على غرار ميليشيا “فاغنر” الروسية، والميليشيات الطائفية الإيرانية، تستخدم الصين ميليشيا “الرجال الزرق الصغار” لتحقيق مآربها في المياه الإقليمية المتنازع عليها. فلا أهمية للشريعة الحقوقية لدى هذه الدول، في ظل مساعيها لمراكمة أوراق القوة والنفوذ، على حساب القوانين المحلية والدولية، التي تحصر ملكية القوة والإكراه بيد الدول فقط. 

فالصين، واستنادا لاستراتيجيتها بكسب الحرب دون إطلاق رصاصة واحدة، تقوم بغزوات عدوانية في المياه الإقليمية لدول جوارها المنافسينَ، والخاضعة فعليا لسيطرة بكين، من خلال مهام حماية الحقوق، وفق عقيدة صينية غير معلنة، تقوم على أن الولاية البحرية هي مجرد وجود.

هذه الغزوات تشكّل بداية لدور دائم لميليشيا “PAFMM” (الميليشيا البحرية للقوات المسلحة الشعبية الصينية)، في المياه الساحلية للصين، والتي تلعب دوراً مركزياً قد يكون أكثر حسماً من وجود بحرية “جيش التحرير الشعبي” التقليدية، نظرا لما تحققه من فوائد الإنكار، ما يجعلها مثالية للعمليات في المناطق الرمادية دون إثارة مواجهة عسكرية مباشرة، مع تحقيقها للسيادة الصينية البحرية الحاسمة في هذه المناطق. فما هي “PAFMM”؟

الرجال الزّرق الصغار

“PAFMM”، هي خفر سواحل مدني-عسكري زائف تشارك في عمليات المنطقة الرمادية. يتشكل من مزيج من العمال البحريينَ، الذين يتلقون تدريباً عسكرياً مشابهاً للاحتياطي أو الحرس الوطني، يؤهلهم لاحقا للاستدعاء، مع مجندينَ عسكريينَ تقليديينَ بدوام كامل. تسعى لفرض سيطرة بكين على المياه المتنازع عليها، حسب Geopolitical Monitor، من خلال حراستها المسلحة لسفن الصيد الصينية، وترهيبها للسفن التجارية لدول الجوار الصيني في المياه المتنازع عليها، مع ثنيها خفر السواحل والقوات البحرية التابعة لهذه الدول عن مراقبة مياههم خوفا من التصعيد المحتمل مع بكين. ونظرا لعضويتها الغامضة والمتغيرة، يصعب تحديد الحجم الدقيق لـ “PAFMM”، حيث يمكن تجنيد الصيادينَ داخل وخارج الميليشيا وفقا لمقتضيات الوضع. كما أنه من النادر نشر وثائق حكومية حولها، حتى أن تسميتها، “الميليشيا البحرية للقوات المسلحة الشعبية” هو لقب أطلقته عليها وزارة الدفاع الأميركية.

خبير كلية الحرب البحرية الأميركية، أندرو إريكسون، يقدّر عدد السفن الكبيرة لـ “PAFMM” ب 84 سفينة. فيما قدّر آخرون أن بإمكانها الاستفادة من قرابة ثلاثة آلاف سفينة صغيرة في أي وقت. ووفقا لأحد تقديرات عام 1978، كانت الميليشيا البحرية تتألف ذات مرة من 750000 فرد و140000 سفينة.

نظرا لتكلفتها المنخفضة مقارنة بالقوات العسكرية النظامية، تلجأ بعض الدول لاستخدام الميليشيات ضمن جهود فرض أجندتها سياستها الخارجية، حسب مدير “مركز نورس”، إياد حمود، بالإضافة لما تقدّمه هذه الميليشيات من ميزة الإنكار للدولة المستخدمة. وهو ما يمكن ملاحظته بسياسة إنكار إيران لاستهداف القواعد الأميركية في المنطقة، لاسيما الهجوم المميت على “البرج 22” في قاعدة التنف. إلى جوار ذلك، تقدّم الميليشيات قيمة عالية في تنفيذ عمليات التهريب وتبييض الأموال أو العمليات القذرة وغير المشروعة بشكل عام.   

مطلع آب/أغسطس الماضي، اعترضت مجموعة من السفن الصينية سفينة فلبينية مكلفة خلال قيامها بدورية عسكرية داخل جزر سبراتلي. خلال الحادثة، ظهرت سفينتان ذات هيكل أزرق ملحوظ تشبه سفن الصيد. مما يدل على وجود صلة محتملة للبحرية الصينية بميليشيا بحرية. حيث كشفت وثائق الفيديو التي قدمتها الفلبين للحدث عن التكتيكات العدوانية للقوارب الصينية، مع منحها الدليل المقنع على وجود صلة بين الجيش الصيني وميليشيا بحرية يُطلق عليها أحياناً “رجال بكين الزرق الصغار”. حيث يفسر المحللون لوجود هذه السفن ذات الهيكل الأزرق، على أنها عنصر من نهج الحرب متعدد الأوجه للصين. ما يثير استفسارات كبيرة بشأن دوافع الصين في إشراك اللاعبين غير الحكوميين في الخلافات البحرية.

عمرها بعمر “الصين الشعبية”

غالبية دول جوار الصين تطالب بالسيادة على بعض الجزر والأراضي البرية في محيط بحر الصين الجنوبي، حيث تتمسك فيتنام بالسيادة على جزر باراسيل وسبراتلي. وكذلك تطالب الفلبين بالسيادة على جزيرة أيونجين بحكم قربها الجغرافي الشديد منها. إلى جوارهما، تطالب ماليزيا وبروناي بأراضٍ برية في بحر الصين الجنوبي، مدّعيتَين أنها تقع ضمن مناطق الاستبعاد الاقتصادي الخاصة بهما على النحو المحدد في اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار. في المقابل، تتمسك الصين بأحقّيتها الكاملة على مجمل الجزر والأراضي البرية الواقعة في المنطقة، مبرّرة ذلك بحق قديم يعود إلى قرون ماضية، عندما كانت سلاسل جزر باراسيل وسبراتلي جزءاً لا يتجزأ من “الأُمة الصينية”. وفي ضوء هذه المنازعات، وعلى مدار العقدين الماضيين، تعرضت مطالبات الصين الشاملة لجميع أنواع التحديات القانونية والأكاديمية، بدءا من النزاعات حول الأدلة التاريخية إلى حُكم مخالف على كامل مطالبة خط النقاط التّسع من محكمة التحكيم الدائمة في لاهاي. عليه، عملت الصين على تأسيس بصمة دائمة وعسكرية لها في جميع أنحاء بحر الصين الجنوبي، مستفيدة من “PAFMM” لإضفاء هذه البصمة.

بعد فترة وجيزة من الحرب الأهلية الصينية، تم إنشاء “PAFMM” لحل مشكلة النقص في الأصول البحرية والخبرات بين القيادة المبكّرة لـ “الحزب الشيوعي” الصيني. وكانت مهمتها المبكرة الدفاع عن البر الصيني الرئيسي من التوغلات القومية، مع استخدامها ضمن محاولات استعادة الجزر الساحلية من حزب “الكومينتانغ” (الحزب الحاكم لجمهورية الصين الوطنية قبل قيام جمهورية الصين الشعبية عام 1949، مستمرا في الحكم باسم الصين الوطنية على أراضي جزيرة تايوان لأكثر من عقدين من الزمن) خلال خمسينيات القرن العشرين، خلال أزمات مضيق تايوان الأولى والثانية.

الصين تعطّل أحكام حلّ نزاعاتها الإقليمية 

أواخر أيلول/سبتمبر الماضي، تلقّى خفر السواحل الفلبيني أمراً من الرئيس فرديناند ماركوس جونيور، بإزالة حاجز عائم أنشأه خفر السواحل الصيني في المنطقة الجنوبية الشرقية من سكاربورو شول، بهدف مراقبة الصيادين الفلبينيين في المنطقة. وهي حادثة من بين حوادث عدة لنزاعٍ بحري بين الصين والفلبين، تركّز مؤخرا على السيادة على المياه الضحلة في بحر الصين الجنوبي. حيث تدّعي بكين الصين سيادتها، مستخدمة “خط النقاط التسع” المثير للجدل كمبرر قانوني لها. لذا، برغم الادعاءات الصينية بأن الفلبين تنتهك المياه الإقليمية المفترضة، فإن تصرفات “PCG” في إزالة الحاجز، تتماشى مع فرض السيادة الفلبينية بحكم القانون، لوقوع المياه الضحلة المعنية داخل منطقة الـ 200 ميل بحري المنصوص عليها في اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار (UNCLOS).

في محاولتها لتسوية النزاع بين البلدين، أشارت واشنطن لضرورة مغادرة سفن كلا البلدين للمنطقة. رفضت الصين ذلك، مبدية جهودا لعسكرة المنطقة، من خلال زيادة وجود سفن خفر السواحل الصينية والبحرية الصينية، إلى جانب سفن ميليشياتها البحرية “PAFMM”. نتيجة لذلك، رفعت الفلبين القضية إلى محكمة التحكيم الدائمة في لاهاي. ومع أن محكمة التحكيم قد أقرّت مطالب مانيلا في السيادة على هذه المياه، رفضت بكين الاعتراف بهذا الحُكم، مواصلة أعمالها العدوانية في بحر الصين الجنوبي.

في عام 2009، أقدمت سفن تابعة لميليشيا “PAFMM”، على الاحتكاك بسفينة غير مسلحة تابعة للبحرية الأميركية، نتيجة دخولها المنطقة الاقتصادية الخالصة للصين، بحسب إياد حمود. حينها حاولت سفينتا صيدٍ ترفعان علم الصين تحطيم معدات السونار الخاصة بالسفينة مع سدّ طريق خروجها من المنطقة الاقتصادية الخالصة. وأقدمت سفن أخرى على قطع كابلات سفينة المسح الزلزالي الفيتنامية “Binh Minh 02” عام 2011، بالقرب من السواحل الفيتنامية.

إضافة إلى ذلك، يورد حمود حادثة أخرى أدت لمواجهة بين البحرية الفلبينية وجيش “التحرير الصيني”، بعد محاولة البحرية الفلبينية اعتقال صيادينَ صينيينَ مشتبه في قيامهم بالصيد غير القانوني حول سكاربورو شول. حينها، أشارت بعض المصادر إلى أن سفن الصيد الصينية كانت تتبع لميليشيا بحرية تقوم بالمساعدة والتنسيق مع خفر السواحل والاستجابة البحرية الصينيَين.

وفقا لوزير البحرية الأميركية، كارلوس ديل تورو، تتمتع البحرية الصينية بميزة كبيرة عن نظيرتها الأميركية تتعلق بحجم الأسطول، ويعود ذلك جزئيا إلى قدرتها على العمل دون قواعد. فـ “الصين دولة شيوعية، وليس لديهم قواعد يلتزمون بها… ما يمثل تهديدا حقيقيا”. ففي الصين “يستخدمون عمالة كالعبيد في بناء سفنهم… مما يوفّر ميزة كبيرة لهم”. في المقابل، نتفوق على الصين بميزة الشعب. وبرأيه، ” تَعدّ الصين شعبها للقتال، فيما ندرب شعبنا على التفكير، إضافة لاختلاف جوهري في كيفية تدريب مشاتنا البحرية وبحاّرتنا ما يمنحنا ميزة متأصلة على أي شيء يمكن للصينيين تقديمه”.

انتشار الفواعل من غير الدول، سمة خطيرة تحاول بعض الدول اللجوء إليها وترويجها، بهدف مراكمة مكاسبها الجيو-سياسية، رغم المخاطر التي ينطوي عليها والتي قد تطال الدولة المستخدمة لاحقا، كحال الانقلاب لزعيم مليشيا “فاغنر” الروسية صيف العام الفائت. وفي ظل لجوء قوى عظمى لهذا الأسلوب، تزداد مخاطر لجوء الدول الضعيفة والمتوسطة إليه، ما يجعلنا نعيش في عالم تحكمه الميليشيات. 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة