في تطور مذهل للمناورات الجيوسياسية، يشهد العالم تحوّلا غير متوقّع، حيث تحوّل الدب الروسي المعروف منذ زمن عن امتلاكه ترسانة أسلحة لا تقهر وتفنّنه بصناعة الأسلحة وتصديرها، إلى دولة تبحث عن أي سلاح يجعله صامدا لفترة من الزمن أمام الحرب التي افتعلها في أوكرانيا ولا يزال يتجرّع مرارة كأسها.

تتخذ روسيا حاليا، خطوة جريئة باللجوء إلى الصواريخ الباليستية التي تنتجها شريكتها منذ فترة طويلة، إيران. هذه الرقصة بين دبلوماسيي الدولتين محاولة لوضع اللمسات الأخيرة على اتفاق يمكن أن يعيد تشكيل توازن القوى في المنطقة، بعد كشف مقومات “الكرملين” الحقيقية.

في قلب هذه الملحمة المثيرة للاهتمام، يظل السؤال قائماً: هل ستؤتي مناورة روسيا الجريئة ثمارها، وما هي العواقب غير المتوقعة التي قد تطلقها هذه المفاجأة الاستراتيجية على رقعة الشطرنج العالمية، والأهم من ذلك، هل من المعقول أن موسكو باتت بحاجة إيران؟

إيران المورّد الجديد

روسيا وإيران تحاولان بحسب موقع “كييف بوست” الأوكراني، التوصل إلى اتفاق بشأن نقل الصواريخ الباليستية من طهران إلى موسكو. هذا التحرك يأتي مع انتهاء الحظر الصاروخي على إيران وفقاً لقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، الذي أقرّ فرض حظر على تكنولوجيا الصواريخ الإيرانية منذ عام 2015.

الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي يلقي خطابًا بينما تقدم إيران أول صاروخ باليستي تفوق سرعته سرعة الصوت “فتاح” (الفاتح) في حدث أقيم في طهران، إيران في 6 يونيو 2023. (تصوير سباه نيوز /غيتي)

يبدو أن موسكو تحرّكت جدّيا بعد 18 تشرين الثاني/أكتوبر الفائت – وقت انتهاء مدّة القرار – حيث سيتم السماح لطهران بتصدير الصواريخ والتقنيات ذات الصلة دون رقابة دولية، وستكون روسيا قادرة على الحصول على صواريخ من إيران لحربها ضد أوكرانيا.

حاليا وفق المهتم بالشؤون العسكرية، بوهدان توزوف، فإن “الكرملين” الروسي مهتم بنموذجين من الصواريخ الباليستية الإيرانية، وهي “فاتح 110” و”ذو الفقار”، وهذا تطوّر غير اعتيادي لدولة دخلت سوق الصناعات العسكرية منذ عشرينيات القرن الماضي.

صاروخ “فاتح 110” قادر على مهاجمة أهداف على مسافة 300 كيلومتر، في حين يستطيع “ذو الفقار” الوصول إلى أهداف تصل إلى 700 كيلومتر، وهذه الصواريخ من النوع الباليستي وتصل سرعة طيرانها إلى 4 ماخ، وتبلغ كتلة المتفجرات الموجودة في الرأس الحربي 650 كيلوغراما، بينما الصاروخ الباليستي الروسي “إسكندر” لديه رأس حربي يزن 480 كيلوغراما. 

الصواريخ التي تطلّع لها موسكو تم استخدامها في سوريا من قِبل كلٍّ من “الحرس الثوري” الإيراني و”حزب الله” اللبناني، لا سيما بعد أن بدأ الإنتاج التسلسلي لهذه الصواريخ في عام 2002، ومنذ ذلك الحين واصلت إيران تحديثها، وكان الساحة السورية بمثابة حقل فعلي لتجريب هذه الصواريخ.

على مدى سنوات التطوير والتحديث، فإن أحدث جيل رابع من “فاتح 110” بحسب توزوف، قادر على ضرب مسافة تصل إلى 300 كيلومتر، وبما أنها صواريخ باليستية وليست صواريخ “كروز”، لذا يصعب اعتراضها وإسقاطها.

انهيار الصناعة العسكرية الروسية؟

من الناحية العسكرية، فإنه إذا حصلت روسيا على صواريخ “فاتح-110″، فهذا يعني أن الروس سيكون لديهم القدرة على توجيه ضربات في أي مكان تقريباً في أوكرانيا، باستثناء المناطق الجنوبية الغربية. وفي الوقت نفسه، يمكن مهاجمة كامل أراضي أوكرانيا بصواريخ “ذو الفقار”، التي يصل مداها إلى 700 كيلومتر.

شاحنة تحمل صاروخًا باليستيًا إيرانيًا أسرع من الصوت من طراز “فتاح” خلال العرض العسكري السنوي بمناسبة ذكرى الحرب مع العراق، في طهران في 22 سبتمبر 2023. (تصوير وكالة فرانس برس)

منذ عام 2022، ابتعدت الصين والهند عن استيراد الأسلحة من موسكو بعد أن كانا يشكلان أكبر الدول التي تستورد الأسلحة الروسية، هذا الانسحاب فُسّر سابقا على أنه خضوع للعقوبات الدولية، لكن هذا التفسير ليس قويا لا سيما وأن الصين غالبا لا تلتزم بتطبيق العقوبات الغربية مع الدول التي تشكّل معها تحالف.

لكن الحديث عن حاجة روسيا سابقا لطائرات دون طيار الإيرانية وحاليا الصواريخ البالستية، يفند بوضح تراجع هذه الدول، إذ سقطت ورقة التوت عن قوة وصلابة الآلة العسكرية الروسية بعد غزو أوكرانيا، حيث أُلحق ضررا كبيرا بصناعة الدفاع الروسية.

صادرات الأسلحة الروسية تعرضت لعدة ضربات، أبرزها انخفاض بنسبة 31 بالمئة في السنوات الخمس المنتهية في عام 2022، مقارنة بالسنوات الخمس المنتهية في عام 2017، وهذا بدوره أثّر على إنتاج الصناعات العسكرية وتطويرها.

يتكون قطاع الصناعة الدفاعية الروسية من 1600 شركة توظّف مليوني شخص. منذ عام 1991، انخفضت القوى العاملة في صناعة الدفاع بشكل كبير، بعد أن كانت صناعة الدفاع واحدة من القطاعات الصناعية الأعلى أجرا، ولكن منذ عام 1991، انخفضت مستويات الأجور بشكل مطّرد مقارنة بمتوسط ​​الأجر الصناعي. 

هذا الأمر تكرّر بعد عام 2017 وتفاقم بقوة بعد شباط/فبراير 2022، حيث تضررت الإلكترونيات والصناعات المرتبطة بها بشدة، واختفت تقريبا صناعات الكمبيوتر ومعدات الاتصالات الروسية، وباتت أشباه الموصلات التي لدى “الكرملين” متخلفة بعقد من الزمن عن الموجودة لدى أوروبا والغرب.

موسكو باتت بحاجة إيران؟

لقد كشفت حرب فلاديمير بوتين في أوكرانيا عن نقاط الضعف في الدولة الروسية، بدءاً من تعفّن الجيش إلى غرفة الاستبداد في “الكرملين”. كما أدت الحرب إلى تسريع انحدار رأس المال الدولة – الصناعات العسكرية – وتم عزلها عن أسواق الطاقة المهمة وعن الوصول إلى التكنولوجيات الحيوية. 

مفاجأة استراتيجية وتحول غير متوقع روسيا تلجأ لإيران بالصواريخ الباليستية! (4)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير الدفاع سيرجي شويغو بجولة في معرض للمعدات العسكرية بعد اجتماع موسع لمجلس إدارة وزارة الدفاع الروسية في مركز مراقبة الدفاع الوطني في موسكو في 19 ديسمبر 2023. ( تصوير ميخائيل كليمنتيف / وكالة الصحافة الفرنسية)

بحسب حديث الأكاديمي والخبير في الشأن الروسي، ألكسندر ستروكانوف، لـ”الحل نت”، فإن استيراد الأسلحة من إيران، يكشف عن نقاط الضعف في الصناعة العسكرية الروسية، التي كانت غير قادرة على تلبية متطلبات وتحدّيات صراع تقليدي عالي الحدّة مثل أوكرانيا. 

هناك بعض العوامل التي ساهمت في انهيار الصناعة العسكرية الروسية، بحسب ستروكانوف، منها الاعتماد المفرط على المورّدين الأوكرانيين، حيث اعتمدت روسيا على أوكرانيا سابقا في العديد من المكونّات المهمة لمعدّاتها العسكرية، مثل محركات طائرات الهليكوبتر والسفن والدبابات. وعطّلت الحرب سلسلة التوريد هذه وأجبرت روسيا على البحث عن مصادر بديلة أو تطوير قدراتها الخاصة، وهو الأمر الذي ثبُت أنه مكلف ويستغرق وقتًا طويلاً.

كذلك، الافتقار إلى الابتكار والتحديث، إذ تخلفت الصناعة العسكرية الروسية عن نظيراتها الغربية من حيث التطور التكنولوجي ومعايير الجودة. والعديد من أنظمة أسلحتها قديمة أو غير موثوقة أو غير فعالة، خاصة في مجالات الذخائر الموجهة بدقة، وأنظمة القيادة والسيطرة، والمركبات الجوية بدون طيار، وأنظمة الاتصالات، والمعدات الشخصية، وهذا ما يدلل تحولها نحو طهران.

علاوة على ذلك، فإن ضعف الثقافة والعقيدة العسكرية أدى إلى عملية صنع قرار مركزي للغاية، وتجاهل لرفاهية جنودها، وانتهاكات عسكرية. وقد أعاقت هذه العوامل قدرة المؤسسة العسكرية الروسية على التعلّم من أخطائها، والتكيّف مع ساحة المعركة المتغيرة، والتعاون مع حلفائها.

أيضا وبسبب القيود الديموغرافية والاقتصادية تواجه الصناعة العسكرية الروسية تحديات خطيرة من حيث الموارد البشرية والمالية. تعداد سكان روسيا يتجه نحو الانخفاض والشيخوخة، الأمر الذي يحدّ من مجموع المجنّدين المحتملين والعمال المَهرة. كما يعاني الاقتصاد الروسي من آثار العقوبات الغربية، وانخفاض أسعار النفط، والفساد، مما أدى إلى انخفاض ميزانيتها واستثماراتها في الإنفاق الدفاعي والبحث والتطوير.

وقد اجتمعت هذه العوامل لتقويض قدرة الصناعة العسكرية الروسية على الحفاظ على قوتها العسكرية وتجديدها، وتشكّل تهديداً حقيقياً لخصومها. لقد كشفت حرب أوكرانيا عن الفجوة بين طموحات روسيا وقدراتها، والحاجة إلى إصلاح شامل لصناعتها العسكرية لا سيما بعد حاجتها لإيران بداية من القذائف المدفعية والطائرات دون طيار وصولا إلى الصواريخ الباليستية.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات