ما تزال سوريا محطة صراع الأطراف الإقليمية الفاعلة الساعية لتعزيز تموضعها وتوطيد نفوذٍ متداخل طويل الأمد على كل الجوانب الحيوية، ولا سيما مصادر الطاقة التي تشهد تنافساً واضحاً ولا سيما حليفي حكومة دمشق، روسيا وإيران.

سوق الطاقة يشهد تضاربًا في مصالح القوتين ولا سيما بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، ويلقي هذا التضارب بظلاله وارتدادات تأثيراته على سوريا، كون كلا القوتين تشكّل تحالف لقوى تسيطر على موارد الطاقة النظيفة وترغبان بتنويع مصادرها في سوريا، بعد أن تنبهتا مبكّراً لتحرّكات بعض القوى الإقليمية الأخرى للاستحواذ على حصة الأسد من هذه المصادر.

اختراق إيراني للمجال الاستثماراتي

ركزت إيران إبان تدخلها في سوريا على الثروات الباطنية، عبر ثلاثة محاور: الأول السيطرة على ثروات الفوسفات، والثاني محاولة السيطرة على ما تبقى من آبار نفط وغاز، والثالث السعي للاستثمار في منشآت ذات صلة بالثروات الباطنية. 

إيران وروسيا ملفات على صفيح ساخن تؤجج الصراع الخفي في سوريا (1)
الرئيس السوري بشار الأسد (إلى اليمين) يتصافح ونظيره الإيراني إبراهيم رئيسي بعد توقيع مذكرتي تفاهم حول “التعاون الاستراتيجي طويل الأمد” في دمشق في 3 أيار/مايو 2023. (تصوير لؤي بشارة / وكالة الصحافة الفرنسية)

وهو ما يُظهر خلافًا محددًا بكيفية زمانية أمام التطلُّعات الروسية الرغبة بإحكام قبضتها على القطاع الاقتصادي السوري، رغم التوافق المميز بينهما في عدة ملفات، فالعلاقة بينهما علاقة براغماتية مبنية على المصالح والرؤى الخاصة القائمة على المتغيرات. 

وقد برز ذلك في حديث سابق لنائب رئيس غرفة التجارة الإيرانية السورية، علي أصغر زبردست، حين قال إن “الروس ينتفعون من الاقتصاد السوري أكثر من غيرهم ويشاركون ببعض المشاريع في إعادة بناء البلد”.

مؤخرًا وتحت مسمى إعادة التأهيل، وفي خطوة إيرانية لتعزيز حضورها أكثر في اقتصاد البلاد وترسيخ هيمنتها ولا سيما القطاع النفطي، أعلن مسؤول إيراني في 11 كانون الأول/ديسمبر الجاري، عن بدء عمليات إصلاح وصيانة لمصفاة حمص السورية، إذ قال: “هذا الإعلان جاء بعد نجاح إيران في تأهيل مصفاة نفط في فنزويلا”.

وفي الوقت ذاته، أكد أن نشاط إيران في هذا المجال خارج حدودها يمكنها من تقديم خدماتها وتوريد معداتها إلى دول أخرى، مما يسهم في تعزيز إيراداتها وأرباحها من تكرير النفط.

وتعدّ مصفاة نفط حمص ذات الطاقة الإنتاجية الأكبر في سوريا (120 ألف برميل)، وهي المصفاة الثانية التي ستبدأ إيران بترميمها خارج حدودها بعد تأهيلها مصفاة نفط في فنزويلا “إل باليتو” ذات الطاقة الإنتاجية المقدرة بـ 140 ألف برميل يومياً، ما سيسمح لها بتصدير النفط من الأراضي الإيرانية إلى سوريا وتوليد الدخل للشركات الإيرانية.

هذا الأمر أكده مساعد وزير النفط الإيراني “جليل سالاري” في أيلول/سبتمبر الفائت، بأن إيران ستتمكن من تصدير 100 ألف برميل يومياً من نفطها إلى سوريا، وتحقيق “معادلة مربحة” للجانبين الإيراني والسوري من الناحية الاقتصادية، كما سيؤدي الاتفاق إلى تحصيل مكاسب سياسية، عبر تعزيز ما سماها “جبهة محور المقاومة”، وسدّ احتياجاتها من الوقود، إضافة لاحتمالية توسع إيران في تزويد الوقود لدول أخرى.

ويبدو أن الخطوة الإيرانية تحمل في طياتها أكثر من معنى، فهي إعادة تأكيد لوجودها المستقبلي في مشاريع إعادة الإعمار في سوريا، من خلال الاتفاقات ومذكرات التفاهم التي وقعتها، وتطالب دمشق بالإسراع بتنفيذها، إضافة لما تتضمنه الخطوة من فوائد لإيران في مجال دعاية الخبرة في مجال تطوير الصناعات النفطية أو من تنفيذ اتفاقات مبرمة مع فنزويلا، تقوم بموجبها بتزويد الثانية بالوقود، يتم دفع ثمنه بالذهب بموجب اتفاق سابق بينهم.

في حديثه لـ”الحل نت”، يرى الباحث المختص في الشؤون الإيرانية، عمار جلو، أن الاهتمام الإيراني بتأهيل مصفاة حمص يعود لسهولة تصدير النفط عمومًا من الشواطئ السورية مقارنة مع تصديره من شاطئ إيران عبر الخليج العربي وبحر العرب وتوابعهما فجميعها مرصودة غربياَ.

مضيفًا، أن تكرير النفط في سوريا وبيعه في السوق المحلية السورية يمنح إيران مكاسب سياسية بالإضافة للمنافع الاقتصادية، إذ تملك إيران طموحات كبيرة ترتبط بالتصدير إلى أوروبا عبر المتوسط، رغم العقبات الروسية في السماح للنفوذ الإيراني بالتمدد على الخطوط الساحلية.

وتحاول إيران تعويض ما خسرته من حقول نفط وغاز في ريفي دير الزور والرقة كـحقلي “الثورة” و”توينان” النفطيين في الرقة وحقلي “التيم” و”الورد” بدير الزور، بعد تدخل الشرطة العسكرية الروسية لصالح “فاغنر” و”الفيلق الخامس” والحلول محلها في الكثير من الحقول. 

فضلا عن استحواذ شركتَين روسيتَين هما “فيلادا” و”ميركوري” على ثلاثة مواقع للتنقيب عن البترول، بموجب عقود مع وزارة النفط السورية في أيلول/سبتمبر من عام 2019، وتشمل بلوكات (تقسيمات مكانية جغرافية) تقع في المنطقة الوسطى وفي دير الزور شرق سوريا.

اتفاق الشركة الروسية على المحك

مشروع تأهيل مصفاة حمص، كان قد سبقه في تطور لافت، إذ قررت حكومة دمشق إيقاف تزويد معامل الأسمدة (معمل الأمونيا يوريا ومعمل الكالنترو ومعمل السماد الفوسفاتي) في حمص بالغاز اعتبارًا من منتصف كانون الأول/ديسمبر الجاري، إضافة إلى إعادة النظر بالعقد المبرم مع شركة “ستروي ترانس غاز” ذراع روسيا النفطية التي تستثمر في المعامل، بسبب ما أسمته حكومة دمشق “عدم تحقيق الشركة الروسية الجدوى الاقتصادية”، لافتة إلى أنها تبحث عن خيارات بديلة.

يتدفق البخار من مصنع للفوسفات 10 ديسمبر/كانون الأول 2002 بالقرب من الحدود العراقية مع سوريا في منطقة القائم. (تصوير سكوت بيترسون / غيتي)

وتعمل شركة “ستروي ترانس غاز”، مع “المؤسسة العامة للجيولوجيا والثروة المعدنية” المملوكة للدولة على استثمار واستخراج الفوسفات من مناجم الشرقية في تدمر لمدة 50 عامًا، وبيع 2.2 مليون طن من الفوسفات سنويًا مع حصة 30 في المئة فقط للمؤسسة.

وبحسب العقد الأول الذي صادق عليه البرلمان السوري في شباط/فبراير 2019، يجب على الشركة الروسية استثمار 200 مليون دولار خلال عامين من أجل ترميم المصانع الثلاثة القديمة التابعة للشركة العامة للأسمدة، لتتمتع الأولى بحصة تبلغ نحو 65 في المئة لمدة 40 عامًا، في حين يتضمن العقد الثاني استثمار 500 مليون دولار لبناء وتوسيع ميناء طرطوس.

يُرجع المستشار الاقتصادي، أسامة القاضي، إلغاء العقد مع الشركة الروسية أن يكون بضغط إيراني على دمشق من أجل استبدال الشركة الروسية بشركة إيرانية، وهذا الذي لن تقبل به روسيا لأنها تعتقد أن كل ما يتعلق بالثروة الباطنية والمعدنية هو من حقّها، وأنّ الروس وكلاء حصريون للاقتصاد السوري في هذا القطاع.

“الفوسفات السوري” عقدة الصراع

من المعلوم أن سوريا تمتلك بعضًا من أكبر احتياطات الفوسفات المعروفة من مكون الأسمدة الذي يتم البحث عنه بشكل متزايد، وهو ما دفع صربيا وأوكرانيا وخمسة من دول الاتحاد الأوروبي لاستيراد أكثر من 80 مليون دولار من الفوسفات السوري منذ عام 2019 رغم مخاطر انتهاكات العقوبات.

منجم خام الفوسفات بالقرب من دمشق – غيتي

فيما يتجلى الاهتمام الإيراني بالمادة لما تحويه من عنصر اليورانيوم المشعّ المُستخدم لأغراض عسكرية، فرغم فشلها في الاستحواذ على الفوسفات السوري، إلا أن ذلك لم يمنع من تحوّلها باتجاه جعل نفسها الجهة الرئيسة المستوردة بوصفه مصدراً ثانوياً مهماً للحصول على اليورانيوم اللازم لبرنامجها النووي، بموافقة روسيا المتحكمة بثلاثية الإنتاج من المناجم، والتصنيع في شركة الأسمدة، والتصدير.

وبالنظر إلى هذه الخيارات لا يبدو أن دمشق ستبتعد عن إيران، التي تعدّ مناجم الفوسفات السورية مورداً لسداد الديون الإيرانية عليها رغم استبعاد ذلك، فالإيرانيون على ثقة بأن الروس لن يسمحوا لهم بالدخول لهذا القطاع، وهو ما يظهر جلياً على سبيل المثال في إدارة روسيا لمرافئ (اللاذقية وطرطوس وبانياس) وجهودها المعرقلة لتسلم إيران ميناء اللاذقية.

وحسب دراسة قدمها مركز “الحوار السوري”، في آذار/مارس 2022، فإن أبرز نتائج المحاولات الإيرانية للسيطرة على الثروات الباطنية تجلّت في السيطرة المؤقتة على حقول تدمر، وخطوط برية وبحرية لنقل الفوسفات والانسحاب الفعلي والقانوني لصالح روسيا، والنجاح في الحصول على شحنات برية محدودة وشحنات بحرية كبيرة.

أما في مجال النفط والغاز فهناك سيطرة فعلية لآبار متناهية في الصغر بالبوكمال فقط، بعد أن ذهبت جميع الحقول بالرقة ودير الزور والمياه الإقليمية لصالح الروس، وعلى صعيد المنشآت التكريرية للمواد النفطية ونقل الثروات الباطنية فهناك اتفاق على إنشاء مصفاة نفطية جديدة، وتطوير مصفاتي حمص وبانياس لم ينفذ من ذلك شيء بعد، ومحاولة ضعيفة لاستخدام ميناء اللاذقية.

فيما تظهر الهيمنة الروسية الواسعة جلية على قطاعات الفوسفات والغاز، بما في ذلك المياه الإقليمية السورية، مستفيدة من استخدام دمشق الثروات السورية كوسيلة لتسديد ديونه لروسيا، وكضمانٍ لبقاء حكمه عبر تصديقه على عقود استثمار طويلة الأمد بشروط مجحفة.

تنظر روسيا للفوسفات السوري كحيز حيوي لا يمكنها التنازل عنه لأي طرف كان، نظرًا لارتباطه بمواضيع أقلها “الأسمدة” التي تشكّل نسبة كبيرة من واردات روسيا للاتحاد الأوروبي وما يمكن أن تشكّله أيضًا كسلاح إلى جانب الطاقة وسواهما في حربها المفتوحة مع الغرب الأطلسي. 

إضافة لاعتباره متماشياً مع اتفاقية تسوية الديون بين البلدين وأحد الموارد الاقتصادية التي يُعتمد عليها في مرحلة إعادة الإعمار بسوريا من حيث كونها مصدراً للدخل القومي من العملة الصعبة بعد التصدير، لذا عملت سابقاً على إبعاد إيران عسكريًّا واقتصاديًّا عن الحيز الأكبر من هذه المادة، متحكمة في دخول شركاء جدد إلى سوق الفوسفات السوري، كصربيا التي دخلت عبر شركة “وومكوأسوشيتس دوو” كمستثمر أجنبي جديد في مجال الفوسفات نوفمبر 2020، وباتت تعد أكبر مشتر في أوروبا للفوسفات السورية رغم ما يمثله ذلك من تحد لقانون “عقوبات قيصر”.

ومن الواضح أن التناحر الروسي الإيراني سيستمر في استنزاف الاقتصاد السوري، وستسعى الدولتان للعب دور أكبر في الاستحواذ على الموارد الاستراتيجية والتوسع بها، باعتبار أن الجغرافية السورية تمثّل ممرًا اقتصاديًّا وتجاريًّا نحو السوق العالمية، إضافة لرغبة الجانبين الإيراني والروسي في تحصيل ديونهما والتكاليف الباهظة التي تكبداها جرّاء انخراطهما في الحرب السورية، عدا عن الرغبة في تحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية وجيواستراتيجية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
4 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات