خلال 12 عاما الفائتة، شهدت سوريا تدخلات عسكرية وسياسية من قِبل قوى إقليمية ودولية متعددة، بما في ذلك روسيا وإيران وتركيا وقطر وغيرها، وهذه التدخلات أثّرت بشكل كبير على مجرى الصراع ومصير الشعب السوري والمنطقة بأسرها، ومع ذلك كان هناك لاعب دولي كبير غاب عن الساحة السورية عسكريا لفترة طويلة، وهو الصين.

الصين، التي تُعتبر ثاني أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان والثانية من حيث الناتج المحلي الإجمالي، لم تكن مهتمة بالتورط عسكريا في الشأن السوري، واكتفت بموقف دبلوماسي مؤيد لحكومة دمشق على المنابر الدولية، ولكن هذا الموقف قد يتغير قريبا، بعد أن أعلنت الصين عن مشروع طموح لإحياء طريق الحرير القديم، الذي يربط بين آسيا وأوروبا وإفريقيا عبر شبكة من الطرق والسكك الحديدية والموانئ والمطارات والأنابيب والكابلات.

هذا المشروع، الذي يسمى “الحزام والطريق”، يهدف إلى تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري والثقافي بين الصين وأكثر من 60 دولة، بما في ذلك سوريا، التي باتت جزءا مهما من الطريق البري الشمالي الغربي، الذي يمتد من الصين إلى إيران وتركيا وأوروبا لا سيما بعد إعلان مشروع ربط الهند بأوروبا مؤخرا والذي يتعارض مع طموحات الحزب “الشيوعي” الصيني، ولتحقيق هذا الهدف، تسعى الصين إلى توسيع نفوذها ومصالحها في المنطقة، وتقديم الدعم السياسي والمالي والتقني للحكومة السورية، وتوقيع اتفاقات تعاون متعددة الجوانب معها.

ولكن هل يكفي هذا الدعم السّلمي لضمان استقرار وأمن سوريا، وحماية الاستثمارات الصينية فيها، أم أن الصين ستضطر إلى اتخاذ خطوة أخطر وأكثر جرأة، وهي إرسال وحدات عسكرية إلى سوريا، لتنضم إلى القوات الروسية والإيرانية والتركية وغيرها، في ما يشبه سباق التسلح والتواجد في البلاد المنكوبة، وما هي الدوافع والمخاطر والتحديات والآثار المحتملة لهذا السيناريو.

ما بُعد “الشراكة الاستراتيجية” بين سوريا والصين؟

الرئيس السوري بشار الأسد، قام بزيارة رسمية إلى الصين في 21 أيلول/سبتمبر الجاري، تلبية لدعوة الرئيس الصيني شى جين بينغ، لحضور افتتاح دورة الألعاب الآسيوية التاسعة عشرة فى مدينة هانغتشو، وتُعد تلك الزيارة أول زيارة يقوم بها الأسد للصين منذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011، وهى الثانية من نوعها؛ حيث سبق له زيارة الصين خلال عام 2004.

خلال لقاء الأسد مع الرئيس الصيني شي جين بينغ، ذكر الأخير وفق تقرير لشبكة “سي سي تي في” التلفزيونية الرسمية عن الاجتماع، “سنعلن بصورة مشتركة اليوم إقامة الشراكة الاستراتيجية بين الصين وسوريا، التي ستصبح محطة مهمة في تاريخ العلاقات الثنائية”.

التوجه نحو الشرق، تحديدا نحو الصين، يمثّل تحوّلا هاما في العلاقات الدولية، فقد كانت الصين طويلا محط اهتمام العالم، لكن الآن تبدو الأمور مختلفة، فإذا كان الخوف من التوجه نحو الشرق السائد سابقا، فإننا اليوم نشهد توجها عكسيا، حيث تسعى الصين لتعزيز وجودها وتأثيرها نحو الغرب، وتحديدا نحو سوريا وسواحل البحر المتوسط.

المزيد من التفاصيل تبدو واضحة عندما نلقي نظرة على مشروع شق “طريق الحرير” الصيني، والذي يقترب من تحقيق “شراكة استراتيجية” مع سوريا، حيث أن هذا المشروع الضخم يشمل تمدده عبر إيران وتركيا وصولا إلى أوروبا، وهو ما يلقي بظلاله على مستقبل العلاقات بين الصين وسوريا، بعد توقيع البلدين على سلسلة من اتفاقات التعاون الاقتصادي، والتجاري.

ففي الوقت الذي تحوّل فيه الرئيس السوري إلى ضيف رسمي رئيسي ما زالت المحادثات “الاستراتيجية” مستمرة معه حتى أمس الاثنين، في ما يبدو أنه مؤشر على أن بكين قررت تحويل سوريا، البلد المدمّر وحكومته المتهالكة، إلى قاعدة استثمارية متقدمة شرق المتوسط، بما يتخطى التجربة الإيرانية والروسية المتعثرة، من دون أن يصطدم معهما، وهنا لا يُستبعد أن يُرى في دمشق وحدات عسكرية صينية تحمي الاستثمارات والشركات ورجال الأعمال والسياح الآتين من أقصى البر الشرقي الآسيوي.

المشاريع التجارية الصينية في سوريا

مع انشغال روسيا في غزوها لأوكرانيا ولملمة خسائرها التي توجت بانقلاب غير مكتمل لأبرز شركة عسكرية تعتمد عليها في تمددها دوليا، وتحول إيران نحو تبييض صفحتها مع جيرانها العرب وأيضا الأوروبيين والأميركيين وانشغالها عن استراتيجيتها مع ميليشياتها في سوريا، يرى الحزب “الشيوعي” الصيني، أن دوره حان للتدخل في سوريا بالطرق التقليدية، لا سيما وأن حلفاءه لا يعبأون بالضرر الذي تكبده بمشروع ربط الهند بأوروبا.

عدد المشاريع التجارية بـ “حزام وطريق” في سوريا ليس سهلا تحديده، لأنها تتضمن مجالات مختلفة مثل البنية التحتية والطاقة والزراعة والتعليم والثقافة، ومع ذلك، يمكن القول أن الصين وسوريا وقّعتا على عدة اتفاقات تعاون في إطار مبادرة “الحزام والطريق”، وتسعيان إلى تنفيذها رغم الصعوبات والتحديات. 

وفقا لبعض المصادر، فإن بعض المشاريع التجارية الرئيسية بين الصين وسوريا، هي مشروع إعادة إعمار مطار حلب الدولي، الذي تم تدميره جزئيا خلال الحرب، والذي تقوم الصين بتمويله وتنفيذه بتكلفة تقدر بنحو 30 مليون دولار.

أيضا مشروع إنشاء محطة للطاقة الشمسية في محافظة اللاذقية، بقدرة 850 ميغاواط، والذي تقوم به شركة صينية بالتعاون مع وزارة الكهرباء السورية، فضلا عن مشروع تطوير ميناء طرطوس، الذي يُعد أحد الموانئ الاستراتيجية على البحر المتوسط، والذي تقوم به شركة صينية بالتعاون مع الهيئة العامة للموانئ السورية.

كذلك مشروع تأسيس مركز ثقافي صيني في دمشق، الذي يهدف إلى تعزيز التبادلات الثقافية والتعليمية بين البلدين، والذي تقوم به السفارة الصينية بالتعاون مع وزارة الثقافة السورية، وحوالي 28 اتفاقية وقّعت خلال عام 2023 الجاري، كان آخرها نهاية آب/أغسطس الفائت، أي قبل أيام من وصول الأسد إلى بكين.

ما يلفت الانتباه في هذه المشاريع أنها تستهدف أماكن استراتيجية داخل سوريا وتحديدا خط النقل المباشر البحري والجوي للدول السورية، وجميع هذه المناطق تتربع عليها قواعد عسكرية إيرانية وروسية، أي أنها تمهّد فعليا لوجود قاعدة عسكرية صينية ضمن البلاد على غرار حلفائها التقليديين.

شراكة عسكرية تتحدى الغرب

الصين وسوريا بدأتا العلاقات الدبلوماسية عام 1956، وتطورت العلاقات العسكرية بينهما على مرّ السنين، خاصة بعد بدء عام 2011، حيث قدمت بكين مساعدات عسكرية لسوريا، بما في ذلك الأسلحة والذخائر والمعدات العسكرية، وأرسلت مستشارين عسكريين وخبراء لتقديم الدعم والتدريب.

كما وقّعتا على اتفاقيات ومذكرات تفاهم في مجالات الدفاع والمكافحة الإرهابية والتدريب العسكري والتبادل العسكري، خلال زيارة الرئيس السوري بشار الأسد إلى الصين عام 2023، وذلك في تعزيز التعاون في إطار مبادرة “الحزام والطريق”، وتدعمان انضمام دمشق لمنظمة “شنغهاي” كشريك للحوار.

لكن رغم أن السياسات المعلنة للحزب “الشيوعي” الصيني، بأنها ضد التدخل الخارجي وترفض تمركز القوات غير الشرعية على الأراضي السورية، إلا أن التعاون الاستراتيجي بين بكين ودمشق سيكوّن مشروعات عسكرية صينية في سوريا، وذلك تحت بند تعزيز الأمن والاستقرار في البلدين والمنطقة وحماية المشاريع الصينية، وفق ما أقاد به المحلل العسكري، العقيد عبد الله حلاوة.

من المتوقع وفق حديث حلاوة لـ”الحل نت”، أن يشمل التعاون الاستراتيجي الجديد توسيع نطاق هذه المساعدات والتعاون، وربما إقامة قواعد عسكرية صينية في سوريا، خاصة في الموانئ البحرية مثل طرطوس واللاذقية، التي سيتم تأجيرها للصين لفترات طويلة بموازاة الوجود الروسي والإيراني هناك.

بمحاذاة هذا التوجه، يعتقد حلاوة أن هذا التعاون لا يعني استبعاد الدور الإيراني والروسي في سوريا، بل يعكس التنسيق والتكامل بين الدول الثلاث في استغلال ضعف القيادة السياسية والعسكرية لسوريا، فتحت غطاء الحلف الاستراتيجي تنفّذ هذه الدول أجندتها في الوصول إلى البحر المتوسط، مقابل إظهار مواقف ثابتة في مجلس الأمن الدولي وفي الميدان السوري، حيث استخدمت بكين حق النقض “الفيتو” في مجلس الأمن الدولي 16 مرة لمنع أي عقوبات أو تدخل عسكري ضد بشار الأسد.

الدول الثلاث أجرت تمارين عسكرية مشتركة في خليج عمان وبحر العرب، وشاركت في محادثات “أستانا” و”سوتشي” حول الأزمة السورية، وأعربت عن تضامنها مع سوريا في مواجهة العقوبات الأميركية والغربية، وبالتالي، فإن التعاون الاستراتيجي بين الصين وسوريا لا يهدف إلى تقويض الدور الإيراني والروسي، بل إلى تعزيزه وتنويعه وتنسيقه بما يخدم مصالح الحزب “الشيوعي” الصيني.

قطعة سورية للواء الثامن

على الرغم من أن العديد من المشاريع العسكرية العالمية الطموحة للصين مرتبطة بقيادة الرئيس شي جين بينغ، إلا أن بروز هذه التطلعات بشكل فعلي يعود إلى عهد الرئيس هو جينتاو في عام 2008، وكان ذلك هو العام الذي أطلقت فيه بكين أول مهمة بحرية حديثة لها في الخارج، وشهد نشر قوات “البحار البعيدة” في عام 2008 إبحار ثلاث سفن حربية تابعة لـ “بحرية جيش التحرير الشعبي” إلى خليج عدن.

عسكرية صينية في سوريا

منذ ذلك التاريخ، أطلقت “بحرية جيش التحرير الشعبي” اثنين وأربعين فرقة عمل مرافقة بحرية للهدف المعلن المتمثل في مكافحة القرصنة على الرغم من التراجع السريع للهجمات التي تستهدف النقل البحري بحلول عام 2015، إلا أنها تجري مناورات بحرية مع دول مثل إيران وباكستان وروسيا، حيث تضمنت فرق عمل المرافقة البحرية الصينية سفنا لا تتناسب بالضرورة مع مهام الأمن البحري، الأمر الذي يعزز فرضية أن عمليات النشر هذه لها هدف استراتيجي أكبر من مجرد تأمين التجارة.

طبقا لتحليل حلاوة، فإن اللواء المدرع الثامن الذي شكلت نصف كتائبه من لواء “مشاة ميكانيكي رقم 200″، وأعيد تنظيمه عام 2017 ليصبح اللواء الثامن للأسلحة المشتركة الثقيلة، وتم نقله إلى جيش المجموعة 76 كواحد من ألوية الأسلحة الستة المشتركة، هو المتوقع لشغل القاعدة العسكرية في سوريا.

هذا اللواء يُعتبر من أقوى وأحدث الفرق العسكرية في الصين، ويمتلك تجربة في المهام الخارجية، كما شارك في تمارين عسكرية مشتركة مع الجيش السوري في عام 2016، بشكل غير معلن.

طبقا لتقديرات المحلل العسكري، فإن الجنرال لي شينغ، والذي يشغل حاليا منصب نائب قائد اللواء هو المرجح للإشراف على القاعدة، ويعتبر هذا الجنرال من القادة العسكريين الصينيين الشباب والطموحين، وله خبرة في العمليات الخاصة والحرب الإلكترونية، ويحظى بثقة الرئيس الصيني شي جين بينغ.

من المؤكد أن التحولات الجيوسياسية التي قد تنجم عن تعاون الصين مع سوريا وتواجد وحدات عسكرية صينية في سوريا على الأمن الإقليمي والدولي بطرق مختلفة، حسب المنظور والمصالح المعنية، فمن جهة، قد يساهم هذا التواجد في مساعدة حكومة دمشق باستمرار نهجها الحالي المتضارب مع الدول العربية والغربية، ومن جهة أخرى، قد يثير هذا التواجد قلق ومعارضة بعض الدول الإقليمية والدولية، خاصة الولايات المتحدة وحلفائها، الذين يرون فيه تهديدا لمصالحهم ونفوذهم في المنطقة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة