على إثر الأزمات المتلاحقة التي ضربت سوريا منذ سنوات العشر الأخيرة، ونتيجة التدهور التدريجي للأوضاع المعيشية، اختفت الطبقة الوسطى من المجتمع السوري بشكل شبه كامل، فيما تحول المجتمع إلى قلّة من الأغنياء وكثيرٍ من الفقراء والميسورين.

الأمر الذي نتج عنه أنماطا جديدة من الحياة المعيشية بسوريا، فعلى سبيل المثال، بات إعداد مؤونة الشتاء “المونة” وخاصة أكلة “المكدوس”، مصدر رزق لبعض العائلات، في حين أن استهلاكها من نصيب الفئة الغنية التي لا تقوم عادة بتحضر “المونة”، بل تشتري من النساء العاملات في تصنيعها، وسط عجز نسبة كبيرة من السوريين عن تحضير “المكدوس”، نتيجة ارتفاع أسعاره بشكل كبير.

المكدوس.. باب رزق

تقرير لموقع “أثر برس” المحلي نُشر مؤخرا، أفاد بأن بعض النساء يلجأن إلى إنشاء مشاريع صغيرة تُعتبر مصدر دخل جيد لهن. ومنهم السيدة أم فؤاد التي فكّرت في صناعة “المكدوس”، خاصة أنه من أشهر أنواع “المونة”. لكن الصدفة أعطتها فكرة المشروع. وتقول إن “الفكرة جاءت عندما قدّمت لجارتها صحن مكدوس من صنعها؛ لتبدي الأخيرة إعجابها وتقترح عليها إعداد كميات والترويج لها عبر مواقع التواصل الاجتماعي لبيعها”.

بالتالي تولت جارة أم فؤاد عملية التسويق عبر صفحات السوشيال ميديا على اعتبارها خبيرة بذلك وأصبحت أم فؤاد تصنع ما يقارب 150-50 كيلو بشكل أسبوعي توزعها على زبائنها الذين يطلبون؛ وعن التكلفة توضح “كل 5 كيلو مكدوس تكلف 125 ألف ليرة بين ثمن الباذنجان والفليفلة والجوز والزيت إضافة إلى أجرة سلقه على الغاز”، مبينة أن أغلب الزبائن يطلبون 10 كيلو أي بمقدار (مطربانين) كل واحد 5 كيلو.

من جانب آخر، أوضحت سندس وهي سيدة تلبي طلبات الزبائن في صناعة “المكدوس”، أن هناك سيدات يطلبن فقط سلق الباذنجان دون حشوه وهنا تفرق التكلفة فكل 20 كيلو باذنجان يتم سلقها وتمليحها وكبسها تكلفتها 25 ألف ليرة سورية.

تقول العديد من المصادر المحلية إن معظم مستهلكي “المونة” الجاهزة، بما في ذلك “المكدوس”، هم من طبقة الأثرياء، الذين لا يقومون بتحضير “المونة” أصلا، بل يوصون النساء اللاتي يعملن في تصنيعه، أو من الريف، أو من بعض المحلات التجارية، وهناك عدد قليل جدا ممن يشترون “المكدوس” الجاهز وهم إما مغتربون وعلى طريق السفر أو من الزوار لسوريا.

كما وتشير المصادر نفسها إلى أن هؤلاء النساء نفسهن اللاتي يعملن في صناعة “المكدوس والمونة” عموما لا يستطعن ​​تحضيره في منازلهن، بسبب تكاليفه الباهظة. بل يجهّزون كميات خجولة، بحسب قدراتهم المادية، فكل ما يكسبونه من عملهم في مهنة صناعة “المونة” بالكاد يكفي لتغطية نفقات معيشة أسرهن. وهكذا يصبح إنتاج “المكدوس” من نصيب الفقراء واستهلاكه من قِبل الطبقة الغنية و”المخملية”.

تكاليف مرطبان “المكدوس”

بينما تسرد روضة، وهي سيدة متخصصة بتلبية طلبات الزبائن في صناعة “المكدوس”، بأنها تزاول هذه المهنة منذ سنوات طويلة وتعمل على الطلبية فقط فهي ليست مضطرة لتكديس كميات لا يطلبها الزبائن وعن كيفية الإعلان أضافت، “أنا متعاقدة مع محلات تجارية أصنع المكدوس وأضعه في مرطبانات ليتم بيعها، وبعض المحلات التجارية تطلب مني 100 كيلو أسبوعيا بشرط وضعها في مرطبانات بوزن معين ومتفق عليه مثلا هناك عائلات تطلب 15 كيلو أو 20 كيلو أقوم بحساب كلفتها مع أجرة اليد العاملة”.

أي أن كل 10 كيلو “مكدوس” جاهز ومحشي ومغمور بالزيت سعرها 250 ألف ليرة أي ثمن 20 كيلو مكدوس 500 ألف، وتختلف التكلفة فيما إذا كان الطلب فقط، محشي بدون زيت فكما هو معروف سعر الزيت أصبح مرتفعا وبالتالي كل 10 كيلو مكدوس يوضع لها لتر أو لتر ونصف زيت.

أما عن نسبة الطلبات، فوفق السيدة، الطلبات تنخفض تدريجيا بسبب ارتفاع الأسعار وارتفاع ثمن المواد فمن كان يطلب 50 كيلو بات اليوم يطلب 25 كيلو، ولكن تبقى هناك خصوصية لبعض العائلات في الحفاظ على هذا التراث وصنع حتى كميات قليلة منه.

تُعد “المونة” من أساسيات التخزين في كل مطبخ سوري، ومن أشهر المواد التي تُخزّن، هي “المكدوس والمخللات والمربيات واللبنة”. كما يُعتبر التموين في المنازل السورية ثقافة قديمة، تتعلق بأنواع من المأكولات المرتبطة بالتراث السوري، وتقوم على تخزين مواد غذائية موسمية بكميات كبيرة، مثل تجميد الخضار أو تجفيفها أو عصرها بالملح لاستخدامها في فصلي الشتاء والربيع، فالخضار نادرة حينها، وتوضع هذه المواد المخزّنة في مكان مخصص داخل البيت يُسمى “بيت المونة”.

من يموّن؟

في الفترات الحالية وتحديدا خلال شهر أيلول/سبتمبر من كل عام، يقوم السوريون بتجهيز “المونة”، إلا أن ارتفاع الأسعار بشكل كبير عن العام الماضي في الأسواق السورية، خاصة بعد رفع الحكومة أسعار المشتقات النفطية وتدهور الليرة السورية، الأمر الذي زاد من تكلفة تحضيرها، وبالتالي اضطرار العديد من العائلات السورية إما الاستغناء عنها أو اللجوء إلى طرق بديلة لتوفيرها، كالقروض والجمعيات والحوالات الخارجية.

على سبيل المثال، يبحث أحد المواطنين، 58 عاما، وهو عسكري متقاعد، في كل تجمع عائلي عن أحد أقربائه الموظفين في القطاع العام، كي يكفله في إصدار قرض 400 ألف ليرة سورية بدون فائدة، الذي سبق وأعلنت عنه “وزارة المالية السورية”، بغية توفير جزءٍ من تكاليف “المونة” لأسرته.

العسكري المتقاعد أضاف في تصريحات صحفية سابقة “سيبقى من راتبي 35 ألف ليرة سورية فقط في حال حصلت عليه”، معبرا عن حيرته بين حاجته للقرض لتأمين مستلزمات مونة الشتاء وبين بقايا الراتب التي لن تكفيه ثمنا للخبز.

الرجل المتقاعد أشار في حديثه إلى أن هذا القرض الثاني الذي يقوم بسحبه خلال أقل من عام، حيث اضطر في الصيف الماضي لإصدار أولهما للقيام ببعض الإصلاحات في منزله وإعداد “المونة من مكدوس وملوخية و برغل” لعائلته.

حول سحب القرض، يعزو الرجل نفسه بقوله “الراتب لا يكفي لمدة أسبوع واحد هذا العام، نظرا للغلاء الكبير في أسعار المواد الغذائية، فكيف يمكن أن ندفع مئات الآلاف لتجهيزات المونة، لذلك لا بدّ من البحث عن قروض أو الاستدانة من أحد الأشخاص بالفائدة”.

خلال العامين الماضيين، حلَّ موسم “المونة” ضيفا ثقيلا على العديد من العائلات السورية، ويبدو أن الأمر سيتكرر ولكن بشكل أكبر هذا العام، نتيجة الارتفاعات القياسية في الأسعار التي باتت أكبر من القدرة الشرائية للكثيرين من مجاراتها، وهذا سيدفع البعض إما إلى إلغاء صناعة “المونة” نهائيا، أو تقليص مخصصاتهم منها وجعلها ضئيلة جدا، لتقتصر على تموين أهم المواد، مثل “المكدوس والجبنة”.

كما أن إحدى الطرق التي يستخدمها السوريون لتغطية تكاليف “المونة” هي اللجوء إلى قريب أو صديق مقيم في الخارج، ليُرسل لهم حوالة مالية قد تنقذهم من براثن ارتفاع الأسعار في فصل الشتاء.

بالتالي ونتيجة ارتفاع أسعار كافة السلع الغذائية مؤخرا، وسط ضعف الرواتب والمداخيل، نتيجة القرارات الحكومية الجائرة الأخيرة، لم يعد من المبالغة القول إن تحضير وجبة إفطار متكاملة تشمل “اللبنة والجبن والبيض والزعتر والزيتون والمكدوس” باتت من ذكريات الزمن الجميل عند نسبة كبيرة من الأُسر السورية، حيث إن نسبة كبيرة من السوريين في الداخل كانوا يشترون الحليب والأجبان بالغرامات، ولا يُستبعد اليوم أن تختفي هذه الأكلات الشعبية الشهيرة من موائد السوريين، بعد موجة الغلاء الأخيرة.

سُلّم رواتب الموظفين الحكوميين الجديد والعلاوات السنوية، لا تكفي لصناعة كيلو واحد من طبق “المكدوس” السوري، كما وأصبح تكلفة عمل 10 كيلو لبنة للمونة الشتوية لأسرة مكونة من 5 أشخاص يتجاوز 600 ألف ليرة سورية، أي ما يعادل سعرها قيمة رواتب الموظف لمدة 3 أشهر وقد يتجاوزها أحيانا.

في العموم، يبدو أن القادرينَ على تأمين الإمدادات الغذائية الشتوية “المونة” هم إما الأغنياء والميسورينَ، أو أولئك الذين يحصلون على حوالات خارجية من أقاربهم أو أصدقائهم في الخارج. وفي مقابل كل ذلك، لا شك أن نسبة كبيرة من الأُسر السورية ستُحرم من صناعة “المونة” في منازلها هذه السنة، وبالتالي سيواجهون أعباء معيشية قاسية خلال فصل الشتاء، ومن ثم سيضطرون إلى تقنين احتياجاتهم وتقليل وجباتهم الغذائية قدر المستطاع.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات