يكاد يكون التطرف العنيف بكل أشكاله ومظاهره من أشد التهديدات وأكثرها خطورة على الأمن الدولي والإقليمي من جهة، وعلى الأمن الوطني من جهة أخرى، فلقد شكّلت ظاهرة التطرف العنيف أحد أكبر المشكلات التي يواجهها المجتمع العربي، بما فيه التونسي اليوم، وقد انعكس هذا على النسيج الاجتماعي، فالعلاقات التفاعلية بين أفراده منذ أحداث “الربيع العربي” إلى اليوم بات يحكمها العنف الذي تنامي بشكل ملحوظ وبأشكال مختلفة، باعتباره ظاهرة يومية حياتية، تستمد جذورها من المعيش اليومي المتوتر المشبع بالمشاحنات.

والفكر المتطرف شأنه شأن أي نسق معرفي، هو ظاهرة اجتماعية تتأثر وتؤثر في غيرها من الظواهر، فهي مرتبطة الى حدِّ كبير بالظروف السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمع.

وظاهرة التطرف العنيف كثيراً ما يربطها المجتمع بالبُعد الديني والانتماء إلى الحركات الراديكالية التي ضمت العديد من الشباب ضحايا الأدلجة الدينية، إلا أن التطرف العنيف هو أشمل من هذا التوجّه فهو إن صحّ التعبير “الجنوح فكراً وسلوكاً” باعتباره ينشأ في سياق من التناقضات بين الأفراد سواء كان تناقضاً في القيم أو المصالح أو رغبة في السيطرة والهيمنة مما يجعل العنف هو السبيل الوحيد لتحقيق الأهداف المنشودة هذا من ناحية.

أما من ناحية أخرى فكثيراً ما يتم ربط التطرف العنيف بالهشاشة الاجتماعية التي تعاني منها العديد من الأحياء الشعبية في تونس وغيرها من دول المنطقة، نظراً لغياب مقومات العدالة الاجتماعية، وهذا ما يُعد أحد أهم مغذّيات الاستقطاب للحركات الإرهابية التي عادة ما تكون ذكورية العناصر.

لكن ما بعد أحداث “الربيع العربي” وخاصة مع ظهور تنظيم “داعش” الإرهابي، بتنا نتكلم جلّياً حول تأنيث الإرهاب أو جنسنة الإرهاب وغيرها من المسمّيات التي تحيلنا إلى جندرة الإرهاب رغم أن وهذا ما سنحاول تناوله في هذه المادة.

الإرهاب النسائي

لا تُعدّ ظاهرة الإرهاب النسائي ظاهرة مستحدثة، فهي متجذرة في التاريخ وفقاً لسياقات مكانية وزمانية مختلفة، وهي لم تكن منوطة بالمجتمعات الإسلامية بل طالت حتى المجتمعات الغربية، لكن الجانب المستحدث في هذه الظاهرة هو تغير أدوار المرأة صلب التنظيمات الإرهابية، فبعد أن كانت تضطلع بأدوار نمطية وتقليدية كـ (أم، زوجة، طبخ…)، أصبحت أدوارها تتسم بالجدّية والخطورة، وتتماهى تقريباً مع الأدوار الذكورية كـ (التجنيد الإلكتروني، الإشراف على تدريب المقاتلات، تنفيذ العمليات الانتحارية…).

تُعد تونس من بين أكثر البلدان التي صدّرت الإرهابيين المنتمينَ إلى “داعش” و”القاعدة”- “الصورة من الإنترنت”

فتطوّر أدوار النساء صلب التنظيمات الإرهابية، حذا بهن إلى تكوين كتائب وميليشيات نسائية مسلّحة لاحتواء المنظِّمات الجُدد من “الجهاديات” لتوظيفهن بشكل أكثر “راديكالية”، مما يخلق تحدّياً أكبر وهو تغير أطروحات “ذكورية العمل العنيف.

ويُعدّ تنظيمي “داعش” و”القاعدة”، من أكثر التنظيمات الارهابية التي ذوّبت الفوارق المبنية على أساس النوع الاجتماعي، فبعد استغلالهما لأحداث “الربيع العربي” وتأزم المنظومة الأمنية في جلّ البلدان التي طالتها موجات التغيير، بدأت هاتان الحركتان العمل على تكبير قاعدة أتباعهما لذلك إلى جانب الذكور استقطبتا النساء ومنحتهن فُرصاً لممارسة السلطة التي كنّ يفتقدنها في ظل محيطهن الاجتماعي والثقافي الذي لطالما قزّم دورهن وفعاليتهن.

وتُعد تونس من بين أكثر البلدان التي صدّرت الإرهابيين المنتمينَ إلى “داعش” و”القاعدة” وخاصة منهم النساء “الجهاديات” بأكثر من 13000 مقاتل إلى كلٍّ من سوريا والعراق.

لمحة عن الإرهاب النسائي بتونس

بعد “الثورة التونسية” برزت عدة حركات دينية وخاصة منها السلفية التي طغى ظهورها في الفضاء العام التونسي، فبات التونسيون يعايشون حالة من الصدمة وعدم الاستيعاب حول سرعة تغلغل هذه الجماعات في نسيجهم الاجتماعي.

هذا فضلاً عن قدرتها في استقطاب كمّاً هائلاً من الأتباع من كلا الجنسيين، فانتشر اللباس الأفغاني للرجال، إلى جانب طبعاً النقاب واللباس الشرعي للنساء، والأهم والأخطر، هو دعوات هذه الجماعات إلى وجوب “أسلمة الدولة”، وقد تبنت العديد من النساء هذه الأفكار وبتنَ أيضاً ينادينَ بها في إطار ما يسمى “الجهاد بالكلمة”.

ومن ثم تطوّر مفهومهن للجهاد من الكلمة إلى الفعل، وكان نتيجة لهذا التوجه قامت فتاة تونسية اسمها “منى قبلة”  يوم 29 تشرين الأول/ أكتوبر 2018 بعملية انتحارية وسط العاصمة، وقد أفادت التحقيقات الرسمية آنذاك بمبايعتها لتنظيم “داعش”، وتحضيرها للمتفجرات عبر التواصل الافتراضي مع أحد الإرهابيينَ الذي وعدها بالزواج في الجنة“.

هذا وتتسم ظاهرة الإرهاب النسائي بنوع من الغموض خاصة فيما يتعلق بعدد المنخرطات في التنظيمات الإرهابية، فحسب إحصائيات وزارة المرأة والأسرة والطفولة في تونس، نجد أنّها تقرّ بوجود 700 امرأة تونسية في صفوف الجماعات المتطرفة في كلٍّ من سوريا والعراق وليبيا منذ 2011، ويضطلعنَ بعدّة مهام منها التعليم، والترفيه الجنسي عبر الزواج العرفي بالمقاتلينَ، وتدريب الوافدات الجُدد وغيرها من المهام النوعية وغير النمطية.

وفي احصائيات أخرى غير رسمية وقد تم نفيها من قِبل وزارة الداخلية في تونس مفادها أن عدد الإرهابيات التونسيات الملتحقات ببؤر التوتر ناهز الـ 300 امرأة، وقد أكد نفس هذا المصدر أن عددهن لا يفوق 182 “إرهابية”  تراوحت أعمارهن ما بين 16-45 سنة.

أول أسباب انتماء النساء للحركات الجهادية هو انتشار ظاهرة البطالة بصفة عامة في صفوف الشباب ولكن بشكل أكبر في صفوف النساء.

لكن انخراط النساء في الجماعات المتطرفة لم يكن مقتصراً على الخارج فقط وإنما أيضاً في داخل البلاد التونسية، وهو ما مثّل خطراً جسيماً على الأمن والسلم الاجتماعي، فنجد حسب بعض المصادر الرسمية أنه تم القبض على 133 امرأة متورطاتٍ بقضايا ذات علاقة بالتطرف العنيف، وقد تم محاكمة 104، منهن 10 عناصر يعتبرن من أخطر العناصر الإرهابية النسائية.

هل الأزمة دافعٌ لانخراط المرأة في الجماعات الإرهابية؟

حسب دراسة أجرتها الأستاذة شيرين محمد فهمي، نجد أن الإرهابيات ثلاثةُ أصناف، الصنف الأول، هنّ اللواتي يجهلنَ انتماءات أزواجهنّ الإرهابية، واللواتي وجدنَ أنفسهنّ قسراً داخل هذه التنظيمات، فأُجبرنَ على تقديم الولاء والطاعة بل والقيام ببعض المهام اللوجستية.

أما الصنف الثاني، فهنّ المقتنعات بالفكر التطرفي، بل ويقمنَ بنشر مبادئه وأفكاره ويقمنَ بالاستقطاب، أما الفئة الثالثة، فهنّ المتعاطفات مع التنظيمات الإرهابية، وصنّفتهنّ بأنهنّ الأخطر نظراً لصعوبة كشفهنَ مما يخول لهنّ حرية الحركة وبالتالي سهولة القيام بمهمتهنّ الإرهابية.

لن نغوص كثيراً في أسباب انتماء النساء للحركات الجهادية لأنها حسب رأينا معلومة، لكن لا يوجد تجاوز فعلي لها إلى غاية اليوم، أول هذه الأسباب هو انتشار ظاهرة البطالة بصفة عامة في صفوف الشباب ولكن بشكل أكبر في صفوف النساء.

والسبب الثاني، ظاهرة العنف ضد المرأة والتي تُعدّ من أهم المعضلات الاجتماعية الخطيرة، نظراً لما يترتب عليها من تهديدٍ للمنظومة الأسرية، فهذه الظاهرة متجذرة في جُلّ المجتمعات العربية والتي مازالت تعيد إنتاجها من خلال التنشئة الاجتماعية التي تكرّس للهيمنة الذكورية والمبنية على سياسة إقصاء المرأة وتقزيمها أو عدم الاعتراف بفاعلية دورها، رغم ما وصلت إليه من مكانة هامة سواء في المجال العلمي أو المهني، إلا أنها من ناحية السوسيو- ثقافية تبقى قاصرة فكرياً واجتماعياً مما يستوجب خضوعها لوصاية الرجل وفي تبعية مطلقة له.

وهذه الأفكار السائدة تستمد شرعيتها من روافد ومصادر مختلفة أهمها الثقافة الاجتماعية السائدة، العادات والتقاليد، المؤسسات الإعلامية والمفهوم الخاطئ للنصوص الدينية.

فالعنف والمتمثّل أساساً في الإهانات اللفظية أو الاعتداءات الجسدية كلها آليات تأديب مباحة، وهذا السلوك الاجتماعي يُعتبر بـمثابة متغير مهيكل لسيرورة التنشئة الاجتماعية على مستوى الأسرة والمجتمع، باعتبار هذه الأساليب شكل من أشكال الحفاظ على الموروث الاجتماعي المؤسّس لهذا النمط التربوي، وهو ما يشكّل أزمة نفسية واجتماعية للمرأة مما حذا بالعديد من الإرهابيينَ على استغلال الجانب العاطفي في استقطابهم للنساء.

امرأة ترتدي ملابس سوداء تسير أمام متجر داخل مخيم الهول لعوائل “داعش” الذي يديره “الأكراد” في محافظة الحسكة شمال شرقي سوريا في 14 كانون الثاني/يناير 2020- “دليل سليمان/ أ ف ب”

هذا بالإضافة إلى أن التنظيمات الإرهابية منحتهنّ بعضاً من السلطة التي كنّ يبحثنَ عنها في محيطهنّ ولكن الأهم منحتهنّ الاعتراف بفاعلية دورهن صلب التنظيم مما بدّد نوعاً ما صورة الهيمنة الذكورية المشكِّلَه للأزمة لديهنّ وبالتالي تحقيق ذواتهنّ، هذا دون اعتبار طبعاً عوامل أخرى، الرغبة في الزواج خاصة ممن يعانين من التنمّر بسبب تأخر زواجهن، وحتى القناعات الدينية المتطرفة المبنية على فكرة “الذود” عن الدين والانتصار للهوية الإسلامية ضد المنظومة الغربية المتطاولة على الإسلام، وأن اعتبار المسلمين لن يعود إلا بعودة الإسلام الأولي.

ختاماً يُعد الإرهاب والتطرف سواء كان ذكوري أو نسائي من أكثر التحدّيات التي تواجه المجتمعات الإنسانية، لأن الإرهاب لادين له، فالتاريخ سجّل أن هذه الجماعات التي توظف الدّين لتنفيذ غاياتها واستباحة ما لا حقّ لهم فيه هم أكثر توحّشاً من رجعية وظلامية من أي جماعات متطرفة أخرى.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات