مع انتهاء موسم مؤونة الشتاء “المونة” وتحديدا “المكدوس” أشهر أكلة في المطبخ السوري، تراجع إقبال السوريين على تموين المواد الغذائية هذا العام بشكل غير مسبوق، إذ لم تتجاوز الكميات المجهّزة ربع ما كانت العائلات السورية تحضّره في السنوات السابقة.

بل إن معظم الأُسر السورية خفّضت الكميات إلى الحد الأدنى بسبب ارتفاع الأسعار والتكلفة الكبيرة التي فاقت قدرتها الشرائية، فيما اضطرت عائلات أخرى إلى الاستغناء بشكل كامل عن مؤونة الشتاء، مثل معظم المواد الغذائية الأخرى كالجبن والحليب والألبان والزيتون وغيرها، بحسب عدة تقارير محلية.

تكاليف المكدوس

يبدو أن الأوضاع المعيشية المتردية التي تخيّم على حياة السوريين جعلت نسبة كبيرة منهم يمتنعون عن تحضير “المونة” هذا العام أو التموين بكميات قليلة جدا، بعد أن تجاوزت تكلفة تصنيع كيلو “المكدوس” عدة مرات عما كان عليه في العام الماضي، على الرغم من أن البعض استبدل الحشوة بمواد أقل تكلفة، مثل استبدال الجوز بالفستق، واستخدام الزيت النباتي بدلا من زيت الزيتون، وتقليل كمية الثوم المستخدمة، لكن النتيجة لم تتغيّر من حيث التكاليف المرهقة، خاصة أنها تزامنت مع عودة المدارس وارتفاع غير مسبوق في سعر الصرف الذي انعكس بدوره على كافة المواد، وفق تقرير لصحيفة “البعث” المحلية، يوم أمس الثلاثاء.

ارتفاع تكاليف تصنيع “المكدوس”- “إنترنت”

من جانبه، أكد عضو لجنة تجار ومصدّري سوق الهال محمد العقاد، أن الكميات الواردة إلى سوق الهال من الباذنجان والفليفلة خلال موسم “المكدوس” حتى الآن قليلة جدا، وهي بالكاد تشكّل 25 بالمئة من الكميات التي كانت ترد في الأعوام السابقة.

العقاد، أرجع سبب ذلك إلى تراجع الإنتاج بسبب الكلفة وغياب الدعم عن المازوت والأسمدة للمزارعين، موضّحا للصحيفة المحلية أن الطلب كان في ذروة الموسم أكبر من العرض في السوق، مما رفع الأسعار عما كانت عليه في البداية، إذ يبلغ سعر كيلوغرام الباذنجان اليوم 5000- 6000 ليرة سورية، والفليفلة 4000 – 5000 ليرة، والثوم 25 ألف ليرة، بينما تجاوز سعر تنكة الزيت مليون و200 ألف، ولتر الزيت النباتي 28 ألفا، والجوز 85 – 150 ألف ليرة.

كما وأشار العقاد في حديث آخر مع صحيفة “تشرين” المحلية، يوم أمس الثلاثاء، إلى أن ارتفاع أسعار مكونات “المكدوس” لأكثر من النصف كان سببا في عزوف الناس عن تحضير هذه الأكلة الشهيرة.

بالتالي، ليس من الغريب أن يتحول “المكدوس” من كونه “مونة” أساسية للأسر السورية إلى شهوة عابرة يمكن ألّا يفكر فيها المواطن على الإطلاق، بسبب الغلاء مقارنة بضعف القدرة الشرائية، فقد انخفضت نسبة شراء مكونات “المكدوس” وعموم مواد “المونة” عن العام الماضي.

في مثل هذه الأوقات كان سوق الهال يعج بربّات المنزل الذين يقومون بشراء 100 كيلو باذنجان على الأقل لتحضير “المكدوس” بينما اليوم لا تجد إلا القلة القليلة واللواتي لا يشترون أكثر من 4 كيلوغرامات فقط، والسبب هو ارتفاع أسعاره، وفق ما يقوله العقاد، الذي حذّر من أنه فيما إذا بقيت تلك الخطة الزراعية هي السائدة حاليا من دون أي دعم للفلاح، فهذا سيجعل المنتجين يقلعون عن الزراعة، وتاليا سترتفع أسعار جميع الخضار والفواكه ونعود لاستيراد البندورة والخيار كالسابق.

“المونة” أصبح ترفا

في المقابل، أكد الخبير الزراعي عبد الرحمن قرنفلة لصحيفة “تشرين” المحلية، أن الارتفاع الكبير بأسعار المنتجات الزراعية وتراجع مستويات إنتاجها مقارنة بفترة ما قبل الأزمة وتراجع القوة الشرائية لدخل المستهلك السوري، نقل “المونة” من تقليد شعبي تمارسه 90 بالمئة من الأُسر إلى ترف تمارسه نسبة ضئيلة جدا ممن تسمح لهم قدراتهم المادية بالإنفاق على هذا النشاط.

كما وقد أدى ذلك بطبيعة الحال إلى إحداث فجوة في منظومة الأمن الغذائي للأسرة السورية، فقد أصبح من المتعذّر تموين “المكدوس” بفعل الارتفاع الكبير لأسعار مكوناته.

إضافة لارتفاع أسعار الغاز اللازم للسّلق. وأضاف قرنفلة، أن تقديرات تكلفة “المكدوسة” تشير إلى أنها تبلغ نحو5 آلاف ليرة سورية وهذا الرقم كبير جدا ويتجاوز طاقة كثير من الأسر السورية.

من جانب آخر، وعلى إثر الأزمات المتلاحقة التي ضربت سوريا منذ سنوات، الأمر الذي نتج عنه أنماطا جديدة من الحياة المعيشية بسوريا، فعلى سبيل المثال، بات إعداد “المونة” وخاصة أكلة “المكدوس”، مصدر رزق لبعض العائلات، في حين أن استهلاكها من نصيب الفئة الغنية التي لا تقوم عادة بتحضر “المونة”، بل تشتري من النساء العاملات في تصنيعها.

تقرير لموقع “أثر برس” المحلي نُشر مؤخرا، أفاد بأن بعض النساء يلجأن إلى إنشاء مشاريع صغيرة تُعتبر مصدر دخل جيد لهن. ومنهم السيدة أم فؤاد التي فكّرت في صناعة “المكدوس”، خاصة أنه من أشهر أنواع “المونة”. لكن الصدفة أعطتها فكرة المشروع. وتقول إن “الفكرة جاءت عندما قدّمت لجارتها صحن مكدوس من صنعها؛ لتبدي الأخيرة إعجابها وتقترح عليها إعداد كميات والترويج لها عبر مواقع التواصل الاجتماعي لبيعها”.

صناعة المكدوس- “إنترنت”

بالتالي تولت جارة أم فؤاد عملية التسويق عبر صفحات السوشيال ميديا على اعتبارها خبيرة بذلك وأصبحت أم فؤاد تصنع ما يقارب 150-50 كيلو بشكل أسبوعي توزعها على زبائنها الذين يطلبون؛ وعن التكلفة توضح “كل 5 كيلو مكدوس تكلف 125 ألف ليرة بين ثمن الباذنجان والفليفلة والجوز والزيت إضافة إلى أجرة سلقه على الغاز”، مبينة أن أغلب الزبائن يطلبون 10 كيلو أي بمقدار (مطربانين) كل واحد 5 كيلو.

تقول العديد من المصادر المحلية إن معظم مستهلكي “المونة” الجاهزة، بما في ذلك “المكدوس”، هم من طبقة الأثرياء، الذين لا يقومون بتحضير “المونة” أصلا، بل يوصون النساء اللاتي يعملن في تصنيعه، أو من الريف، أو من بعض المحلات التجارية، وهناك عدد قليل جدا ممن يشترون “المكدوس” الجاهز وهم إما مغتربون وعلى طريق السفر أو من الزوار لسوريا.

كما وتشير المصادر نفسها إلى أن هؤلاء النساء نفسهن اللاتي يعملن في صناعة “المكدوس والمونة” عموما لا يستطعن ​​تحضيره في منازلهن، بسبب تكاليفه الباهظة. بل يجهّزون كميات خجولة، بحسب قدراتهم المادية، فكل ما يكسبونه من عملهم في مهنة صناعة “المونة” بالكاد يكفي لتغطية نفقات معيشة أسرهنّ. وهكذا يصبح إنتاج “المكدوس” من نصيب الفقراء واستهلاكه من قِبل الطبقة الغنية و”المخملية”.

من يستطيع “التموين”؟

في الفترات الحالية وتحديدا خلال شهر أيلول/سبتمبر من كل عام، يقوم السوريون بتجهيز “المونة”، إلا أن ارتفاع الأسعار بشكل كبير عن العام الماضي في الأسواق السورية، خاصة بعد رفع الحكومة أسعار المشتقات النفطية وتدهور الليرة السورية، الأمر الذي زاد من تكلفة تحضيرها، وبالتالي اضطرار العديد من العائلات السورية إما الاستغناء عنها أو اللجوء إلى طرق بديلة لتوفيرها، كالقروض والجمعيات والحوالات الخارجية.

وخلال العامين الماضيين، حلَّ موسم “المونة” ضيفا ثقيلا على العديد من العائلات السورية، ويبدو أن الأمر سيتكرر ولكن بشكل أكبر هذا العام، نتيجة الارتفاعات القياسية في الأسعار التي باتت أكبر من القدرة الشرائية للكثيرين من مجاراتها، وهذا ما دفع البعض إلى إلغاء صناعة “المونة” نهائيا، أو تقليص مخصصاتهم منها وجعلها ضئيلة جدا، لتقتصر على تموين أهم المواد، مثل “المكدوس والجبنة”.

كما أن إحدى الطرق التي يستخدمها السوريون لتغطية تكاليف “المونة” هي اللجوء إلى قريب أو صديق مقيم في الخارج، ليُرسل لهم حوالة مالية قد تنقذهم من براثن ارتفاع الأسعار في فصل الشتاء.

في العموم، ونتيجة ارتفاع أسعار كافة السلع الغذائية مؤخرا، وسط ضعف الرواتب والمداخيل، نتيجة القرارات الحكومية الجائرة الأخيرة، لم يعد من المبالغة القول إن تحضير وجبة إفطار متكاملة تشمل “اللبنة والجبن والبيض والزعتر والزيتون والمكدوس” باتت من ذكريات الزمن الجميل عند نسبة كبيرة من الأُسر السورية، حيث إن نسبة كبيرة من السوريين في الداخل كانوا يشترون الحليب والأجبان بالغرامات، ولا يُستبعد اليوم أن تختفي هذه الأكلات الشعبية الشهيرة من موائد السوريين، بعد موجة الغلاء الأخيرة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات