يفترق تنظيما “داعش” و”القاعدة” أيديولوجياً واستراتيجياً، وبلغ ذلك مداه في تصفية بعضهم البعض في سوريا وأفغانستان ودول الساحل والصحراء وغيرها، إلا أنهما اتفقا على قتل المغايرينَ والمخالفينَ بحجة بعض الأصول الفكرية التي تشرعن تكفير الدول والشعوب وعدم العذر بالجهل لمرتكبي أعمال الكفر والتكفير بالموالاة، وهي أطروحات تخلق عناصر وتنظيمات إرهابية طوال الوقت.

داعش والقاعدة وبدايات الافتراق

طرح زعيم جماعة الجهاد سيد إمام الشريف في أفغانستان مسألة (تكفير أعوان الحاكم)، في كتابَيه “الجامع – العمدة في إعداد العدة” فانقسم التنظيم، وبدت الأجنحة “الظواهري – أحمد حسين عجيزة – سيد إمام الشريف”، وبعدها تم عزل سيد إمام وتعيين الظواهري قائداً خلفاً له.

كان أبو مصعب الزرقاوي في ذات الوقت بمدينة هرات يتبع نفس أفكار سيد إمام الشريف، وأبو محمد المقدسي صاحب كتاب “الكواشف الجلية في كفر الدولة السعودية”، وأبو قتادة صاحب كتاب “بين منهَجين” وفتوى جواز قتل نساء الضباط وأطفالهم، التي أطلق عليها: “فتوى عظيمة الشأن في قتل الذراري والنسوان”.

وفي معسكر “خلدن بولاية خوست أفغانستان” كان المسؤول الشرعي المصري أبو عبد الله المهاجر، والذي أصبح فيما بعد فقيه “داعش” الرئيسي (قُتل بسوريا)، يقوم بالتدريس في معسكرٍ يشرف عليه أبو مصعب الزرقاوي، لكتابه “مسائل من فقه الجهاد”، وأعطى حلقات عن “مناط الحكم حول الأحكام الجارية في الدار”، و”كفر وردة من انتمى لجيوش الكفر”.

ظلت الخلافات مكتومة داخل “القاعدة” في هذه المسائل إلى أن قام أبو مصعب الزرقاوي بالتفجيرات الشاملة داخل العراق، وبدأت المناقشات بينه وبين بن لادن، حول تكفير الشيعة على العموم، فأصرّ الزرقاوي على تكفيرهم.

قُتل الزرقاوي وكُلّف عبد المنعم عز بدوي المكنى بـ”بن لادن أبي حمزة المهاجر”، بقيادة “القاعدة” بالعراق من أجل إعادة ضبط أفكارها، وفشل المهاجر في ذلك بسبب سطوة العراقيين الذين عيّنوا أبو عمر البغدادي، وقاموا بما يسمى بحلف المطيبين، وعينوا المهاجر وزيرا للدفاع، حتى قتل هو وأبي عمر البغدادي عام 2009، ومن ثم تولى أبو بكر البغدادي الزعامة.

وكان يدير التنظيم فعلياً في عهد أبي بكر البغدادي، حجي بكر وهو من ضباط الجيش العراقي السابقين، واعترف الظواهري بدولة العراق الإسلامية، حتى بدأت “الثورة السورية”، وتم تكليف أبو محمد الجولاني بإنشاء فرعٍ بها، وتالياً أصبح اسم التنظيم (الدولة الإسلامية في العراق والشام)، ثم قُتل حجي بكر في سوريا، وقتل أبو خالد السوري، وفشلت عملية الصلح بين الجولاني والبغدادي، وأعلن الأول انسحابه من تنظيم “داعش” على اعتبار أنه فرع “للقاعدة”، كما أعلن الظواهري في خطأ استراتيجي دعم الجولاني، في المقابل أعلن البغدادي من مسجد الموصل الخلافة، ما وضع “القاعدة” في حرجٍ كبير، فقد أصبح البغدادي قائد دولة وأميراً ممكناً، وأصبحت “القاعدة” كما هي تنظيماً وقائدها أميراً، ما يوجب تبعية الأمير للخليفة.

توالت النقاشات وفشلت جهود التهدئة، وبدأت الكتابات تشرعن الحالة الجديدة (مد الأيادي في وجوب بيعة البغدادي لتركي البنعلي)، وغيرها من الكتابات التي توجب تبعية البغدادي وتحرم عمل التنظيمات، وبعدها بدأت تخرج كتابات التكفير لكل التنظيمات طالما لم تبايع الدولة وتعمل تحت رايتها، حتى انتهى التنظيم إلى تكفير كل من يحمل السلاح ضد النظام وإن لم يكن ديمقراطيّاً ولا عَلمانيّاً ولا مظاهراً على المسلمين فقط لأنه ليس مع التنظيم، وتكفير من يستخرج جواز سفر أو يحمل هوية، وتكفير الموظفين بالعموم من غير تفصيل، وتكفير من يطلب الشفاعة من الاستشهادي ونعت الاستشهادي الذي تطلب منه الشفاعة بالطاغوت، وتكفير جملة من علماء المسلمين من الأموات والأحياء من الأحرار والأسرى، وتكفير جملة من قادات التنظيمات السابقين، أو التوقف في الناس وعدم الحكم بإسلامهم، ثم تكفير الظواهري لأنه بايع زعيم “طالبان”، الكافر من وجهة نظر “داعش” لأنه يتحاور مع الكفار “الأميركان” في الدوحة، وفق قاعدة مَن لم يكفّر الكافر فهو كافر، وغيرها من عقائد الغلو والإفراط في التطرّف.

أجنحة داعش المتصارعة

تشكّلت بعد الذي سبق، “أجنحة متصارعة داخل داعش”، وهي: جناح أبو جعفر الحطّاب، عضو اللجنة الشرعية، وأحياناً يطلقون عليه “الحازمي”، وهو الذي طرح حكم المتوقف في تكفير المشركين، وأن الحكم بتكفيره من أصول الدين وليس من لوازمه، وكفّر القاطنين في ديار الكفر، وآنذاك تم استئصال هذا التيار، وحكم بإعدام منظريه، وأخضع باقي عناصره للسجن والاستتابة، وأدى ذلك إلى مشكلة داخلية، دفعت الرجل الثاني فيه وهو أبو علاء العفري “أبو علي الأنباري” للانعزال بسبب قرب بعض الشرعيين منه، بعدما تم تنفيذ حكم الإعدام علنا في أبي جعفر الحطاب.

وبلغ عدد من أعدموا من تيار وجناح الخطاب الحازمي قرابة 700 أغلبهم متحدرون من تونس وبلدان شمال إفريقيا، خشية من انشطار التنظيم، وبسبب تخطيط بعض أتباع هذا التيار للانقلاب على زعيم التنظيم نفسه أبي بكر البغدادي.

يكفّر “داعش” الشيعة على العموم، بينما يكفّر “القاعدة” قادتهم ومقاتليهم ومليشياتهم فقط، ووفق مناصحة المنظر المعروف للسلفية الجهادية أبي محمد المقدسي للزرقاوي، أمسك “القاعدة” بالنقطة المفصلية التي لا يرى فيها استحلال دماء عموم الطائفة الشيعية.

تشكّل جناح ثانٍ بقيادة أبي محمد الفرقان وائل حسين، وزير الإعلام الداعشي، وعبر “صحيفة النبأ”، وإصدارات “مؤسسة الحياة” التي يشرف عليها، كان هو من يطرح مسائل أقل حدّة من جناح أبي جعفر الحطاب، في مسألة التوقف في الحكم على الساكنين دار الكفر، وعدم التسلسل في التكفير، بل التوقف والتبيّن، لكنه تبنى مواقف متشابهة معهم مثل: أنه لا عذر بالجهل في مسائل التوحيد والشرك، أو المسائل المعلومة من الدين بالضرورة، وأن التكفير أصل من أصول الدين الظاهرة، وهذا كله استدعى الشرعيينَ العاملين في مكتب البحوث والإفتاء، وعلى رأسهم أبو بكر القحطاني وتركي بن علي، للرد عليه في إصدارات متتالية.

وكان جناح بن علي والقحطاني، هو الجناح الثالث لـ”داعش”، وكان معهما أبو محمد الهاشمي، أبو محمد المصري، أبو يعقوب المقدسي، وتتلخص أفكارهم في أن العذر بالجهل جائز في مسائل التوحيد والشرك وما دونها، وأن الأصل في ساكني ديار الكفر الطارئ هو الإسلام، والتكفير ليس أصلاً من أصول الدين.

توافق داعش والقاعدة على التكفير

وفق كتاب منظّر “داعش” أبي عبد الله المهاجر عن الحاكمية، وهو من إنتاج التحيا للإنتاج الإعلامي، فإن كلا التنظيمين نقلا الحاكمية من المسائل الفقهية إلى العقدية، وفي حكم الدار أي “الدولة” التي لا تعلوها أحكام الشريعة أنها كافرة، وتعميمهما لمصطلح “الكفر والطاغوت” ليشمل كل مؤسسات الحكم، ورفض إطلاق “الدار المختلطة” على الدول، مستندين لتنظيرات الشرعي المصري وضابط الداخلية السابق حلمي هاشم.

وذكر عبد الرحمن العلي في كتابه “حكم الانتماء لجيوش الكفر”، أن التنظيمين يتوافقان على حكم الطائفة والجيوش أنها جيوش كافرة، لكنهما يفترقان حول مسائل هل تقاتل كدفع صائل أم لا، وحكم من انتمى لجيوش الكفر مخادعة لهم، وحكم الاستعانة في القتال بالكفار والمرتدين والطوائف الضالة، وحكم مناصرة المشركين ومظاهرتهم على المسلمين، ومدى مشروعية قتل المرتد وإن أظهر التوبة، وحكم عوام الشيعة، تكفير المعيّن، وقتل المرتدين، والتمييز بين المدني والعسكري.

ويكفّر “داعش” الشيعة على العموم، بينما يكفّر “القاعدة” قادتهم ومقاتليهم ومليشياتهم فقط، ووفق مناصحة المنظر المعروف للسلفية الجهادية أبي محمد المقدسي للزرقاوي، أمسك “القاعدة” بالنقطة المفصلية التي لا يرى فيها استحلال دماء عموم الطائفة الشيعية، ذاهباً للتفريق بين علماء طوائف الشيعة وبين عوامهم.

وأصدر “داعش” كتاب “كشف شبهات المقاتلين تحت راية من أخل بأصل الدين” وهو الكتاب الذي يرى مؤلفه كفر حركة “طالبان” و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، وحرمة القتال في صفوفها، بينما أعاد “القاعدة” نشر كتاب أبي محمد المقدسي “النكت اللوامع في ملحوظات الجامع” الذي استدرك فيه على تأصيلات سيد إمام في كتابه “الجامع في طلب العلم الشريف”.

أصبحت المسائل أكثر تفرعّاً وتعقيداً في تنظيم “داعش” في بداية عهد أبي بكر البغدادي حيث تم الانشغال بقضايا مثل جواز قتال الصحوات وحكمهم، وحكم الفصائل السورية، التي لم تبايع، وتفرّعت من المسائل الرئيسية أخرى فرعية أصبحت موضع جدل لنقاشات واسعة، وهي: تعميم مصطلح (الكفر والطاغوت) ليشمل كل مؤسسات الدولة أو قاطنيها، وهل أصل التوحيد يجوز الجهل به؟

وأصرّ “داعش” على بيعة الإمام الممكّن، وكفّر من لم يبايع خليفة وقائد التنظيم، وفق كتاب “التنظيم موجبات الانضمام للدولة” لأبي حسن الأزدي، وعلى الكفر بالموالاة، أي توسيع أحكام الردة لتشمل أي فصيل يتحالف أو يتفاوض مع العلمانيين، وما أتبع ذلك من حكم مجالسة مؤيدي الديمقراطية، وهذا ما اتضح في المناظرة المسجلة التي تمت بين أبي يزن وأبي محمد العدناني المتحدث الأسبق باسم “داعش”.

أبو بكر البغدادي، زعيم “داعش” السابق والذي قتل عام 2019 بعملية أميركية- “الحرة”

وكفّر “داعش” من يتحاكم للقوانين ولو كان مضطراً، حيث استتاب التنظيم أبي المنذر الحربي، لأنه يرى جواز التحاكم إلى المحاكم، كفّر من لم يقمْ الحدود في الأماكن المحررة، وتكفير العاذر: أي تكفير من يعذر الناس بالجهل ولا يكفّرهم، استنادا لقاعدة التسلسل في التكفير “من لم يكفر الكافر فهو كافر”، وما يعرف في أدبيات التيار الجهادي بالناقض الثالث “الكفر بالتسلسل”، وهذا ما ورد في حديث مسجّل لفقيه التنظيم أبي بكر القحطاني.

الغريب أن كلا التنظيمين توافقا على أولوية قتال من حكما عليه بالرّدة، لكن “داعش” تطرّف أكثر في مسألة جواز القتل للمصلحة طالما ارتأى قائد التنظيم ذلك، وهذا ما ورد في رسالة “نصيحة سرية لأمراء الدولة”.

في الختام، اقتبس كلّا من “داعش” و”القاعدة” أصول فكرية لكل تنظيمات الإسلام السياسي، انبعثت من مسألة الحاكمية وعدم العذر بالجهل والحكم على الدول و التكفير بالموالاة، وافترق كلا منهما في الأخذ والتطرف في هذه المسائل، التي تسببت في معارك بينية بينهما مستمرة حتى الآن.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات