا المنتج المحلي وارتفاع تكاليف الإنتاج من المحروقات والأسمدة وأجور العمال، لافتا إلى أن اللجنة الزراعية بحلب دعمت فلاحي الفستق الحلبي بالمازوت، حيث قررت منح 25 لترا للهكتار الواحد، لكن الأسمدة لم تُقدّم أي كمية لهم، حيث يؤمنها المزارعون على نفقتهم الشخصية.

هذا وتصدر مدينة حلب المرتبة الأولى في زراعة الفستق الحلبي بعد تراجع زراعته في مدينة حماة لأسباب عديدة، فمثلا المساحة المزروعة بالفستق الحلبي تبلغ 5381 هكتارا، يُزرع فيها 442 ألف شجرة مثمرة يُقدر إنتاجها بـ 5318 طنا، ما يجعل مدينة حلب حاليا في المرتبة الأولى في إنتاج “الذهب الأحمر”.

في ظل ارتفاع أسعار كافة السلع الغذائية في سوريا، وخاصة المواد الأساسية مثل الحبوب والبقوليات والألبان والأجبان، نتيجة القرارات الحكومية الجائرة الأخيرة، ارتفعت أسعار الاحتياجات الأساسية للأُسرة السورية بنسب كبيرة تراوحت بين 50 – 100 بالمئة كحد أدنى.

لذلك لم يَعُد من المبالغة القول، إن تحضير وجبة إفطار متكاملة تشمل اللبنة والجبن والبيض والزعتر والزيتون، باتت من ذكريات الزمن الجميل عند نسبة كبيرة من الأُسر السورية، حيث إن نسبة كبيرة من السوريين في الداخل كانوا يشترون الحليب والأجبان بالغرامات، ولا يُستبعد اليوم أن تختفي هذه الأكلات الشعبية الشهيرة من موائد السوريين، بعد موجة الغلاء الأخيرة، وسط تدني المداخيل.

عزوف الأُسر السورية عن تقنين الغذاء أصبح أكثر احتمالا من أي وقت مضى. على سبيل المثال، لن يتمكن الكثيرون من وضع العديد من الأطباق التي اعتادوا تناولها في فطور الصباح، مثل اللبنة والجبن والبيض والزعتر والزيتون وحتى الأكلات الشعبية مثل “الفول وفلافل وحمص”. هذا فضلا عن أن “الفطور الجماعي” الذي اعتادت العائلات السورية على تنظيمه يوم الجمعة من كل أسبوع، بات يشكل عبئا اقتصاديا على السوريين، حيث اتجهت معظم العائلات السورية إلى إلغائه أو على الأقل الاستغناء عن التنوع الذي كان يتمتع به هذا الفطور سابقا.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات