يبدو أنّ شمالي غرب السوري بات على موعدٍ مع تحولات جديدة؛ في ظل التحركات المكثّفة لأنصار “كتائب التوحيد والجهاد”، وهي فرع تابع لتنظيم “القاعدة” ومصنّفة على قوائم “الإرهاب الدولي”، ويقوده الجهادي الأوزبكي عبد العزيز حكماتوف، وهو الأمير الثاني للتنظيم، وخليفة المؤسس سراج الدين مختاروف (أبو صالح)، والذي يسعى تجاه مدّ مشروع التنظيم، إلى ما هو أبعد من حدود الشرق الأوسط وآسيا الوسطى.

ويمكن القول إن حكماتوف نجح في حسم الصراع على خلافة مختاروف، بفضل جهود أبو محمد الجولاني، زعيم “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً)، بالتزامن مع الصراع المحتدم بين تنظيم “حراس الدين” التابع لتنظيم “القاعدة”، و”هيئة تحرير الشام”.

وكانت “هيئة تحرير الشام”، باعتبارها الفصيل المسلّح البارز الذي يعمل في إدلب شمال غربي سوريا، قررت إبّان صراعها مع “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، التّخلص من مختاروف، والذي قطع في 30 أيار/ مايو 2020، مع حوالي 50 من أتباعه، العلاقات مع “هيئة تحرير الشام”؛ احتجاجاً على الانحياز لـ”العنصر العربي”، وبعد إسبوعين فقط، اعتقلته قوات الأمن الداخلي التابعة لـ “الهيئة” في محافظة إدلب، ومرّر الجولاني صعود حكماتوف إلى قمة واحدة من أكثر الجماعات الجهادية عنفاً وتوحّشاً.

حكماتوف.. أمير الظل يواجه خصومه

كان حكماتوف بمثابة أمير الظل، الذي اتّهمته عناصر القرغيز، الموالية لمختاروف بالتّبعية للجولاني، فلجأ حكماتوف إلى تكوين مجلس شورى جديد، لنزع الشرعية عن الأمير السابق، ممّا أدى إلى حدوث صدع كبير داخل التنظيم، أخذ بُعداً عرقياً، حيث انحاز الأوزبك والطاجيك وبعض العرب إلى الأمير الجديد، في مواجهة القادمين من قيرغيزستان الذين ظلّوا على ولائهم للأمير السابق. كما اتّهم الجهادي الأوزبكي مالك عبد الرحمن، حكماتوف بنشر الفتنة والعِداء بين الجماعات الجهادية، وأنه انحرف عن سبيل الله، وأنه مجرد ظل للجولاني وتابع له. بينما اتّهمته أطراف أخرى بالعمالة لإيران، فضلاً عن اتهامه بالقصور العقائدي.

سراج الدين مختاروف، مؤسس كتيبة التوحيد والجهاد- “إنترنت”

وربما يكون المتغير الأكثر فعالية داخل “كتائب التوحيد والجهاد”، هو إعلان وزارة الدفاع الروسية، عن مقتل مختاروف نتيجة لضربة شنّتها القوات الجوية الروسية على معسكر في محافظة إدلب السورية، في أيلول/ سبتمبر الفائت. بالإضافة إلى التغييرات الهيكلية التي قام بها حكماتوف، وعلى رأسها تعيين الجهادي سيف الدين الأوزبكي، الذي قاتل ضدّ التحالف الغربي في أفغانستان لمدّة تزيد عن 10 سنوات، نائباً للأمير وقائداً عسكرياً جديداً. كما حرص على تأسيس مرجعية دينية للتنظيم، باستحداث منصب إمام الجماعة، والذي شغله أهل الدين نافكوتي، وهو رجل دين أصولي بارز؛ الأمر الذي عالج أوجه القصور الفقهي لدى الأمير الجديد، وعدم إجادته العربية بطلاقة.

يتبنى عبد العزيز حكماتوف استراتيجية جهادية أكثر واقعية، ووفقاً للعقيدة التكتيكية المنقّحة لـ”كتيبة التوحيد والجهاد”، تقتصر عمليات المجموعة على الأراضي السورية، مع إرجاء الجهاد في روسيا وآسيا الوسطى لمرحلة لاحقة، وربما يهدف من وراء ذلك إلى تجنّب الانتقام الروسي، في ظل تفاهمات عملياتية مع “هيئة تحرير الشام”.

وبحسب تقرير لوزارة الخارجية الأميركية، صُدر في آذار/ مارس 2022، فإنّ “كتيبة التوحيد والجهاد” التابعة لتنظيم “القاعدة”، تعمل في محافظة إدلب السورية، جنباً إلى جنب مع “تحرير الشام”، وتتعاون مع جماعات إرهابية أخرى مثل “كتيبة الإمام البخاري”، و”اتحاد الجهاد الإسلامي”.

السعي تجاه فرض قيود اجتماعية

بحسب تقارير ميدانية خاصّة، فإن حكماتوف يعمل في ظل توجيهاتٍ من الجولاني، كما أنه أصدر أوامره لجنوده بالامتثال للقيود الاجتماعية والدينية التي فرضتها “حكومة الإنقاذ السورية”، التي أنشأتها “هيئة تحرير الشام”. وطالب عبد العزيز مقاتليه بعدم الدخول في صراعات داخلية مع السكان.

وكان الحادث المفصلي، هو قيام مجموعةٍ من مقاتلي “كتائب التوحيد والجهاد”، باقتحام المتحف الوطني السوري في إدلب، حيث دمّروا سبع لوحات جدارية مُدرجة على قائمة التراث العالمي لـ “اليونسكو”، الأمر الذي أغضب الجولاني، الذي يحاول الظهور أمام الغرب كرجل دولة مسؤول.

وعليه جرت تفاهمات بين الطرفين، طالب خلالها الجولاني بالسيطرة على المقاتلين الأوزبك، وفي المقابل طالب حكماتوف بمزيد من الإجراءات الراديكالية داخل المجتمع، من أجل ضبط حركة مقاتليه الأكثر تطرفاً، وناشد الجولاني على وجه الخصوص، بتكوين شرطة للآداب العامة.

كانت “حكومة الإنقاذ السورية” أرجأت لأكثر من مرة إصدار قانون الآداب العامة، بعد حلِّ قانون الفلاح، في العام 2021، والذي كان يؤدي نفس الغرض، لكن الضغوط التي مارسها عبد العزيز حكماتوف، دفعت الحكومة إلى طرح القانون أخيراً، في مطلع كانون الثاني/ يناير الجاري، ويتضمن المشروع فرض الحجاب على الفتيات اللاتي تجاوزن الـ 12 عاماً، بالإضافة إلى حظر تشغيل الأغاني، ووضع قيود على الاختلاط في بيئة العمل بين الجنسَين.

مسؤول العلاقات الإعلامية في وزارة الإعلام بحكومة الإنقاذ، قال إن مشروع القرار لا يزال في مراحله الأولى، ولم يتم اعتماده بشكل نهائي، وقد حرصت “هيئة تحرير الشام” على تسريب بنوده؛ لاختبار ردّة فعل الشارع.

تشريعات من العصور الوسطى

أبرز أقسام القانون المسرّب، هو قسم الممنوعات الدينية، وفيه مجموعةٌ من المواد القروسطية، أبرزها منع السحر والشعوذة وكتابة الطلاسم، وقراءة الكف والفنجان والخطوط ونحوها، ومنع المجاهرة بالفطر في نهار شهر رمضان، ومنع البيع وفتح المحال التجارية والمطاعم بعد النداء الثاني يوم الجمعة وحتى انتهاء الصلاة، كما يُمنع الوشم، وخروج النساء والفتيات اللاتي بلغن الثانية عشرة من دون حجاب.

ويتضمن قسم مخالفات الآداب العامة، جملة من القيود الاجتماعية، منها منع الرجال من بيع الأشياء الخاصة بالنساءِ، كما يمنع الاختلاط في العمل بين الجنسَين، وتمنع المعازف، والعروض المرئية والمسموعة المخالفة للدين، مع فرض قيود على التدخين، ومنع الوقوف أمام المدارس والمعاهد والجامعات والأماكن الخاصة بالإناث، وغير ذلك من القيود.

إن مطالب حكماتوف بفرض قيود اجتماعية أكثر تشدّداً في إدلب، هي جزءٌ من استراتيجية براغماتية، تهدف إلى تكريس الولاء الثابت للجماعات الراديكالية المسلحة في آسيا الوسطى.

من جهته، أبدى حكماتوف ترحيبه بالقانون الذي طال انتظاره، و كبادرة حسن نوايا، عاد وأكد أن “كتيبة التوحيد والجهاد”، هي جزءٌ لا يتجزأ من القيادة القتالية للجولاني، ورغم أنها كيان جهادي مستقل، إلا إنّها تتقاسم أهدافاً استراتيجية شاملة مع “هيئة تحرير الشام”.

ويمكن القول إن مطالب حكماتوف بفرض قيود اجتماعية أكثر تشدّداً، هي جزءٌ من استراتيجية براغماتية، تهدف إلى تكريس الولاء الثابت للجماعات الراديكالية المسلحة في آسيا الوسطى، مثل: الحزب الإسلامي التركستاني للأويغور، وكتائب التوحيد والجهاد الأوزبكية، حيث يُعد النموذج الطالباني هو خيار تلك العناصر المفضل. وهو ما لفت إليه حكماتوف، في خطبة ألقاها مؤخراً، حيث استشهد بإمارة “طالبان” الإسلامية، باعتبارها نموذجاً مثالياً لتأسيس حُكم الشريعة في آسيا الوسطى، كما أكد أن تأسيس الإمارة الإسلامية، والحفاظ على الأمة، أمرٌ لا يمكن تحقيقه دون التزام بأحكام الشريعة، على غرار النهج الذي تبنته حركة “طالبان”.

ويرى حكماتوف أن وضع قيود على الاختلاط بين الجنسَين في المجال العام، يمكّن “هيئة تحرير الشام” من ضمان ولاء المقاتلين؛ عبر احتكار تقديم الجنس المقدّس لهم، من خلال الغزو والسّبي، ولو بشكل سريّ غير مُعلن، لتجنب الغضب الأميركي، كما أن إحكام السيطرة على البُنى الاجتماعية، من شأنه أن يقمع الحركات الاحتجاجية، ويقطع الطريق أمام المنافسين أمثال: “فيلق الشام، وأحرار الشام، وحراس الدين”. ونتيجة لذلك، عرض أمير “كتائب التوحيد والجهاد” نفسه، كأداة ملائمة للآلية العسكرية التي تملكها “هيئة تحرير الشام”.

ويكرّس القانون الجديد في حال إقراره، نموذجاً بنيوياً، يهدف إلى تكريس هيمنة أيديولوجية أكثر تشدداً، وهو خط قد يخالف توجهات الجولاني، الذي يحرص على تدشين نموذج إسلاموي جديد، يرضي الغرب، ويجنبه مصير تنظيم “داعش” الإرهابي، إلا أن ضغوط الحلفاء في “كتيبة التوحيد والجهاد”، ربما أرغمته على تمرير مشروع القانون بشكل غير رسمي، في مناورة سياسية، يستقطب بها حكماتوف من جهة، ويختبر ردود الأفعال على الصعيد الاجتماعي من جهة أخرى.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة