من الواضح أن أساليب الصين التوسعية في الوقت الحالي أصبحت أكثر جرأة مما عليه سابقا، فلم تعد بكين تعتمد على تصدير البضائع للدول النامية والدخول مع حلفائها باستثمارات أو شراكات اقتصادية لتحقيق مكاسب مالية، أو إغراق دولة تعيش أزمة اقتصادية خانقة بالديون، وبالتالي السيطرة على مواردها الاقتصادية والتحكم بتوجهاتها السياسية وتحقيق أكبر توسع ممكن، إذ باتت تتمدّد عسكريا، وهذه المرة من بوابة سلطنة عُمان.

بكين التي تدعي الحياد وتتغنى بالسلام ونبذ الحروب، باتت في الآونة الأخيرة تتبع أساليب عدائية وتبتعد شيئا فشيئا عن الدبلوماسية، فصفة التناقض أصبحت ملازمة للحكومة الصينية، حيث تقدم الصين وجهين للعالم، أحدهما، الوجه الأول البريء “صانع سلام دولي”، أما الوجه الآخر فهو وجه الذئب الشرس العدائي الذي يكشر عن أنيابه بحجة الدفاع عما يفترسه.

تعسكر صيني في عُمان

وكالة “بلومبرغ”، ذكرت في تقرير لها، أنه تم إطلاع الرئيس الأميركي، جو بايدن، على خطة صينية لبناء منشأة عسكرية في سلطنة عمان، وذلك في إطار مساعي بكين لتعميق العلاقات الدفاعية والدبلوماسية مع الشرق الأوسط.

الرئيس الأميركي علم بأن المسؤولين العسكريين الصينيين ناقشوا الأمر في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، مع نظرائهم العمانيين، الذين أعربوا عن استعدادهم للموافقة على هذه الصفقة، حسبما قال الأشخاص الذين طلبوا عدم الكشف عن هويتهم أثناء مناقشة المداولات الخاصة، فيما أضافوا أن الجانبين اتفقا على إجراء مزيد من المحادثات في الأسابيع المقبلة، لكن لم يعرف حتى الآن الموقع الدقيق للقاعدة المحتملة أو ما ستضمه ووفقا للوكالة.

أما دلالة إنشاء مثل هذه القاعدة، فأوضحت الوكالة في تقريرها، أن وجود قاعدة صينية في عُمان من شأنه أن يكمل المنشأة العسكرية الخارجية الأخرى لبكين، والتي تشير إليها باعتبارها “مركزا لوجستيا” في دولة جيبوتي الواقعة في شرق إفريقيا.

المحلل السياسي أحمد الياسري، يرى أن هناك تحولا كبيرا في عمل السياسة الخارجية الصينية يتطلب الالتفات له، وهو محاولة بكين الموازنة بين حضورها التجاري والعسكري في المنطقة.

ويفسر الياسري في حديثه مع “الحل نت ” هذا التحول، بأن حكومة الصين الشيوعية أدركت بأن دول العالم على صدام في إي لحظة، لذلك خصصت ميزانية ضخمة لتطوير منظومتها العسكرية حتى وصلت إلى أكثر من 280 مليار دولار في عام 2021، وهي ميزانية عالية وكبيرة جدا قياسا بالسنوات الماضية.

الياسري أشار، إلى أن توجه الصين في الفترة الأخيرة نحو زيادة ترسانتها العسكرية، دفع دول عدة إلى زيادة تسليح جيوشها، وعلى رأسها اليابان وأستراليا اللتان عززتا من ترسانتهما العسكرية مؤخرا.

ما وراء التسارع في التسليح؟

منذ أن تولى شي جين بينغ مقاليد الحكم، بدأت عملية تطوير وتحديث الجيش بشكل متسارع، إذ يطمح الرئيس الصيني إلى تحويله إلى “قوة من الطراز العالمي” بحلول عام 2049، في الذكرى المئوية لتأسيس جمهورية الصين الشعبية.

جيش الصين يحتل المرتبة الثالثة على مستوى أقوى جيوش العالم بعد الولايات المتحدة وروسيا وفق مؤشر “غلوبال فاير باور” لعام 2023، والذي يستخدم أكثر من 60 عاملا لتصنيف الجيوش، كما يعد الجيش الصيني هو الأكبر من حيث العدد، إذ يصل عدد القوات إلى 1.6 مليون جندي، والثاني من حيث الميزانية بعد الولايات المتحدة.

الصين تجاوزت الولايات المتحدة الأميركية لتصبح أكبر قوة بحرية في العالم من حيث عدد السفن الحربية، إلا أن الولايات المتحدة تحتفظ بتفوق كبير في العديد من القدرات البحرية، إذ لديها 11 حاملة طائرات مقابل حاملتين للصين، فيما تتفوق واشنطن على بكين في أعداد الغواصات والمدمرات والطرادات والسفن الحربية الكبيرة العاملة بالطاقة النووية.

سرعة وتيرة التسلح لدى الصين دفعت كثير من الدول إلى تغيير استراتيجياتها وخططها العسكرية من بينها أميركا، وفقا لما يرى الياسري، لافتا إلى أن هناك معادلة تحاول الصين فرض حضورها من خلالها وهي حماية مصالحها التجارية عبر إنشاء قواعد عسكرية ومنها إنشاء قاعدة عسكرية بمنطقة الخليج العربي في سلطنة عمان تحديدا.

الياسري يعزو اندفاع بكين نحو منطقة الشرق الأوسط، إلى سببين، الأول قيام واشنطن بتخفيض تواجدها في المنطقة، مما دفع حكومة الصين الإسراع إلى ملئ الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة الأميركية إثر الانسحاب، أما السبب الثاني فيرى أن الصين تعمل على حماية ممراتها التجارية خاصة في المحيط الهندي ومنطقة الشرق الأوسط والدول الإفريقية التي تشهد صراعات متكررة.

لماذا عُمان بالذات؟

حكومة الصين تدرك أهمية سلطنة عمان وموقعها الاستراتيجي والخليج العربي وعلى مقربة من مضيق هرمز، أحد أهم الممرات الملاحية للنفط والغاز الطبيعي المسال فعملت بنشاط منذ فترة على توسيع نطاق علاقاتها معها وتعميقها.

كما ترتبط سلطنة عُمان وأميركا بعلاقات تاريخية استراتيجية تعود لنحو 200 عام، إذ تستمد السلطنة أهميتها للولايات المتحدة من حيث موقعها كمركز متعدد المهام لخدمات دعم الجسر الجوي، ولذا أنشأت واشنطن قاعدة جوية فيها، تتمركز بها قاذفات من طراز (B1)، وطائرات التزود بالوقود، كما يوجد في سلطنة عمان 5 قواعد عسكرية تتبع القيادة الوسطى الأميركية مباشرة، إضافة إلى مخازن ضخمة للأسلحة والعتاد والذخائر الأميركية.

الصين لها مصالح استراتيجية اقتصادية وجيوسياسية في سلطنة عمان لما تمتلك من موقع جغرافي استراتيجي مميز، حيث تقع جنوب منطقة الخليج العربي، وتقع في غرب آسيا في الربع الجنوبي الشرقي من شبه الجزيرة العربية بالنسبة للوطن العربي، وفقا للباحث السياسي ماهر سلوم. 

سلوم يؤكد في حديث مع “الحل نت “، أنه في حال أرادت حكومة الصين بناء قاعدة عسكرية متقدمة لها لتنافس القوى الدولية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة، أي منطقة الشرق الأوسط الغنية بالثروات الطبيعية فستكون سلطنة عمان هي الدولة والمكان الذي يلائم التطلعات الصينية لبناء قاعدة عسكرية مؤثرة.

كذلك لفت سلوم، إلى أن الصين تعتمد على حليفتها إيران التي بدورها تمتلك تفاهمات كبيرة مع سلطنة عمان، وهنا لعبت طهران دورا بارزا في توطيد العلاقة بين بكين ومسقط.

عين الصين على المنطقة العربية والخليجية واضحة لما لها من دلالات جيو- استراتيجية، بالإضافة إلى حاجة الصين الأساسية لاستيراد الغاز والنفط من منطقة الخليج العربي.

سياسة الصين في المنطقة

الصين أنشأت أول قاعدة خارجية لها في جيبوتي عام 2017. وفي البداية، وصفتها بكين بأنها منشأة لوجستية تدعم مهام مكافحة القرصنة، إلا أنها أقرت في وقت لاحق بأنها منشأة دعم عسكري و”نقطة قوة استراتيجية”، احتوت القاعدة على معدات جمع المعلومات الاستخبارية، ثم تم توسيعها لاستيعاب حاملات الطائرات والسفن الهجومية البرمائية التابعة لبحرية “جيش التحرير الشعبي”، وهي قدرات غير ضرورية لمكافحة القرصنة وتمت إضافتها بعد فترة طويلة من انحسار شبح هذا التهديد.

سلطنة عمان تتمتع باستقرار سياسي واقتصادي نظرا لأنها تتبع سياسة الحياد وتعمل بانتظام كوسيط، بما في ذلك بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران، كما عملت على تحقيق التوازن بين الحفاظ على شراكتها مع الولايات المتحدة وتعزيز العلاقات مع الصين، التي تستورد الجزء الأكبر من إنتاجها من النفط الخام، كما أن بكين استثمرت أيضا في المرحلة الأولى من “منطقة الدقم الاقتصادية” الخاصة في سلطنة عمان، والتي ستكون موقعا لأكبر منشأة لتخزين النفط في الشرق الأوسط.

نفوذ الصين المتزايد في الشرق الأوسط ساعد في تحفيز الجهود الأميركية لإبقاء حلفائها التاريخيين إلى جانبها، لذا جرى تشكيل خطط لإنشاء ممر تجاري بين الهند وأوروبا عبر الشرق الأوسط، والتي تم الكشف عنها في قمة مجموعة العشرين، لتكون جزءا من هذا الجهد الواسع لخلق بدائل للصين والحد من توسعها في منطقة الشرق الأوسط.

رغم التوسع الصيني التجاري في منطقة الشرق الأوسط، بالإضافة إلى التوسع العسكري، إلا أن الصين لا تعمل على استفزاز أميركا والدول الغربية كما تفعل روسيا في محاولاتها للصدام المباشر مع الدول الغربية وواشنطن، لذلك تعتبر الصين حالة وسطية في علاقتها مع الغرب على العكس من روسيا التي تحمل عدائية تجاه الغرب، بحسب المحلل السياسي أحمد الياسري، مشيرا إلى أن بكين لا تبحث عن حلفاء عسكريين إنما تبحث عن زبائن يستوردون بضائعها وينشّطون تجارتها.

ولا يستبعد الياسري، أن تأخذ الصين زمام المبادرة في تطوير قدراتها العسكرية ولا تعتمد على حلفائها مثل إيران وروسيا وكوريا الشمالية في هذا الأمر، خصوصا مع تصاعد وتيرة الأحداث العسكرية في منطقة الشرق الأوسط، مبينا أن بكين ستعمل على رفع حضورها العسكري في المنطقة ليكون موازيا لحضورها التجاري.

في النهاية، فإنه من الواضح أن محاولة بحرية “جيش التحرير الشعبي” الصيني في الحصول على موطئ قدم للقيام بعمليات في مناطق المحيط الهندي والخليج العربي وتحديدا في سلطنة عمان، لن تكون الأخيرة، إنما ستكون هناك قواعد صينية جديدة في أماكن مختلفة وفقا لرؤية بكين الهادفة للتوغل وتحقيق النفوذ بمعظم المنطقة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات