لم يكن تجنب حكومة دمشق اتخاذ أي موقف داعم لما تتعرض له الفصائل المنضوية ضمن “محور المقاومة” الذي تقوده إيران منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023 وحتى اليوم مستغربًا، رغم غرابته. وذلك بالنظر إلى الهموم السياسية والعسكرية والاقتصادية التي ترزح تحتها دمشق، مما يضيق خياراتها تجاه “محور” تحتل فيه مكانة محورية.
“الغريب في مواقف دمشق”، هو أنها رغم موضوعيتها ضمن لعبة السلطة وتوازنها واستعادة القرار وتوسيع هامش المناورة، لا يرغب جانب كبير من السوريين في أخذها على محمل الجد. بل الأعجب في هذه المواقف هو التضييق المحتمل على النفوذ الإيراني والفصائل الموالية لطهران، بعد انتهاء المعارك الكبرى في سوريا، وذلك عبر قرارات ذات صبغة عسكرية أو مدنية، منها ما صدر مؤخرًا عن وزارة التجارة الداخلية بقرارها الناظم لعملية الدعم الحكومي لحاملي البطاقات العائلية الإلكترونية.
بموجب هذا القرار، حجبت الوزارة الدعم عن مازوت التدفئة والغاز والخبز للمستفيدين الأجانب من حاملي البطاقة الإلكترونية من الجنسيات غير السورية ومن في حكمهم مثل البعثات والقنصليات والشركات الأجنبية وغيرهم. وهذه شرائح مجتمعية أبعد ما تكون عن الحاجة إلى تلقي الدعم الحكومي. وعليه، فسر البعض أن المستهدف بالقرار هم عوائل الميليشيات غير المحلية الموالية لإيران في سوريا.
وسابقًا، في أواخر تشرين الأول/أكتوبر 2021، أقدم الرئيس السوري، بشار الأسد، على طرد قائد قوات “فيلق القدس” التابع لـ “الحرس الثوري” الإيراني في سوريا، الجنرال مصطفى جواد غفاري، في خطوة اعتبرها الصحافي السوري محمد العبد الله “علنية ومهينة، وتعد إدانة للدور الإيراني في سوريا”. وأضاف: “يبدو أن الأسد قد سئم من الاستغلال الإيراني له، وقرر الإطاحة بجواد غفاري رغم القوة والسطوة اللتين يتمتع بهما”.
قرارات إحالة وأخرى لملء الشواغر
على الرغم من العلاقات التي توصف بأنها تجاوزت اعتبارات التحالف الاستراتيجي بين دمشق وطهران، غاب الأسد عن المشاركة في مراسم تشييع الرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي، موفدًا بدلاً منه رئيس الوزراء السابق، حسين عرنوس، مما أثار التساؤلات لدى العديد من المراقبين.
وتزداد التساؤلات مع عدم تقديم دمشق مذكرة احتجاج إلى الأمم المتحدة على غرار حكومة بغداد، نتيجة اختراق أجوائهما من قبل إسرائيل بالضربات التي تم تنفيذها عليهما وعلى إيران مؤخرًا.
وفي ظل هذه الأحداث، برزت علائم برودة العلاقات السورية-الإيرانية على السطح. ففي الاحتفال بيوم “القدس” الذي أقيم جنوب دمشق في نيسان/أبريل 2024، لم يُدعَ أي مسؤول إيراني للمشاركة. وعلى عكس السنوات السابقة، غابت بشكل ملحوظ صور الرئيس والمرشد الأعلى الإيرانيين والأمين العام لـ “حزب الله” آنذاك، حسن نصر الله، عن الاحتفال.
كما تجاهلت وسائل الإعلام السورية، بخلاف تغطيتها لرسائل التهنئة مع القادة العرب، تبادل الأسد برقيات التهنئة مع المسؤولين الإيرانيين بمناسبة شهر رمضان وعطلة عيد الفطر.
كما أحال الأسد العديد من المسؤولين الأمنيين والعسكريين المحسوبين على إيران إلى التقاعد، مثل مدير إدارة المخابرات الجوية ومدير شعبة المخابرات العسكرية، اللواءين جميل الحسن ومحمد محلا، مما زاد من توتر العلاقات بين طهران ودمشق، وفقًا لصحيفة “الشرق الأوسط”. وتحدث هذه التطورات في وقت تشعر فيه إيران بالقلق سرًا من الانفتاح العربي على دمشق وإعادتها إلى جامعة الدول العربية.
تضيف الصحيفة، وفق مصادر سورية مطلعة على مسار العلاقات السورية-الإيرانية، أن “تعيين اللواء كفاح ملحم على رأس مكتب الأمن الوطني في سوريا بدلاً من اللواء علي مملوك أثار الشكوك لدى طهران، حيث يُعرف ملحم باتجاهاته المناوئة لإيران، ويسعى إلى انتهاج سياسة أمنية سورية داخلية أكثر تشددًا حيال نفوذها”.
وفي السياق ذاته، تم تعيين اللواء علي عبد الكريم إبراهيم رئيسًا لهيئة الأركان العامة في نهاية نيسان/أبريل 2022، وهو منصب كان شاغرًا منذ بداية عام 2018 بعد تعيين شاغله السابق، اللواء علي محمود عباس، وزيرًا للدفاع.
خلال تلك الفترة، تولى الروس والإيرانيون، عبر غرفة العمليات الروسية، مهام رئيس الأركان الخاصة بالعمليات العسكرية، بينما تولى وزير الدفاع المهام ذات الطابع الإداري، وفقًا لمركز “أورسام”.
يظهر هذا الوضع تأثير وعمق التدخل العسكري لحلفاء الأسد، مما أدى إلى كسر مركزية وبيروقراطية القرار العسكري لدمشق لصالح حلفائها في أكثر المواقع حساسية وحيوية لإدارة العمليات العسكرية.
تحولات وتضخيم
إلى جانب ذلك، لم تعد دمشق متساهلة حيال التحاق المتخلفين عن أداء الخدمة العسكرية في فصائل تابعة لقوات الدفاع المحلي المدعومة إيرانيًّا أو غيرها من الميليشيات الموالية لإيران، منذ بداية عام 2023 على الأقل، وفقًا لما ذكرته “مجلة الشرق الأوسط”. فقد تم نقل أعداد كبيرة من أفراد قوات الدفاع المحلية المطلوبين لأداء الخدمة العسكرية إلى الجيش السوري.
كذلك لم يعد مقبولًا الإبقاء على ترتيبات تسمح للأفراد بتأدية ما يعادل الخدمة الإلزامية أو الاحتياطية مع الوحدات المدعومة من إيران و”حزب الله”، والتي توفر شروط خدمة أفضل، مما يشكل حافزًا دائمًا للتهرب من الخدمة في الجيش السوري.
مع ذلك، بالنسبة لأفراد قوات الدفاع المحلية المتمركزين في دير الزور، لم تُطبق عمليات النقل إلى الجيش، نظرًا لكون دير الزور تشكل خط مواجهة.
لكن الواقع على الأرض ينفي أي ادعاء بوجود تحولات من قبل حكومة دمشق تجاه طهران، حسبما أشار الباحث في مركز “عمران” للدراسات، نوار شعبان. فالأمر برمته مجرد تضخيم إعلامي.
فالأسد لم يبتعد عن إيران، والدليل على ذلك هو الضربات العديدة والمستمرة التي تتعرض لها الميليشيات الموالية لإيران في سوريا، وكلها في مناطق تخضع لسيطرة الأسد الكاملة.
ووفقًا لخبر من مصادر موثوقة، رغم عدم تأكيده حتى الآن، طلبت حكومة الأسد من إيران “محاولة” إيجاد بديل لتواجد الشخصيات الإيرانية داخل العاصمة دمشق. “أي أنها لم تتمكن من الطلب مباشرة بانتقالهم من العاصمة، بل طلبت المحاولة فقط”، قال شعبان لموقع “الحل نت”.
مكاسب طهران خسارة لدمشق
نقص الوقود في سوريا، الذي تقدمه طهران إلى دمشق عبر خط الائتمان الموقع بينهما، بات يُنظر إليه كإشارة لتعمّق التوترات بين الجانبين. يعتقد الإيرانيون أن بلادهم “دفعت ثمناً باهظاً في الدفاع عن حكومة دمشق”، فيما تُغري الأخيرة الغرب بعروض الحوار من خلال قرارها النأي بنفسها عن الحرب في غزة وجنوب لبنان. و”هذا شيء لن يقبله الإيرانيون”، بحسب ما قاله مسؤولون إيرانيون لصحيفة “الشرق الأوسط”.
في هذا السياق، وعلى خُطى تقاربها مع الرياض والعواصم العربية، وبعد أيام قليلة من اندلاع الحرب على غزة في تشرين الأول/أكتوبر 2023، أقدمت دمشق على طرد ممثلي جماعة “الحوثي” منها، وإغلاق السفارة اليمنية التي كانت قد سلّمتها لـ “الحوثيين” عام 2015، وتسليمها إلى الحكومة اليمنية المدعومة من السعودية.
فالتطبيع الإقليمي هو جائزة كبرى بمنظور دمشق. لذا، ورغم تحالفها الاستراتيجي الوثيق مع إيران الداعمة لـ “الحوثيين”، إلا أن الأسد قادر على رسم مسار مستقل عندما يخدم ذلك مصالح نظامه.
“يجد الأسد نفسه مضطراً إلى استخدام كل أوراقه الاستراتيجية لحماية أمنه القومي ومصالحه الإقليمية، ويواجه حكومة إسرائيلية تريد إعادة رسم خطوط النفوذ في الشرق الأوسط، وخاصة فيما يتعلق بالنفوذ الإيراني”، قالت الخبيرة المستقلة في شؤون الشرق الأوسط إيفا كولوريوتيس لشبكة “دي دبليو” الإعلامية. وحالياً، “تقف سوريا بين شقي رحى إيران وإسرائيل”، وكحليف لإيران، قد تكون الأيام المقبلة “الأكثر تعقيداً بالنسبة لنظام الأسد”.
منذ تولي الأسد السلطة في دمشق، عمل على تحقيق توازن المصالح الدولية في سوريا. يدّعي “المقاومة” ويحتضن “المقاومة” الفلسطينية، مثل (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أو المكتب السياسي لحركة حماس)، مع ادعاء استعادة الجولان المحتل دون إطلاق طلقة واحدة تجاه إسرائيل لأكثر من نصف قرن، حسبما أفاد الصحفي السوري عبد الحي الأحمد.
وأضاف الأحمد لـ”الحل نت”، أنه مع اندلاع الاحتجاجات السورية عام 2011، استمر الأسد بسياسة إرضاء القوى الدولية واللعب على أطراف الدائرة المرسومة له. ومع كل انتكاسة كان يقدم تنازلات قربانية. حافظ على تحالفه مع إيران، ولكنه بدأ سلسلة من التنازلات النسبية، وإن كانت محدودة، للمبادرة العربية “خطوة مقابل خطوة”.
ومع الحرب على غزة التي فرضت واقعاً جديداً وغيّرت المشهد الإقليمي إلى حد الصدام المباشر، تقلص هامش مناورة الأسد. ومع نأيه عن الحرب التصاعدية في المنطقة، صمت إلى حد الإذلال عن جميع الضربات التي استهدفت المنشآت الحكومية والمدنية والتوغلات البرية داخل الحدود السورية، ومع ذلك سمح لإيران وأذرعها باستخدام الأراضي السورية للتمركز وعبور السلاح والميليشيات الإيرانية.
القرار في طهران
حاولت إيران “الحصول على المزيد من الدعم من الأسد، لكن الأخير حاول الممانعة، فيما تحدثت تقارير عن أن هذا الأمر تسبب في بعض التوتر”، قال الباحث في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بمركز “تشاتام هاوس”، حايد حايد، لشبكة “دي دبليو” الألمانية. مضيفاً: “إن إنشاء قوات يمكن استخدامها ضد إسرائيل إذا لزم الأمر هو أحد أهداف إيران في سوريا، ومن هذا المنطلق، يمكن القول إنه إذا لم يتمكن الأسد من إبقاء خطوط الإمداد مفتوحة، وهو أحد طلبات إيران، فسيكون لسان حالها: “إذا كنت لا تريد التورط مباشرة، فاسمح لنا بتنفيذ هجمات من سوريا”.
ينوه حايد إلى أن الأسد يمكنه، حتى في هذه الحالة، أن ينأى بنفسه ويزعم “عدم المعرفة بالأمر”. وتشير كولوريوتيس إلى منع الأسد اندلاع مظاهرات مؤيدة لـ “حزب الله” فضلاً عن سحب قواته من قرب الجولان، واستبدالها بقوات روسية، بهدف إرضاء إسرائيل. لكنه في المقابل أرسل جنوداً إلى حلب وإدلب حتى يتمكن مسلحو “الحزب” من التوجه إلى لبنان، فضلاً عن تسليحهم، وذلك في محاولة لإرضاء إيران.هل يقود الأسد سوريا إلى معركة خاسرة؟
في المقابل، يرى الباحث شعبان أن عدم استخدام الجغرافيا السورية لشن هجمات هو قرار من إيران و”حزب الله” وليس من حكومة دمشق، في إطار محاولتهما تجنيب هذه الجغرافيا المعارك، كونها الجغرافيا الوحيدة التي تسمح للحزب بالتنفس. وفي حال إشعالها، ستبدأ إسرائيل بشن هجمات أكبر يخسر خلالها الحزب الكثير من النقاط اللوجستية التي يستفيد منها حالياً.
ونقلت صحيفة “الشرق الأوسط” عن مستشارين إيرانيين في سوريا تصريحهم بأنهم لم يعودوا يحظون بنفس الاحترام بين الناس: “ليس لدينا قيمة هنا في سوريا. لا أحد يهتم بنا. في الوطن، كنت مسؤولاً عن مقاطعة بأكملها وكان الناس ممتنين لي. هنا، لا أحد يحترمنا حتى”.
إلى جانب ذلك، تشتبه طهران في أن أجهزة الأمن السورية قد أقدمت على تسريب معلومات حساسة عن الإيرانيين إلى إسرائيل، مما أدى إلى مقتل مسؤولين إيرانيين “ماتوا دفاعاً عن النظام السوري”. بينما يعتقد بعض المسؤولين السوريين أن أي مكسب إقليمي إيراني سيأتي حتماً على حساب دمشق. وقد اتضح ذلك من مدى رعب دمشق في بداية الحرب على غزة من احتمال قيام إيران والولايات المتحدة بإبرام صفقة.
ومع استمرار التطورات المتسارعة دون أفق لحل شامل، قد يكون من الصعب جداً استمرار الأسد في اللعب على وتر مصالح كل الأطراف، وقد يُجبر على الاصطفاف مع طرف ضد آخر في النهاية، وهو ما قد يؤدي إلى إنهاء حقبة حكم عائلته، حسب الأحمد.
- “هوبال”.. كشف أول مشاهد الفيلم السعودي المرتقب قبل عرضه بمهرجان البحر الأحمر
- ماذا سيفعل ترامب بعد الفوز بالرئاسة؟
- “ناتو عربي” وإطفاء الحروب وتحالفات اقتصادية.. ما سياسات ترامب الجديدة؟
- مواجهات بين ميليشيا تابعة لـ “الحرس الثوري” وعشيرة الحسون في البوكمال.. والسبب؟
- “مقتل 4 من عائلة نصرالله”.. غارات إسرائيلية على عدة مناطق بلبنان
هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.