تصدّرت قضية الاختراقات والحرب بين العملاء داخل “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً) الحديث والواجهة الإعلامية، وأثارت جدلًا واسعاً، خاصة عقب القبض على أكثر من مئتي من القيادات وعلى رأسهم الرجل الثاني بالهيئة، أبو ماريا القحطاني، وأبو أحمد زكور، الذي أُفرج عنه لاحقاً بقوة أمنية تركية، وذلك بتهمة التعاون مع “التحالف الدولي”، والتجسس لحساب قوى خارجية، والتخلص من القيادات بالاغتيال، إضافة إلى تهمة تتعلق بالسعي للإطاحة بقيادة “تحرير الشام”، وكشف ذلك عن صراعٍ كبير على القيادة، وصل لأعلى المراتب، وكيف تم تجنيدهم كعملاء وارتهنوا للخارج خاصة الجانب التركي، وتحوّل الجماعات إلى تنظيمات وظيفية لأجهزة استخبارات مختلفة، ومحاولة كل جماعة تشويه سمعة الجماعة الأخرى عند الأطراف الخارجية، وسفك الدم وأكل المال، واتهام كل طرف للآخر بالعمالة، ووقوع البعض في الخيانة من أجل التنافس على المناصب.

الجولاني وحرب الجواسيس

بدأت حرب الجواسيس قديماً منذ انقلب زعيم “تحرير الشام”، أبو محمد الجولاني على مواقفه السابقة وأعلن انفصاله عن تنظيم “القاعدة” الإرهابي، وقدم نفسه للأتراك والقطريين على أنه الوحيد القادر على ضبط البؤر الجهادية المشكّلة من المهاجرين، فتخلص من رفاقه القدامى، واغتال قيادات أخرى، وخطط لاختراق فصيل “حراس الدين” أحد فروع “القاعدة” بسوريا، وسجن واغتال بعض قياداته، وآوى رؤساء تنظيم “داعش” الإرهابي في المناطق التي يسيطر عليها ثم أبلغ عن أماكنهم، بل وفي ضربات سريعة تخلص من المصريين المتوغّلين في جبهته إما بالسجن أو الاغتيال، لكن الأهم هو سيطرته على بقعة جغرافية يسكنها الملايين في إدلب متترّسّا بهم ليضمن بقاءه أطول فترة ممكنة.

ووفق مركز “كارنيغي”، فإن الجولاني نجح في الشمال السوري في نسج تحالفات مباشرة أو من الباطن أو عبر شراكة شكلية قابلة للقضم يوماً بعد يوم، لكي يكون رقماً صعباً لا يمكن إغفاله في المعادلة لا مجرد شوكة مارقة في إدلب، وبمعاونة الأتراك قدم نفسه كـ “فصيل معتدل”، وبدأ مرحلة تعاون معهم وسهل دخولهم إلى الشمال السوري، وهذا كله على حساب رفقاء الدرب الذين سقطوا في قبضته واحداً تلو الآخر.

بمعاونة مفتي “تحرير الشام” عبد الرحيم عطون، ومساعديه، أبو ماريا القحطاني، وجهاد عيسى الشيخ المكنى بـ”أبو أحمد زكور”، استثمر الجولاني حالة التفكك والتشرذم في باقي الفصائل واخترق شمال حلب ومنطقة “غصن الزيتون” ثم سيطر على عفرين، وبنى تحالفات سرية مع فصائل مثل المنشقين من “الجبهة الشامية”، و”جيش الإسلام”، و”أحرار الشام”، وغيرها، وأصبح خلال فترة وجيزة رجل تركيا السياسي والعسكري الأول في سوريا.

لكن “تحرير الشام” (هتش) وفق “صفحة مزمجر الشام” تشهد صراعاً بين تيارَين، الأول داعم لـ أبو ماريا القحطاني، يضم كتل المنطقة الشرقية وعلى رأسها الشرعي مظهر الويس، والتيار الثاني يضم قياديي الصف الأول، أبو أحمد حدود، ورئيس المجلس الشرعي عبد الرحيم عطون (أبو عبد الله الشامي)، واتهم كل فريق الآخر بالعمالة، ما اضطر الجولاني لعزل نائبه، أبو ماريا القحطاني، ثم قبض عليه لاحقاً له بتهمة إدارة شبكة تجسس داخل الهيئة تضم العشرات من القيادات والكوادر تعمل لصالح “دول خارجية”، إضافة إلى تهمة تتعلق بالسعي للإطاحة بقيادة”تحرير الشام”، والقبض على معاونيه وهم: مظهر الويس، عضو مجلس القضاء والمجلس الشرعي، وزيد العطار، مسؤول المكتب السياسي، وأبو محجن الحسكاوي، مسؤول منطقة إدلب، الشرعي السابق في صفوف الهيئة، طلحة الميسر المعروف بـ”أبو شعيب المصري”.

تؤكد صفحة “مزمجر الشام” أن هناك مقدمات عن عمالة القحطاني قبل سنوات، حينما أعلن القائد العسكري العام لتنظيم “القاعدة”، في سوريا، أبو الهمام السوري، انشقاقه، ثم تعرضه لعدة محاولات اغتيال، والبعض من تلك المحاولات كانت في مخبأ لا يُستخدم فيه أي من وسائل الاتصال أو المركبات، الأمر الذي أثبت بشكل قاطع عمق الاختراق الموجود، ولإخفاء الحقيقة تم اتهام أبو عبد الله الفرنسي بالعمالة، وإشاعة خبر محاكمته ومن ثم إعدامه، ليتبين فيما بعد أنه على قيد الحياة.

واتهمت الصفحة الجولاني ومساعده القحطاني بالتعاون لقتل قادة “كتائب الفتح”، وهم من أبرز الشخصيات التي انشقت عن الهيئة، بغارة جوية بعد حديثهم عن تورط قادة كبار في الهيئة بالعمالة، كأبي طلحة الحديدي، وحمود السحارة، وأنس خطاب (أبو أحمد حدود) وهو نائب الجولاني، والمسؤول الأمني العام، وأبو ماجد الشامي، عديل الجولاني الثاني، وأبو حفص بنش وشقيقه المغيرة، وهما من أبرز القادة أصحاب النفوذ المالي والعسكري في الهيئة.

واستفحل أمر الجواسيس واتهم عناصر داخل الهيئة، الجولاني بالتعاون مع القحطاني، ما اضطره لعملية إعدام جماعية طالت 8، ضمن مجموعة تجاوزت 80 قيادياً وعنصراً بعد الكشف عن تعاملهم مع روسيا، وطالت حملة اعتقال أخرى قيادات وعناصر معظمهم من جهاز الحماية الأمنية وهيئة المعابر وقادة تم الكشف عن تعاملهم مع التحالف الدولي وروسيا في تحديد أهداف حساسة لضربها، أبرزها كان قصف الطيران الروسي سجناً للجولاني خاصاً بمعتقلي تنظيم “داعش” تحت الأرض، وتم تدميره بالكامل ومقتل كل من فيه مع عناصر الحراسة.

FILE — This undated file photo released by a militant group in 2016, shows Abu Mohammed al-Golani of the militant Levant Liberation Committee and the leader of Syria’s al-Qaida affiliate, second right, discussing battlefield details with field commanders over a map, in Aleppo, Syria. Al-Golani vowed to fight on in Idlib province, the country’s last major rebel stronghold, in the face of a possible government offensive in a video posted online to mark the Muslim feast of Eid al-Adha, shortly before midnight Tuesday, Aug. 22, 2018. (Militant UGC via AP, File)

وفق وسائل الإعلام المحلية، خلال الشهر الفائت، حصل قيادات داخل (هتش) على معلومات عن خلايا تجسس بعد اتفاق مع أحد العملاء في سجون الهيئة ويدعى أبو أنس بنش في مقابل الإفراج عنه، وكان على رأس تلك الخلايا القحطاني، وهذا ما اضطر الجولاني لوضعه تحت الإقامة الجبرية، وإصدار بيان يوضح أنه استغل صلاحياته بطريقة خاطئة دون الإشارة إلى ملف التجسس.

ولكن بعد ضغوط اضطر الجولاني لإيداع القحطاني في سجن خاص بمدينة حارم بإدلب السورية، تحت حراسة أمنية مشددة، بناءً على طلب صديقه المقرب القاضي في “تحرير الشام” مظهر الويس، بتهمة قيادة هذه الشبكة من الجواسيس، الذين يتعاملون مع الروس والأتراك والتحالف الدولي، وكان المسؤول عن التحقيق في هذه القضية هو “أبو محمد منظمات” – من بلدة كرناز- وهو عديل “أبو أحمد حدود، وفق صفحة القيادي “أبو حمزة الكردي”، الذي يرى أن أحد التيارين داخل الهيئة تمكن من فضح أوراق الطرف الآخر، واعتقال بعض أفراده بهذا الشكل، خاصة في ظل وجود الجولاني الذي يعمل على إيجاد تيارات متعددة متصارعة ليظل هو دائماً الممسك بزمام الأمور.

يرجح الباحث مصطفى زهران في حديث خاص لموقع “الحل نت”، أن الجولاني يتخلص من رفقاء الدرب من أجل تقديم قرابين للاعتراف الدولي، ويحاول أن يقضي على أي رؤية مخالفة لمشروعه الدولاتي، مشيراً إلى أنه رجل ماكر جدا، وطموحه الشخصي أكبر من فكرة الأسلمة، وأنه يريد فقط الوصول لتفاهمات تضمن له البقاء في مساحة يستقطعها من الجغرافية السورية.

زكور في دائرة التجسس

تصاعد ملف التجسس داخل (هتش) لدرجة لم يتوقع فيها أحد أن يتم واحداً من أقرب المقربين للجولاني، والقائد المكلف بالسيطرة والهيمنة وقضم الفصائل وتفكيكها، والسعي إلى السيطرة العسكرية والأمنية والاقتصادية في مناطق سيطرة “الجيش الوطني السوري” بريف حلب، والمسؤول الأمني من خطف وغيره، وهو أبو أحمد زكور.

التهمة العلنية هي اعترافات القحطاني، لكن التهمة الحقيقية هي أنه الشريك الأول لـ”زكور” في محاولة الانقلاب على الجولاني والاستيلاء على مقاليد الحكم في المنطقة هناك.

أصدر الجولاني قراراً بالقبض على زكور الشهر الماضي، “حياً أو ميتاً”، إضافة لاعتقال كافة الكوادر العسكرية والأمنية المرتبطة به بشكل مباشر، وساهمت القوات التركية في مداهمة مقراتهم ومزارعهم في باب الهوى ومدينة سرمدا والدانا وبلدة باتبو وقرية كفر ناصح ومدينة الأتارب إضافة لبلدة أريحا بريف إدلب، وفرض الإقامة الجبرية على عائلته وعائلة شقيقه وأيضاً على عائلة عمه، المتواجدين في مدينة سرمدا وقرية رأس الحصن، بهدف إجباره على تسليم نفسه.

وقال الباحث محمود الطباخ، المختص في الإسلام السياسي، في حديث لـ”الحل نت”، إن التهمة العلنية هي اعترافات القحطاني، لكن التهمة الحقيقية هي أنه الشريك الأول لـ”زكور” في محاولة الانقلاب على الجولاني والاستيلاء على مقاليد الحكم في المنطقة التي يسيطر عليها الجولاني، والذي يتعاون مع الأتراك بشكل قوي.

وعقب الحملات التي حاولت أن تطال زكور، الذي فر وهدد بكشف الفساد المالي والسياسي وعمليات الاغتيال التي قام بها الجولاني، هاجمت صفحات مقربة من قيادة “هتش” زكور، قالت إنهم اكتشفوا أنه كان يتاجر في الحشيش، وله العشرات من مولات وأبنية ومشاريع زراعية وشاحنات تجارية ومستودعات حديد في مدينة الدانا وبلدة أطمة ومدينة إدلب، وأن العملاء التابعون له بلغ عددهم إلى 220 معتقلاً.

ورد زكور في تسجيل صوتي نشرته قناة (من إدلب) اتهم وسام الشرع “أبو أحمد حدود”، و”أبو داوود”، و”أبو فراس السوري” بالتفجير الذي حصل في 14 من آب/ أغسطس 2016، وأسفر عن نحو 50 قتيلاً من عناصر في “الجيش الحر” ومدنيين، وعن تفجير سيارات مفخخة في مدينة الأتارب و”الفوج 46″ غربي حلب، خلال قتال الهيئة مع مجموعات عسكرية من “حركة نور الدين الزنكي”.

وحاول الجولاني إسكات زكور بإغرائه بحكم إحدى المناطق، متعهداً بإخراج المعتقلين من أقارب زكور بما فيهم يوسف عربش شيخ “قبيلة البكارة”، وكذلك السماح له بتشكيل فصيل صغير في الشمال بشرط ألا يعرقل بغي وتمدد الهيئة في الشمال، إلا أن الأخير لم يوافق على ذلك وفق أبي حمزة الكردي، القائد المنشق عن الهيئة.

يقول أبو حمزة الكردي في صفحته بـ “تليغرام”: إن “هناك أناساً قضوا زهرة أعمارهم في السجون لا لشيء سوى أنهم قالوا منذ سنوات أن هناك اختراقاً، وهناك عمالة وهناك خيانة، فهؤلاء أيضاً أصحاب مظلمة يجب أن ترفع، وهناك أيضاً من لفقت ضدهم القضايا وصدرت ضدهم الأحكام و انتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب من قبل أذرع هؤلاء المجرمين في الجهاز الأمني”.

أما خباب الشامي في قناته فيقول: إن عبد الرحيم عطون، رئيس الهيئة الشرعية، لم يترك شيخاً أو طالب علم أو مصلح إلا وأسقطه في جمع من الدعاة، والعسكريين بأسلوب المكر، والخداع، ومنهم المحيسني والعلياني، والتلي والمهدي، وأبو شعيب، والخطيب، والصادق، والغزي، وأبو جابر الشيخ، وها هو يقر بتهمة أبو ماريا القحطاني الحقيقية وهي خلايا اختراق لصالح الدول، مضيفاً أن “زكور” يستطيع بناء تكتل ودعوة وتأمين منشقين عن الهيئة وهم كثر، ولديه اطلاع وخبرة في ملف تمدد الجولاني، ويستطيع تخريب كل ما حققه الجولاني شمال حلب.

الخلاصة، أن الصراع الآن لا يعدو كونه صراع بين تيارين داخل الهيئة، وأحد موالٍ للأتراك، وآخر موالٍ لجهات أخرى، ولولا توفّر أدلة التجسس والعمالة الدامغة لما تمكن أحد التيارين من فضح أوراق الطرف الآخر، واعتقال بعض أفراده بهذا الشكل، وسيظل هذا الصراع البيني قائماً، والاتهامات متوالية ولن تتوقف، حتى يحسم طرف منهم المعركة على حساب الآخر.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة