الارتباك والغموض يكتنفان المشهد السياسي في إيران في ظل التوتر الدولي، فالارتباك ناجمٌ عن طبيعة النظام وحمولة القضايا الداخلية والخارجية. فالجمهورية الإسلامية تدعم بنشاط ودأب حلفاءها في النزاعات الرئيسة في المنطقة- العراق، سوريا واليمن ولبنان-، الأمر الذي وضعها على طرفي نقيض مع معظم جيرانها. 

ومثل هذه القِسمة ليست سياسية ولا هي استراتيجية، بل طائفية. وقد أسفرت هذه الديناميكية عن تعميق انزلاق المنطقة إلى خضم الطائفية، وفاقمت النزاعات السياسية بين إيران والعديد من جيرانها، وتتميز هذه السياسة الطائفية على مدى تاريخها بحالة من التوتر وعدم وضوح الرؤية السياسية الحاكمة لها.

انفجار كرمان..  بلبلة داخلية إيرانية

الارتباك هو عنوان المشهد السياسي والاجتماعي والأمني ​​في إيران، وهذا في ظل الفشل الداخلي في المدن الإيرانية، فقد شهدنا الأسبوع الماضي وقوع الانفجار في حفل لإحياء ذكرى قاسم سليماني ومقتل ما لا يقلّ عن 103 أشخاص وإصابة 211 آخرين. 

فنيو طباعة إيرانيون يفحصون نسخة مطبوعة من الصحيفة الإصلاحية الإيرانية اليومية. (تصوير بهروز مهري / وكالة الصحافة الفرنسية)

وفقا لمسؤولين إيرانيين، لم يعلن أحدٌ مسؤوليته عن العملية طوال ما يقرب من 30 ساعة عندما ظهرت تقارير تفيد بأن تنظيم “داعش” قد أصدر بياناً نُشر على تطبيق الدردشة “تلغرام”. وعلى الفور، بدأ العديد من الإيرانيين في التعبير عن شكوكهم بشأن ادعاءات “داعش”، مقتنعين بأن الحكومة الإيرانية نفسها كانت مسؤولة بطريقة أو بأخرى عن واحدة من أسوأ أعمال العنف ضد المدنيين. 

وهذا الشعور شائع جدًا بين الإيرانيين، ويتم التعبير عنه بأشكال مختلفة ولأسباب مختلفة، مثل عدم حضور أي مسؤول أو شخصية بارزة، ولا حتى عائلة سليماني، في الحفل. كل هذه التأكيدات تصل إلى نفس النتيجة وهي أن “الأمر كان هو النظام نفسه”.

مما زرع الخوف في بلد يعاني من اضطرابات داخلية واحتمال نشوب حرب إقليمية متصاعدة، هو شعور العديد من الإيرانيين، الذين خاب أملهم بالفعل من قادتهم، بالغضب لأن السلطات فشلت في توفير الأمن الكافي لحدثٍ حضره آلاف الأشخاص. وألقى مسؤولون في الحكومة اللوم على البلدين اللذين طالما اعتبرتهما طهران عدوَّين لدودين، إسرائيل والولايات المتحدة. وقال خبراءٌ ومحلّلو استخباراتٍ دوليون، إن الهجوم يحمل بصمات الجماعات الإرهابية، وليس إسرائيل. 

خصوصية هذا الانفجار أنه يأتي في وقت يتزايد فيه القلق في إيران وفي جميع أنحاء المنطقة. واستهداف بعض التجمعات البشرية في إيران خلال الأسبوع الماضي، وضع المرشد الأعلى في أزمة حقيقية وكشف ضعف أدوات السلطة الحاكمة هناك، إذ كان بيانه عبارة عن إلقاء اللوم على ما أسماهم “أعداء إيران الخبثاء والمجرمين”، رغم أنه لم يصل إلى حدّ تسمية أي جماعة أو دولة. 

في أعقاب ذلك الهجوم، يقول شخصان مرتبطان بشكل وثيق بـ”الحرس الثوري”، وعلى دراية بالمناقشات الداخلية بين صُنّاع القرار الإيرانيين، إن القادة العسكريين والسياسيين في البلاد قرروا بسرعة تحميل إسرائيل المسؤولية عن التفجيرات. وقالوا إنه حتى لو أعلنت جماعة إرهابية أو معارضة مسؤوليتها عن الهجمات، فإن إيران ستصرّ على أن لإسرائيل يداً في ذلك. 

في هذا الصدد يؤكد الباحث السياسي في مركز “الشرق”، سعد الشارع، في حديثه لـ”الحل نت “، أن المراوحة بين الخيارات هو ما يجعل الضبابية والتناقض حاضرَين في السياسة الإيرانية حالياً، وعمق هذا التناقض حتى تصريحات بعض المسؤولين الإيرانيين اتجاه العملية التي استهدفت طريق مرقد قاسم سليماني، هناك من اتّهم الموساد وآخرين أكدوا تبنّي تنظيم “داعش” للعملية، نظراً لزمان ومكان العملية اللذان يحظيان بخصوصية لدى المجتمع الشيعي بشكل عام. ويمكن القول إن إيران سوف تبقى في وضع صعب حتى انتهاء العمليات في غزة.

تقييم الحكومة الإيرانية وأجهزتها الأمنية يتناقض بشكل حاد مع التحليل الذي أجرته وكالات المخابرات الأميركية، التي أشارت إلى أن إسرائيل لم تكن متورطة. فيما قال علي فايز، مدير “مشروع إيران في مجموعة الأزمات”، إن ذلك لا يتماشى أيضاً مع الأساليب الإسرائيلية المعتادة عند ضرب إيران. 

وبينما تنفّذ إسرائيل بانتظام عمليات سرّية في إيران، فقد استهدفت أفراداً محددينَ، مثل العلماء أو المسؤولين الإيرانيين، أو في المنشآت النووية أو مرافق الأسلحة. وهنا يبدو أن هناك حالة من الانقسام بين الشعب الذي بات يشعر بالقلق ويطالب بالانتقام وبين الحكومة التي تتحدث عن “الصبر الاستراتيجي” وتجنّب إدخال طهران حرب مع أيّ قوة دولية.  

أما الناشطين داخل إيران فيشعرون بالقلق من إمكانية استخدام التفجير في كرمان – أيّاً كان مرتكبه – كذريعة لمزيد من قمع المنشقّين و منتقدي النظام وهو ما تجيد الحكومة القيام به في كل الأحوال. وقد يؤدي هذا الوضع إلى انخفاض شفافية الحكومة ومساءلتها، مما يؤدي إلى انتهاكاتٍ واسعة النطاق لحقوق الإنسان.

تضارب على مستوى التصريحات

إن أهم ما يسيطر على السياسة الإيرانية هو التضارب وعدم وجود سياسة منهجية محدّدة سلفاً، وكأن السياسيين الإيرانيين يعيشون حالة من الارتجال السياسي الحالي، فمثلا صرّح المتحدث الرسمي باسم “الحرس الثوري” الإيراني، رمضان شريف، أن الهجوم الذي شنّه مقاتلو “حماس” على إسرائيل كان أحد “الأعمال الانتقامية لاغتيال قاسم سليماني”، حسبما نقلت وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية (إرنا)، حينها.

الارتباك والغموض يكتنفان المشهد السياسي في إيران في ظل التوتر الدولي – غيتي

وفي أعقاب ادعاء شريف، أصدرت “حماس” بيانا دحضت فيه مزاعم إيران، وذكرت أن الدافع الأساسي وراء الهجوم هو “التهديد الإسرائيلي للمسجد الأقصى”، قائلة إنها تنفي صحة ما صرّح به المتحدث باسم “الحرس الثوري”، وأكدت أن “كافة أعمال المقاومة الفلسطينية تأتي ردّا على تواجد إسرائيل وعدوانها المستمر على شعبنا ومقدساتنا”.

ليأتي بعد ذلك نفي لتصريح رمضان من وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبداللهيان، بأن هجوم حركة “حماس” داخل إسرائيل والذي أُطلق عليه اسم “طوفان الأقصى” في السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي كان “بقرار وإجراء مستقل بامتياز من قِبل حماس”. 

الشارع في حديثٍ مع “الحل نت” يرى أن أسوأ ما حصل لإيران مؤخراً هي عملية “طوفان الأقصى”، مضيفا: “لا أعتقد أن طهران كانت تتمنى حصول ذلك خاصة في مرحلة مهمة، حيث تعتقد السياسة الإيرانية إنه آن الأون لقطف ثمار تدخّلهم وتوغّلهم في المنطقة العربية، سواء كانت هذه الثمار اقتصادية، أو أمنية أو حتى مشاريع استراتيجية، وحقيقة قد بدأت ملامح هذه المرحلة، من خلال إعادة صياغة العلاقة مع العربية السعودية، ومساومة أميركا على موضوع النووي الإيراني، وتثبيت حضورهم العسكري والأمني على طريق الهلال الشيعي (طهران- بيروت). 

لكن بحسب الشارع، فإن عملية “طوفان الأقصى” أحرجت الموقف الإيراني كثيراً، وباتت خياراته محدودة، فإن دخول الحرب فهذا يعني حرباً مفتوحة ضده حتماً سوف تفقده ما استطاع اكتسابه خلال السنوات الأخيرة في المنطقة العربية، وإن امتنع عن المشاركة فسيكون في موقف صعب في علاقته مع أدواته أو حلفائه في المنطقة العربية، ولذلك فإن حكومة طهران اختارت أهون الضررين والتزمت في قواعد الاشتباك.

إشعال الأحداث لدى الوكلاء يزيد من التوتر

يبدو أن “الهلال الشيعي” الذي أنشأته طهران في منطقة العربية يمرّ بمرحلة سيئة. وهنا تبدو هذه الدول المصنّفة على أنها “محور المقاومة”، مع بداية عام 2024، مهددة أكثر من أي وقت مضى. 

مفاهيم حرب جنود لعبة الكرة الأرضية – غيتي

ففي الوقت الذي نشهد فيها حالة من عدم الاستقرار وفقدان التوازن الداخلي، نجد هذه الحالة ممتدة إلى كلّ المناطق التي توجد فيها المليشيات الإيرانية. وهنا يرى إسلام المنسي، الباحث المختص في الشأن الإيراني،  في حديثه مع “الحل نت”، أن السياسة الإيرانية تواجه اختبارات صعبة هذا العام في المنطقة العربية نتيجة الضغوط الدولية والعقبات الاقتصادية التي ربما تُلقي بظلالها على مشروع الإقليمي الإيراني، فقد أدت نقص الموارد المخصص لهذا المشروع إلى حالة من الارتباك وغياب المرونة السياسية مما ينعكس سلباً على وجودها الإقليمي.

فبين طهران وبغداد ودمشق وبيروت وصنعاء خط ساخن، زادته الأحداث سخونة خلال الأسابيع الاثني عشر الماضية. غرفة حرب تدير العمليات من بيروت، خلطة هجمات متعددة الأشكال في ظل تفوق جغرافي لما يُعرف بـ”محور المقاومة”. 

بغداد رفعت سقف التصعيد مع الأميركيين من خلال قوات “الحشد الشعبي”، وبيروت تشاغل الإسرائيليين على الحدود تحت رعاية “حزب الله”، وصنعاء تمارس الجنون البحري دون توقف على مرأى ومسمع من العالم، ومن سوريا التي اكتفت بالموقف الإعلامي الداعم تُطلق بين الفينة والأخرى صواريخ ومسيّرات معدودة، وتتحول مع الوقت لمسرح آخر لتصفية الحسابات على مستوى الإقليم بين إسرائيل وإيران، واغتيال سيد رضي موسوي أخيرا خير دليل على ذلك. 

مع ذلك تبقى الجبهة اللبنانية أكثر الساحات إثارة للقلق الإقليمي بحكم التهديدات الإسرائيلية بتوسيع المعركة، وتحويلها إلى حرب بحدّ ذاتها، وأيضا لما تحمله من خلاصات لليوم الذي سيلي الحرب، متى ما جاء هذا اليوم.

قلق إيراني من مواجهة غير متوقعة

لا يخفى على المراقبين أن هناك نوعاً من التردّد والإرباك في خطوات “المحور” منذ بداية “طوفان الأقصى”، وليست إسرائيل وحدها المضطربة والمربكة. وهذا الإرباك وسياسة التجربة والخطأ والتصحيح مردّها بطبيعة الحال إلى عدم الاستعداد لهكذا لحظة. 

من طهران إلى دمشق فضيحة ارتباك تزلزل حكومة رئيسي وإيران (5)
عرض صواريخ وهمية على لافتة تصور زعيم حركة الحوثي اليمنية عبد الملك بدر الدين الحوثي خلال معرض أقيم تضامنا مع الفلسطينيين في 03 يناير 2024 في صنعاء، اليمن. (تصوير محمد حمود/ غيتي)

والمسألة الثانية والتي تبدو أكثر وضوحا في حالة “حزب الله” في لبنان، بأن الحزب لم يدخل في اختبار جَدّي مع إسرائيل منذ حرب 2006، بالتالي هو معني قبل كل شيء بتجربة وسائل قتاله وأساليب إسرائيل الجديدة والتي لم يختبرها الحزب في معاركه السابقة. 

في الأشهر التي سبقت الحرب، كانت الجبهة الجنوبية في لبنان تشهد نوعا من التوتر المضبوط والذي تجلّى في قضية الخيمة التي نصبها “حزب الله” في منطقة مزارع شبعا. استنزفت القضية الكثير من الأخذ والرّد والتهديدات والمساعي الدبلوماسية، بالتزامن كان لبنان يرسّم حدوده البحرية مع إسرائيل لضمان الاستفادة من حقول الغاز المفترضة. 

الإشارات المتضاربة كانت تشي بأن جنوب لبنان كان على عتبة تحوّل كبير، إما بتجديد الهدنة غير الرسمية الممتدة منذ حرب 2006، أو بتصادم يعيد المنطقة مجددا لمساحة التوتر والاستنزاف كما قبل سنوات. أكثر المتفائلين والمتشائمين لم يتوقّعوا انقلابا سريعا في المشهد كالذي فرضه “طوفان الأقصى”.

ضرب الشبكة الإيرانية في دمشق

يُكمل الوضع في دمشق المشهد الملتبس في السياسة الإيرانية، فقد قتلت غارة جوية إسرائيلية خارج العاصمة السورية دمشق، مستشارا كبيرا في “الحرس الثوري” الإيراني، وفقا لتقارير وسائل الإعلام الرسمية الإيرانية. 

من طهران إلى دمشق فضيحة ارتباك تزلزل حكومة رئيسي وإيران (1)
سائقو سيارات الأجرة الصفراء يقفون معًا تحت صورة ضخمة للمرشد الأعلى الإيراني، آية الله علي خامنئي. (تصوير مرتضى نيكوبازل / نور فوتو)

رضي موسوي، كان أحد كبار قادة “الحرس الثوري” في سوريا، والذي كان مسؤولاً عن تنسيق التحالف العسكري بين سوريا وإيران، وهو جزءٌ مهم من شبكة إيران الإقليمية من الحلفاء والوكلاء المعروفة باسم “محور المقاومة”. 

قتله يُعد صفعة قوية للتواجد الإيراني في سوريا، جاءت هذه العملية في إطار الاستنزاف وفي ذات الوقت تصفية الحساب وهو استتبعها بغارات في البوكمال على مجموعات كانت تعمل معه ومؤخرا في حلب على مقرات تابعة لفريقه. 

الحقيقة أن الوضع في سوريا بالنسبة خاص لإيران؛ لأن سوريا هي محطة إيرانية للتواصل مع “محور المقاومة” في لبنان، فحدوث أي غارات إسرائيلية في سوريا على القوات الإيرانية سيكون لها داعياته الخطيرة على الوضع المشتعل على الحدود اللبنانية، و إسرائيل تعلم ذلك ولهذا تقوم بهذه الغارات كنوع من الضغط على إيران وعلى موقفها في لبنان. 

وربما هذا الارتباك يُعيده البعضُ إلى تعويل قيادة المحور على المساحات الرمادية في الردود منذ اغتيال قائد “قوة القدس” السابق قاسم سليماني في العراق. والجلي أن هذه المساحات بدأت تضيق بشكل كبير منذ يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الفائت، وعليه فإنها إن تُركت لتضيق أكثر، من دون تثبيت معادلة ردع حقيقية فهي ستضيق الخناق على كل المحور الذي ترعاه طهران.

كل هذه الأوضاع المشتعلة ربما تقود المنطقة العربية إلى منعطف حرج  يفضي إلى تهديدٍ يجعل المنطقة نقطة اشتعال لصراع دولي، يكون سكان المنطقة العربية هم وقوده، فعلى الرغم من التداخل والتأرجح في المواقف التي تسيطر على السياسة الإيرانية، إلا أن هذا لا ينفي أنها المستفيد الوحيد من الاضطرابات المستمرة في المنطقة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
1.5 2 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات