في أعقاب المتغيرات الإقليمية والدولية المتسارعة، بجانب عدد من الأزمات العالمية، يبدو أن بعض الأطراف التي تدور في فلك الساحة الليبية وجدت ضرورة لإيجاد حلول وأطر للأزمة السياسية الليبية وإنهاء حالة الانسداد السياسي هناك، من خلال الاتفاق على قاعدة دستورية، كفيلة بإجراء الانتخابات قبل نهاية العام الجاري.

هذه التحركات لحل المأزق السياسي في ليبيا، أعلنها المبعوث الأممي إلى ليبيا، عبد الله باتيلي، بإطلاق مبادرة جديدة لحل الأزمة الليبية، والاتفاق على أسس دستورية قبل حزيران/يونيو المقبل، لضمان إجراء الانتخابات. باتيلي يرى أنه من الضروري توسيع قاعدة المشاركة والمشاورات المحلية بهدف التوصل إلى أساس دستوري ينظّم إجراء الانتخابات في البلاد. وأنه سيتم اختيار فريق رفيع المستوى يتولى العمل على وضع أسس إجراء الانتخابات العامة هذا العام.

إلا أن هذه المبادرة أثارت جدلا واسعا في المشهد الليبي، وبالتالي تبرز تساؤلات حول ذلك والتحديات المحتملة أمام مبادرة باتيلي المثيرة للجدل، فضلا عن فرص تحقيق هذه المبادرة لنتائج إيجابية ولا سيما بعد أن أطلع باتيلي قائد الجيش الوطني الليبي، خليفة حفتر، خلال لقاء في بنغازي على خطة البعثة الأممية في المرحلة القادمة وسط المتغيرات الدولية.

أسباب الجدل

باتيلي أكد خلال مؤتمر صحفي من العاصمة الليبية طرابلس ظهر يوم السبت الفائت، أن تحديد الانتخابات لا يمكن أن يُترك بيد “مجلسي النواب والدولة” فقط، مشيرا إلى ضرورة توسيع قاعدة المشاركة والمشاورات المحلية، موضحا أنه لا يمكن تحديد موعد للانتخابات في ليبيا قبل الانتهاء من إعداد القوانين والاتفاق عليها، ومن ثم إحالتها إلى مفوضية الانتخابات لبحث القضايا الأخرى المتعلقة بالعملية الانتخابية.

باتيلي اتهم مجلسي “النواب والدولة” بالتقاعس عن الانتهاء من القاعدة الدستورية العام الماضي، مؤكدا أنه يمكن إجراء الانتخابات في نهاية عام 2023، إذا تم وضع القوانين الانتخابية قبل نهاية حزيران/يونيو المقبل.

هذا الأمر ككل شكّل حالة من الجدل الذي رافق ترشّح بعض الشخصيات للانتخابات الرئاسية حيث قال باتيلي إنه سيشكّل “لجنة توجيهية رفيعة المستوى ستقوم بصياغة مدوّنة سلوك للمرشحينَ”، ويجب على القادة الليبيين تضمينها في القاعدة الدستورية، موضحا أن اللجنة سيتم تشكيلها بعد عملية حوار ليبي- ليبي، وستشارك فيها كل الأطراف الفاعلة في البلاد.

ضمن هذا السياق، يرى المحلل السياسي والمتحدث باسم “مبادرة القوى الوطنية الليبية”، محمد شوبار، أن الاقتراح الذي قدّمه رئيس بعثة “الأمم المتحدة” للدعم في ليبيا، هو اقتراح يمثّل رؤية المجتمع الدولي لحل الأزمة الليبية والمدعوم من قبل مندوبي الدول في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة باستثناء روسيا، التي لم يتضح موقفها بعد.

قد يهمك: شراكة الجزائر والصين.. تحدٍ جريء ضد استراتيجية الشمال الإفريقي؟

كما يثير إطلاق هذه المبادرة جدلا بين الأطراف السياسية في ليبيا بسبب رغبتهم بالبقاء في السلطة، وتراجع رفضهم للمقترح نوعا ما يرجع إلى ضغوط دولية. ولكن في النهاية هذا الجدل يعني ويدل على أن المشهد الليبي يشهد صراعات وانقسامات كبيرة، ويصعب الاتفاق على صيغة محددة ما لم تتوحد الصفوف وتنتهي حالة العِداء بينها، وفق تقدير شوبار لموقع “الحل نت”.

صحيح أن “الأمم المتحدة” ومبعوثها الدولي أعلنا عن مبادرات عديدة لدعم الحوار الوطني والاتفاق على دستور للانتخابات وتشكيل حكومة موحدة، لكن كل جهودها لم تلقَ آذانا صاغية بعد. ويعوّل الليبيون على مبادرة باتيلي الجديدة لإخراج البلاد من حالة الانسداد السياسي، لكن ذلك مرهون بتوافق الأطراف المنخرطة في ليبيا.

هذا وأكد قائد الجيش الوطني الليبي، ومبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا يوم الإثنين الماضي، أهمية دعم جهود مجلسي “النواب والأعلى للدولة” لاستكمال القاعدة الدستورية لإجراء الانتخابات. وقالت القيادة العامة للقوات المسلحة الليبية في بيان، إن باتيلي أطلع حفتر خلال لقاء في بنغازي على خطة البعثة الأممية في المرحلة القادمة والتي ستقود إلى الانتخابات.

تحديات مبادرة باتيلي

باتيلي خلال إحاطته أمام “مجلس الأمن” الأسبوع الماضي، أعلن عن آلية لجمع مختلف الأطراف الليبية المعنية بمن فيهم ممثلو المؤسسات السياسية وأبرز الشخصيات السياسية وزعماء القبائل، ومنظمات المجتمع المدني، والأطراف الأمنية الفاعلة، وممثلون عن النساء والشباب، لتيسير اعتماد إطار قانوني وجدول زمني ملزم لإجراء الانتخابات في 2023.

في الأثناء قال عضو “مجلس النواب الليبي” جاب الله الشيباني، إن “مجلس النواب” يرحب بأي مبادرة قد تفضي لحل للأزمة الليبية شرط أن لا تقصي المجلس، في حين اعتبر أن مبادرة باتيلي الجديدة غامضة دون توضيح الآلية التي سيتم من خلالها جمع الأطراف الليبية التي لا يمكن جمعها، وفق وجهة نظره.

الشيباني، انتقد في تصريح لموقع “بي بي سي“، ما وصفه بعدم فهم البعثة الأممية للتركيبة الليبية، مشيرا إلى أن الأزمة في ليبيا تتلخص في “انعدام الثقة بين الأطراف الليبية التي تسعى لأن تكون مُمثلة في أي جسم قادم”، مدّعيا أن “مجلس النواب” قرّر ترك القرار للشعب الليبي من خلال إقرار شروط ترشحٍ مُخالفة، بهدف عدم إقصاء أي من الأطراف.

بالعودة إلى شوبار، فإنه يعتقد أن هذه المبادرة جيدة وليس بها عوائق أو مشاكل. وهي محل تقدير وترحيب من قِبل شرائح واسعة من المجتمع الليبي، ما لم يرفضها بعض الفرقاء السياسيين ورغبتهم في بعثرتها لأهداف وأجندات خارجية. وليس من المستبعد أن يضيعوا جهود باتيلي هذه المرة أيضا. وبالتالي يجب على المجتمع الدولي أن يمارس ضغوطا أكبر من أجل نجاح هذه المبادرة، وإلا ستفشل الانتخابات مرة أخرى ومن ثم ستدخل البلاد في حالة أكثر تعقيدا وسوءا، خاصة وأن العالم اليوم على وشك الدخول في حالة من الركود الاقتصادي.

بالتالي فإن هذا سيؤدي بلا شك إلى تراجع الوضع الاقتصادي في ليبيا أكثر فأكثر، وهو ما قد يؤدي إلى حدوث حالة فلتان أمني أكثر وتاليا غير مستبعد حدوث صدامات أو نزاعات عسكرية بين الميليشيات في ليبيا.

كما وأُصدرت العديد من البيانات المؤيدة لمقترح باتيلي من قِبل ممثلينَ لعدد من الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والناشطين والشخصيات العامة. وثمة تفاؤل كبير على المستوى الشعبي بشأن اقتراح المبعوث الأممي وحالة ترقب لتنفيذه، بحسب شوبار. ووفق تقديره فإن الوجود العسكري الروسي من أهم التحديات التي تقف بطريق مقترح باتيلي الرامي إلى تحقيق الأمن والاستقرار في ليبيا.

المحللون يرون أن حالة الاستقطاب بين الفرقاء السياسيين في ليبيا والتي تغذيها أطراف خارجية تدّعي أنها تبحث عن حلول وأفق سياسية، وهي العقبة الأساسية لعدم إنهاء حالة الانسداد السياسي في البلاد، ومن دون إنهاء حالة التبعية هذه، فإن كل الجهود الرامية لإيجاد بارقة أمل لأزمة ليبيا ستكون بمثابة “إضاعة وقت”، بل وربما قد تؤدي إلى إدخال البلاد إلى مسارات أكثر قتامة.

كذلك، فإن المبادرة ربما لن تجد مجالا للتنفيذ، في غياب تهيئة الظروف الأمنية، وهو ما جعل عضو “مجلس النواب”، عبدالسلام نصية، يطالب باتيلي بدعوة لجنة المسار الدستوري “6+6″، إلى الانعقاد، مع إضافة أطراف الصراع إليها.

من جانب آخر، عضو “مجلس النواب” عبدالمنعم العرفي يرى أنه “يتبقى تشكيل لجنة 6+6، وليس هناك ما يمنع أن يوجد فيها فقهاء وقانونيون”، مضيفا أنه يمكن للبعثة أن تتدخل في تكوين حكومة تنفيذية مصغرة، للإشراف على الانتخابات البرلمانية والرئاسية، ولا يمكن الإغفال عما نبّه إليه باتيلي، وهو ضرورة استقرار الوضع الأمني للذهاب إلى الانتخابات.

احتمالية حدوث صدامات عسكرية

باتيلي من جهته كان قد حذر من أن استمرار الوضع الحالي في ليبيا سيؤدي إلى استمرار الانهيار الاقتصادي والاضطرابات السياسية والاجتماعية وانعدام الأمن، مشيرا إلى أن تأجيل الانتخابات في كانون الأول/ديسمبر 2021 شكل خيبة أمل للشعب.

تأكيدا على حالة البلاد المزرية، فقد خيمت أجواء مشحونة قبل أيام على منطقة تاجوراء الساحلية في طرابلس غربي ليبيا، التي شهدت عمليات قتل بين مجموعتين من الميليشيات، يرجح أنها على خلفية الصراع على النفوذ في العاصمة. وقُتل على إثر ذلك 5 مسلحين تابعين لميليشيا “رحبة الدروع” على يد آخرين من ميليشيات “أسود تاجوراء”، في مناوشات وقعت بشارع شيل الزروق وقرب معسكر النعام، لم يُعرف سبب اندلاعها حتى الآن.

قد يهمك: “تصريحات تحريضية“.. هل اقتربت المواجهة بين الشعب والسلطة في تونس؟

مصادر محلية رجحت وجود خلافات بشأن مناطق النفوذ والسيطرة التي تتقاسمها المجموعتان في تاجوراء، الواقعة شرق العاصمة طرابلس. وكان من بين القتلى في المواجهة علي عبيدة خلف الله، أحد أقرباء القائد الميليشياوي البارز بشير خلف الله، وهو آمر ميليشيا “51 مشاة”، التي تُعد “رحبة الدروع” إحدى الفصائل التابعة له.

هذه المواجهات هي أول اشتباكات تقع بين الطرفين التابعين لـ”وزارة الدفاع بالحكومة المنتهية” ولايتها والتي يرأسها عبد الحميد الدبيبة، حيث تقاسما النفوذ في تاجوراء لأكثر من عامين، وبالتحديد بعد تمكّنهما من طرد مجموعات مسلحة منافسة أخرى نهاية تشرين الأول/أكتوبر 2020.

بعد تلك المناوشات، حشدت المجموعتان الآليات والسيارات المسلحة في منطقة الباعيش وبئر الأسطى ميلاد، في حين تدخلت أطراف حاولت نزع فتيل الأزمة ومنع وقوع صراع مفتوح في المنطقة، خاصة مع اقتراب دخول شهر رمضان. ورغم قبول ميليشيا “أسود تاجوراء” بتسليم المتورطين في تلك الوقائع، فإن القلق ما زال يسيطر على الأهالي الذين يخشون من أن تأتي ضربات انتقامية لأصدقاء القتلى في ميليشيا “رحبة الدروع”، وفق تقرير لموقع “سكاي نيوز”.

نتيجة لذلك، يرى المراقبون أن هذه الأحداث لا تختلف عن التطورات الخطيرة التي حدثت في مدينة الزاوية غربي ليبيا مؤخرا، حيث تصارعت المجموعات المسلحة على النفوذ وأنشطة التهريب، ليستمر شلال الدماء من دون توقف. وبالتالي فإن استمرار حالة الاستعصاء بالبلاد وغياب آلية حقيقية لفرض الأمن والعدالة، قد تكون سببا لمزيدٍ من المواجهات والصدامات العسكرية مستقبلا.

فرص النجاح

حول “مدونة حسن السلوك” التي أعلن باتيلي عن أن اللجنة الرفيعة المستوى التي سيتم تشكيلها ستقوم بصياغتها، فقد اختلفت الأطراف الليبية على تفسير آليتها، إذ أكد بعض أعضاء “مجلس النواب” أن المجلس لن يقبل بإدخال طرف آخر على العملية السياسية، مهددين باتخاذ خطوات أخرى من خلال تعديل دستوري وتشكيل حكومة جديدة تشرف على إجراء الانتخابات دون الرجوع إلى البعثة الأممية.

بينما اعتبرها البعض الآخر شيء جديدا وواقعيا، حيث إن المرحلة تقتضي وجود قانون انتخابات جديد، وأن هذه المدونة بمثابة تعهد أخلاقي من المترشحين لقبول الأطراف السياسية نتائج العملية الانتخابية وتفادي دخول البلاد في دوّامة صراع جديدة.

فضلا عن أن البعثة الأممية يبدو أنها ملّت من مماطلة مجلسي “النواب والدولة” لوضع خارطة طريق لإجراء الانتخابات بسبب التدخلات الخارجية التي تريد ضمان نفوذها من خلال استمرار شخصيات سياسية ضمن أجسام شرعية مثل مجلسي “النواب والدولة” في البلاد، ولا تريد الذهاب إلى إجراء انتخابات مجهولة النتائج، وفق المحللين.

كذلك، رحّبت بعض مؤسسات المجتمع المدني وملتقى الحوار السياسي المجتمعي العلمي بمبادرة المبعوث الأممي بشأن الدعوة لإقامة الانتخابات، واعتبروها متناغمة مع طلبات ورغبات الشعب الليبي في إزاحة كل الأجسام السياسية الحالية، وتشكيل قيادة وطنية موحدة بوجوه جديدة للحفاظ على خيرات البلاد من عائدات النفط، وتنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار بشكل كامل والتمهيد والإشراف على الانتخابات وفقا لقرار “مجلس الأمن الدولي” رقم  “2656”.

شوبار يقول إن الدعم الدولي من الدول الفاعلة في الملف الليبي يجعل فرص تنفيذ هذا الاقتراح أمرا متاحا. وقد لوحظ ذلك بعد الزيارة الأخيرة التي تعد الأولى من نوعها لمجموعة “3 + 2” إلى طرابلس، حيث تعطي هذه التحركات الأمل للشعب الليبي الذي ينتظره بفارغ الصبر من أجل مستقبل أكثر جمالا.

لذلك فإن حل الوضع السياسي المأزوم في ليبيا يكمن في وجود إرادة سياسة دولية للضغط على الفرقاء السياسيين في البلاد التي تحمل السلاح وتخدم أجندات الأطراف الخارجية. ويبدو أن الحديث عن انتخابات دون تحديد شروطها، قد يكون بمثابة صدام عسكري جديد.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.