لم يكد يمرّ الكثير من الوقت عن مقتل نائب رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس”، صالح العاروري، الذي قُتل بغارة إسرائيلية مؤخراً في معقل ميليشيا “حزب الله” بضاحية بيروت الجنوبية، حتى سارعت قيادات عسكرية ودينية محسوبة على معارضي الرئيس السوري لنعيه والدعاء له، رغم وجود العديد من الصور التي تظهر العاروري برفقة المرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، ورفقة قائد “فيلق القدس” السابق التابع لـ”الحرس الثوري” الإيراني، قاسم سليماني، المقتول مطلع العام 2020.

الشرعي البارز في “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقا)، عبد الرحيم عطون، والذي يشغل أيضاً رئاسة المجلس الأعلى للإفتاء في إدلب، كتب نعوة طويلة على قناته في منصة “تليغرام” وصف فيها العاروري بأنه قتل “في مواطن الدفاع عن شرف هذه الأمة”.

كما نعى العاروري القائدُ العام لـ”حركة أحرار الشام”، عامر الشيخ المتحالف مع “تحرير الشام”، ووصف في حسابه على منصة “إكس” (تويتر سابقاً) العاروري بـ”الأخ”.

توالي بيانات التعزية بحق العاروري كانت استكمالاً لموقف “حزب الله” اللبناني من الجريمة التي زعم “أنها لن تمر دون ردّ أو عقاب”، واصفاً على لسان أمينه العام، حسن نصرالله، بأن “الجريمة استكمال لجريمة اغتيال القائد السيد رضي الموسوي”. ويعرّف الموسوي بقربه من قاسم سليماني وحسن نصرالله وأحد أكبر مستشاري “فيلق القدس” في سوريا قبل أن يُقتل بغارة إسرائيلية في مزرعة قرب منطقة السيدة زينب بدمشق.

إيران والجماعات الإسلامية

تأخذنا بيانات التعزية إلى دراسة حالة العلاقة ما بين إيران والجماعات الإسلامية بمختلف تلوّناتها الأيدلوجية والمذهبية والطائفية من تنظيم “القاعدة” و”طالبان” و”الجماعة الإسلامية” في مصر (نواة تنظيم القاعدة) وصولاً إلى “حماس” و”الجهاد الإسلامي” و”الإخوان المسلمين”، وما رافق مراحل عمل تلك الحركات من رعاية إيران لها أو على الأقل تشكيل مصالح توافقية مشتركة ولو مؤقتة بظروف ضرورية تمثّل بذاتها أعلى درجات البراغماتية السياسية.

زعيم هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولاني في محافظة إدلب شمال غرب سوريا في 7 فبراير 2023. (تصوير عمر حاج قدور / وكالة الصحافة الفرنسية)

فيمكن ملاحظة رسم إيران لخطوط تفاهم عريضة مع “القاعدة” والجماعات المتشددة عندما لا يكون هناك تصادم مباشر، فهي تمدّ “القاعدة” في اليمن لمواجهة قوات “التحالف العربي” وإعاقة تحرير اليمن، وتتفاهم مع “طالبان” لمواجهة خطر “داعش” على أطراف حدودها الأفغانية، وتستضيف قيادات كبيرة في “القاعدة” مثل الظواهري وابن بن لادن وتعطيهم كل الإمكانات ليصدروا بياناتهم التي تتهجّم على الدول العربية التي تعاديها إيران.

بالعودة إلى حادثة الاستهداف الجوي الأميركي في العاصمة الأفغانية كابول لأيمن الظواهري زعيم تنظيم “القاعدة” والذي يقيم عدد كبير من قياداته على الأراضي الإيرانية، ظهر شرعي “تحرير الشام”، عطون/ والذي يوصف بـ “مهندس التحولات البراغماتية” إلى جانب عدد من قياديي “تحرير الشام”، مستنكرًا الحادثة التي جرت في آب/ أغسطس 2022.

عطون وصف إيّاه بـ “المجاهد والمقاوم في سبيل الله لما يزيد عن نصف قرن”، قبل أن يظهر مرة أخرى خالعاً ثوب الجهادية، مستثمراً وصول حركة “طالبان” لسدة الحكم في أفغانستان ليروّج لتنظيمه باعتباره نموذجاً له ميزاته وهويته وواقعه الجيوسياسي الخاص، في ندوة خاصة به، قارن فيها أيضاً بين حركات “المقاومة” الإسلامية المحلية والتي حددها بثلاث حركات: وهي “طالبان” بأفغانستان، و”حماس” الفلسطينية المدعومة إيرانياً، وتنظيمه “تحرير الشام” الضلع الثالث في ثالوث المقاومة، والذي انتقل من مقولات الجهادية العالمية أو “القاعدة” إلى مفاهيم الجهادية الوطنية المعتدلة.

وليس ببعيد بيان “هيئة تحرير الشام” الصادر في حزيران/يونيو 2022، والذي يوضح حالة التناقض أو المداهنة السياسية، إذ علّقت عبره “تحرير الشام” على إعلان “حماس” عودة العلاقات مع دمشق مطالبة الحركة بـ”مراجعة سياستها وإعادة بوصلتها لما يراعي مبادئهم الأصلية”، معتبرة في الوقت ذاته أن “التصاقها بإيران قد يشوّه إرث مقاومتها”.

ماذا تعني بيانات التعزية؟

قد تعكس بيانات التعزية التي صدرت عن قيادات في “هيئة تحرير الشام” أو “أحرار الشام” الجناح الموالي لـ “لهيئة” رغبة حقيقية لقيادتيهما وتوجهاتهما دون أن تتسبب مواقفهما الرسمية باستفزاز مئات آلاف من ضحايا المليشيات الإيرانية التي بدت حليفة لحركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي”. 

مقاتلون تم تجنيدهم حديثًا في جماعة “هيئة تحرير الشام” السورية، يستمعون إلى أحد المتدربين أثناء مشاركتهم في تدريبات عسكرية، على مشارف محافظة إدلب الشمالية الغربية. (تصوير عمر حاج قدور / وكالة الصحافة الفرنسية)

إذ افتقدت قيادة الفصيلين إلى ما يكفي من الشجاعة لإصدار بيانات رسمية للتعزية بمقتل القيادي العاروري في الضاحية الجنوبية لبيروت التي تخضع أمنيًا لإشراف وإدارة “حزب الله” اللبناني أحد أبرز أذرع إيران الولائية والذي لعب الدور الأهم في جرائم الإبادة التي تعرّض لها السوريون في وقت مبكر من اندلاع احتجاجات عام 2011.

وفي ذات الوقت أوعزت قيادات الفصيلين لقياديين بارزين للتعبير عن مواقف التنظيمين بصفتهما الشخصية تجنّباً للحرج أمام مئات الآلاف من ذوي ضحايا الميليشيات الإيرانية، إذ إن تحالف حركة “حماس” مع “حزب الله” اللبناني ضمن ما يُعرف باسم “محور المقاومة” وضع جميع أذرع المحور في ذات سلة العداء والمشاركة في المسؤولية عن الجرائم التي ارتكبت ضد السوريين.

يرى الباحث في الحركات الجهادية، عبد الرحمن الحاج، أن “تحرير الشام”، تريد أن تحجز لها موقعاً في القضايا العربية والإسلامية، بمعنى آخر أنها تريد أن تستغل القضية الفلسطينية شأن جميع الذين يستثمرونها لمصالحهم السياسية، ومن الواضح -حسب حديث الحاج لـ “الحل نت”-، أنها تريد أن تتخذ من التعزية بـ”حماس” وسيلة لتعزيز قاعدتها الاجتماعية في الوقت الذي تشنّ فيه حملة على المتهمين بالعمالة والعمل ضد الجولاني مع أطراف خارجية وبشكل خاص قوات “التحالف”.

هل تشرق الشمس من طهران؟

في آب/ أغسطس 2019، أصدر مرصد الشرق الأوسط وشمال إفريقيا “مينا” تقريراً بعنوان: “العلاقة السرية بين الجولاني وإيران”، إذ أشار إلى أن “الحرس الثوري” الإيراني، تسلم الأسير الإيراني الأحوازي، صادق عبد العلي الساعدي، الداعشي الذي قبضت عليه “هيئة تحرير الشام” في معسكر سلقين التابع لتنظيم “داعش” صيف 2018.

التيار الإيراني الذي يغزو المعارضة السورية حان وقت الاستئصال! (1)
محمد عبد الرحمن وزير داخلية ما تسمى بـ “حكومة الإنقاذ” وهي الهيئة الإدارية المحلية المسؤولة عن مناطق سيطرة “هيئة تحرير الشام” الجهادية في منطقة إدلب. (تصوير عارف وتد / وكالة فرانس برس)

تقرير “مينا” اعتمد على اعترافات نشرتها “تحرير الشام” للساعدي ومطابقة صورته مع ما نشره موقع “أحوازنا” وهو موقع عربي أحوازي معارض للنظام الإيراني، في 12 أيار/مايو 2019 من أسماء وصور، قال إنهم أسرى لدى إيران، وتصل عقوبة بعضهم لحدّ الإعدام، وورد اسم وصورة الساعدي إلى جانب آخرين بعد تحميلهم مسؤولية الهجوم الذي تعرض له “الحرس الثوري” خلال عرض عسكري في الأحواز العربية، شباط/فبراير 2019

المصادر الخاصة التي اعتمد عليها “مينا”، قالت إن صفقة سياسية وعسكرية أُبرمت بين الجولاني وطهران، وفق معادلة “الأسرى الأحوازيين مقابل إدلب”، لذا فإن عدد المقاتلين الإيرانيين في معارك إدلب الأخيرة كان أقل، واعتمدت إيران على الميليشيات الصغيرة المحلية غير التابعة بشكل مباشر لـ”الحرس الثوري” الإيراني، بينما نزل الضباط الروس إلى ميدان المعركة.

في عام 2015 كشفت صحيفة “الشرق الأوسط” في تحقيق استقصائي لها عن وجود ارتباط وثيق بين إيران وتنظيم “داعش”، وذلك قبل إعلان فكّ الارتباط بين “النصرة” التي أصبحت فيما بعد “هيئة تحرير الشام”.

وقالت الصحيفة حينها، إنها علمت ومن مصادر مطلعة إن “أولمزون أحمدوفيتش صادقييف”، المعروف بـ”جعفر الأوزبكي”، كان يعد من أهم عناصر “القاعدة” في إيران، ويملك تسهيلات عالية، نتيجة علاقته مع مسؤولين إيرانيين، لا سيما أن وزارة الخزانة الأميركية أكدت أن جعفر الأوزبكي يعمل “بعلم السلطات الإيرانية” على تجنيد مقاتلين لصالح “جبهة النصرة” -هيئة تحرير الشام حالياً.

تقرير “مينا” كان قد سبقه حدث مهم وهو صفقة “المدن الأربعة” التي جرت في نيسان/أبريل 2017، والذي يقضي بإخلاء مدينتي الفوعة وكفريا الشيعيتين من سكانهما، مقابل خروج مسلحي المعارضة وعوائلهم من مدينتي الزبداني ومضايا والتي كانت تقبع تحت حصار خانق من ميليشيا “حزب الله”، إذ تمّ التوصل إلى هذا الاتفاق بعد مفاوضات مباشرة في العاصمة القطرية الدوحة بين ممثلين عن إيران وآخرين عن “جيش الفتح” – المكوّن من عناصر هيئة تحرير الشام وحركة أحرار الشام إضافة إلى فصائل أخرى.

وهو ما عدّه البعض تغييراً ديموغرافيا من تدبير إيران و”تحرير الشام” التي استطاعت آنذاك تجاوز عطب المفاوضات بمراحل وشلليتها التي لازمت المعارضة السياسية، واصلةً إلى الرأس الإيراني مباشرة، مع ملاحظة أن تفريغ كثير من المدن والبلدات المعارضة كان قبل اتفاق “تحرير الشام” مع الإيرانيين. 

“الإخوان”.. ومسك العصا من الوسط

“جماعة الإخوان المسلمين في سوريا”، أيضًا كانت قد نعت العاروري، ووصفته بـ “الشيخ المجاهد”، فيما تعمّد “المجلس الإسلامي السوري” (مقره تركيا) والذي يعدّ القبضة الشرعية للجماعة، عبر بيانه عدم ذكر العاروري بالاسم، موجّهاً تعزيته إلى “الأهل المرابطين في فلسطين”.

عضو جماعة الإخوان المسلمين السورية، محمد رياض الشقفة (الثاني على اليمين)، في إسطنبول التركية. (بولنت كيليك/وكالة الصحافة الفرنسية)

حالة “الإخوان المسلمين” السورية تختلف عن باقي نماذج الحركة في باقي الدول من حيث علاقتها بإيران وأذرعها الولائية ولا سيما “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، إذ إن الجغرافيا السياسية لعبت دوراً في انفصال “الإخوان المسلمون” عن الثيوقراطية الإيرانية في أوائل الثمانينيات. 

وكما يوضح ذلك المحلل “رافائيل ليفيفر” في كتابه، “رماد حماة”، فعندما وقفت جماعة “الإخوان المسلمين” السورية ضد نظام الحكم السوري في عهد حافظ الأسد، تلقت دعماً واسعاً من منافس الأسد البعثي في بغداد، صدام حسين. كما قام رجال الدين الإيرانيون، الذين انخرطوا آنذاك في حرب وحشية ضد نظام صدام، بدعم الأسد في قتاله “الإخوان المسلمين” في سوريا ولا سيما في معقلهم حماة.

ثم لتعاد الكرّة مرة أخرى بعد عام 2011، من خلال دعم النظام الإيراني للأسد الابن ضد كل خصومه بما فيهم “الإخوان”، ومع ذلك لا يمكن إنكار أن الخصم السياسي والثقافي والاجتماعي الحقيقي لـ”الإخوان المسلمين” وفق أبجدية مبادئه هو الغرب ومفاهيمه وديمقراطيته وحقوق الإنسان فيه وحرية الفكر والاعتقاد. 

لذلك تجد الجماعة مكانها الطبيعي مع أعداء هذا الغرب، إي إيران المشتركة معها في تلاقي المفاهيم الأيديولوجية والأفكار والمرجعيات الأصولية عند الإسلام السياسي، واستخدام شعار “الوحدة الإسلامية”، بغية تسويق فكرة التقارب بين المذهبين السُّنّي والشيعي.

ويمكن ملاحظة أن الجانبين الإيراني والإخواني لم يحقّقا شيئاً فعلياً من هذه الوحدة على أرض الواقع، إلا أنه ليس من المستحيل أنّ تسعى إيران لإقامة علاقات مصلحية من نوع علاقتها بـ”حماس” مع فصائل أخرى من جماعة “الإخوان المسلمين” السورية تقوم على الضرورات واستيراد موقف مشابه لموقف “حماس” من الدعم الإيراني لها وأسبابه وظروفه، لا سيما إن قدمت تنازلات فيما يتعلق بدعمها الأسد.

في حديثه إلى “الحل نت”، يشير الباحث في الحركات الجهادية والإسلامية، رائد الحامد، إلى أنه لا تبدو ثمة عوائق أو عقبات منهجية تحول دون بناء علاقات بين إيران وتلك الجماعات التي تشكّل جزءاً من منظومة الإسلام السياسي في سوريا وامتداداتها في المنطقة، إلا أن الموقف السياسي الموالي للأسد هو ما يمنع ذلك.

الحامد لفت في حديثه إلى أنه على الصعيد المنهجي وعلى النقيض من تنظيم “داعش” فإن معظم الجماعات الجهادية التي تتبنى منهج “الإخوان المسلمين” بما فيها تنظيم “القاعدة” وأخواتها، لا تعتمد حكمًا بتكفير الشيعة، ما يزيل أية عقبات عقدية تحول دون بناء علاقات بين هذه الجماعات وإيران.

ختاماً، يمكننا القول: إن بيانات التعزية التي صدرت عن قيادات في “هيئة تحرير الشام” أو “أحرار الشام” الجناح الموالي لـ “لهيئة” و”جماعة الإخوان المسلمين” في سوريا، وأيضا “المجلس الإسلامي السوري”، رغبة حقيقية لقيادتهم وتوجهاتهم في جرّ طيف من النظام الإيراني إلى صفهم ولو بصورة غير مباشرة لتكرار حالة “حماس” و”طالبان” وربما النسخة الشيعية من “الحوثي” و”حزب الله”. 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات