بدت ليبيا وهي تواجه أحداث شباط/ فبراير من العام 2011 تقدّم نفسها “ذبيحة مقدسة ” لقوى الإسلام السياسي وتنظيماته الجهادية لتعبث بواقع ومستقبل أحد أهم نقاط الجغرافيا السياسية التي تطلّ على البحر المتوسط.

ليبيا التي عانت طيلة سنوات العقد الفائت من الانقسام المناطقي والصراع بين الأجسام السياسية الفاعلة التي عبّرت بقوة عن هذا الانقسام بين شرق البلاد وغربها، شهدت حضوراً كثيفاً وثقيلاً لكافة تنظيمات الإسلام السياسي والقوى الإقليمية الداعمة لهم، فضلاً عن تيار السلفية الجهادية وتنظيمَي “داعش” و”القاعدة”.

توزع الإسلامويين بجغرافيا ليبيا

يختلف حضور الإسلاميين ووزنهم السياسي في ليبيا من جغرافيا إلى أخرى عبر مختلف أرجاء البلاد، تبعاً لما أظهرته تفاعلات عقد زمني كامل منذ الإطاحة بنظام معمر القذافي، حيث تُعد المنطقة الغربية الحاضنة الرئيسية  لهذا التيار على اختلاف مستوياته وتكويناته، وعلى الجانب الآخر تأتي المنطقة الشرقية من البلاد، إذ يعتبر الإسلاميون هناك خصماً رئيسياً للقوى الاجتماعية، بينما يبدو تعامل قبائل الجنوب مع تيارات الإسلام السياسي يراوح عدم الاهتمام والبراغماتية بشكل لا ينفصل عن السمات الرئيسية التي تميز تعامل قبائل الجنوب مع العملية السياسية برمتها، باعتبار أن حضورهم الجغرافي في البلاد يقع بين مناطق الشرق والغرب مما يضع نفوذ كل من قوى الشرق والغرب له حضوره البارز في مناطق الجنوب.

مثلما يتباين حضور تلك التنظيمات في الفضاء الليبي يختلف أثره وتداخلاته في المجال السياسي والقوى المنخرطة في الصراع سواء على المستوى السياسي والميداني حيث يبدو تموضع تيار “الإخوان المسلمون ” على أكثر من مستوى ودرجة؛ مرةً عبر الناحية التنظيمية من خلال جمعية دعوية تحت اسم “جمعية الإحياء والتجديد” منذ مطلع شهر أيار/ مايو من العام 2021، وأخرى على المستوى السياسي والحزبي من خلال “حزب العدالة والبناء” ورئيسه الجديد عماد البناني بعد انشقاق الحليف القديم محمد صوان وتأسيسه لحزب آخر تحت اسم “الحزب الديمقراطي”.

يختلف حضور الإسلاميين ووزنهم السياسي في ليبيا من جغرافيا إلى أخرى عبر مختلف أرجاء البلاد- “الحرة”

لم يبرح “الإخوان المسلمون” خارطة المناصب الفاعلة في ليبيا خلال العقد الفائت حيث حرصت على التّمسك بتلابيب قيادة المجلس الأعلى للدولة من خلال احتفاظ خالد المشري بالمنصب لدورات متتالية ثم عبور المنصب للسيد محمد تكاله عضو “حزب العدالة والبناء” على خلفية الصراع بين المشري ورئيس حكومة الوحدة الوطنية، عبدالحميد الدبيبة.

يرتبط ذلك كله بتيار آخر فاعل داخل جغرافيا العاصمة والمنطقة الغربية وهو تيار المفتي الصادق الغرياني الذي يعبّر عن السلفية الجهادية ويتحالف بالكلية مع سلطة الحكومة التنفيذية والمجلس الأعلى للدولة بمنسوب أقل، خاصة عبر أعضاء المجلس الذي ينتمي بعض منه لتكتل محمد صوان و”الحزب الديمقراطي” الذي يقف ضد سلطة الدبيبة.

إلى ذلك شهدت ليبيا خلال سنوات العقد الماضي ظهوراً ميدانياً لعدد من التنظيمات المتطرفة التي تنتمي بشكل ودرجة ما إلى أفكار تنظيم “القاعدة” الإرهابي، والتي انخرطت في العمل المسلّح ومن أبرز هذه التنظيمات “حركة أنصار الشريعة” و”سرايا الدفاع عن بنغازي” و”مجلس شورى مجاهدي درنة” وبرزت هذه التنظيمات خلال السنوات الأولى التي أعقبت خروج نظام القذافي من دائرة السلطة، سيما في المنطقة الشرقية قبل أن يبدأ حضورها في الانحسار تدريجياً في الفترة بين 2014 و2018 على وقع الضربات الأمنية التي تلقّتها من قبل قوات “الجيش الوطني الليبي” بقيادة خليفة حفتر في كل من مدينة  بنغازي ومدينة درنة.

ومع أن تلك التنظيمات لا تعترف بالعمل السياسي، لكن تلك التنظيمات تم توظيف حضورها من قبل حركات الإسلام السياسي لترتيب نتائج ميدانية وسياسية تصبّ في صالح هذا التيار الذي قدّم رموزه الدعم السياسي والإعلامي والمالي والعسكري لهذه التشكيلات خلال فترة نشاطها في المنطقة الشرقية ومع تلاشي وجود هذا التيار في المنطقة الشرقية توزع بعض أفراد هذه التنظيمات على عدد من الميليشيات المحسوبة على مدن المنطقة الغربية.

تداعيات جمّة على المشهد السياسي

الانقسام الجغرافي وانعكاسه على مستوى الصراع السياسي له جملة من العناصر والسياقات التي ينبغي التدقيق فيها، خاصة على مستوى تنظيمات الإسلام السياسي وتناقض حواضنه الاجتماعية بين مناطق الشرق والغرب الليبي، إذ تتخذ جغرافيا بنغازي والمناطق التابعة لها والقبائل هناك موقف العداء الصارخ لتلك التنظيمات بدءا من واقعة اغتيال الإسلاميين للواء عبد الفتاح يونس، أثناء الحرب ضد القذافي حيث ينتمي يونس -وزير داخلية القذافي سابقاً- إلى “قبيلة العبيدات” التي تُعد أكبر قبائل الشرق عدداً. كما أن هذا العِداء تجذّر وامتد نطاقه مع توسّع عمليات التصفية الجسدية التي مارستها التنظيمات الجهادية بحق قادة عسكريين آخرين ووجهاء قبائل في مدن شرق ليبيا في المرحلة التي تلت سقوط القذافي وكذا تعدد العمليات الإرهابية التي حصدت أرواح الآلاف من أبناء المنطقة الشرقية، فضلاً عن الإصابات.

على الجانب الآخر ثمة دعم  قدمته قوى سياسية من الغرب الليبي لهذه التنظيمات ما جعل مدن غرب ليبيا متورطة بحسب وجهة نظر قبائل برقة في الممارسات العنيفة التي قامت بها الجماعات المتطرفة في المنطقة الشرقية وأدى ذلك منذ وقت مبكر إلى تشابك الموقف من الإسلاميين مع الانقسامات السياسية على أساس جهوي بين شرق وغرب البلاد، الأمر الذي استمر تأثيره وبدا للجميع من خلال التحالف الذي يجمع السلطة التنفيذية “حكومة الوحدة الوطنية” في العاصمة طرابلس مع تيار، المفتي الصادق الغرياني والمجلس الأعلى للدولة و”حزب العدالة والبناء” في مقابل مجلس النواب والجيش الليبي بقيادة خليفة حفتر في الشرق.

لا شك أن المتغيرات الإقليمية والدولية التي طرأت خلال السنوات الأخيرة ألقت بظلالها على شكل العملية السياسية في ليبيا وتنفيذ الاستحقاق الانتخابي، سيما مع تمسك كافة الأجسام السياسية بمواقعها والارتياب من بعضهم البعض، خصوصاً مع إصرار مجلس النواب على ضرورة تشكيل حكومة تنفيذية موحدة تستطيع إجراء الاستحقاق الانتخابي في كامل التراب الليبي وتحالف السلطة التنفيذية مع كافة الأطراف التي تضمن له الاستمرار في المنصب.

بدا ذلك واضحاً مع الخلاف الذي ضرب رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة ومحافظ “المصرف المركزي الليبي”، الصديق الكبير، على خلفية إصرار الأخير بوقف صرف أيّ أموال من الموازنة العامة للدولة، إلا بموافقة مجلس النواب، عدا ما يختص ببند المرتبات.

نحو ذلك قالت مصادر ليبية مطلعة، أن العاصمة الليبية طرابلس شهدت اجتماعاً بمنزل المفتي الصادق الغرياني بمنطقة تاجوراء بالعاصمة طرابلس، حيث ضم الاجتماع كل من محافظ المصرف المركزي، الصديق الكبير، ورئيس ديوان المحاسبة، خالد شكشك، ورئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة، وآمر تشكيل مسلح عن مدينة الزاوية محمود بن رجب.

نشب خلاف بين عبدالحميد الدبيبة ونائبه رمضان بوجناح وصل إلى احتدام العلاقات بينهما. وجاء الخلاف على خلفية تصرف الأول في 100 مليون دينار ليبي (نحو 20 مليون دولار) كانت مخصصة لإعادة إعمار الجنوب.

مصادر ليبية خاصة لـ”الحل نت”

تابعت المصادر في سياق حديثها لـ”الحل نت” أن الاجتماع تم بناء على طلب من رئيس الحكومة في وساطة المفتي لإقناع الصديق الكبير بصرف بنود الميزانية بشكلها المعتاد، فضلاً عن الضغوط التي يمارسها محافظ المصرف المركزي باتهامه رئيس الحكومة بوقائع فساد، الأمر الذي دفع المفتي أن يطلب من الكبير وشكشك الأوراق التي تؤشر لفساد الدبيبة شخصياً ومواجهته بذلك.

المصادر الليبية تشير إلى أن الاجتماع انتهى دون نتائج ملموسة بين الدبيبة والكبير الذي يصر على ربط الصرف بموافقة مجلس النواب.

ارتباطاً بذلك تحدثت المصادر عن خلاف نشب فيما بين عبدالحميد الدبيبة ونائبه رمضان بوجناح وصل إلى احتدام العلاقات بينهما. وجاء الخلاف بين الرجلين على خلفية تصرف الأول في 100 مليون دينار ليبي (نحو 20 مليون دولار) كانت مخصصة لإعادة إعمار الجنوب.

وأن رئيس السلطة التنفيذية عبدالحميد الدبيبة، أودع المبلغ في حساب مخصص لإعادة إعمار الجنوب الليبي كبند مستقل، بيد أن نائبه، رمضان بوجناح خلال جولته الأخيرة إلى عدة دول منها إيران وعودته إلى ليبيا فوجئ بكون الدبيبة قام بسحب للمبلغ من الحساب، ما دفع الأخير أن يحتد بالنقاش مع الدبيبة بمكتبه في حالة غضب وواجهه بصرف المبلغ من الحساب على خلاف البند المدرج عليه.

محددات الأزمة السياسية

المصادر الليبية المطلعة تفسّر ذلك التصرف من قبل رئيس السلطة التنفيذية بحكومة الوحدة الوطنية، عبدالحميد الدبيبة في المبلغ على خلفية  رفض محافظ مصرف ليبيا المركزي، تسييل أي أموال لحكومته، بسبب فسادها واشتراطه موافقة مجلس النواب على الصرف لأي بند عدا المرتبات.

أفراد بقوات شرق ليبيا في بنغازي- “أ ف ب”

نستطيع عبر فحص كافة التناقضات واشتباكات الرؤى والتحالفات بين كافة الأجسام السياسية والقوى الإيديولوجية والأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة، أن نبصر جيداً ونفحص محددات أزمة الانسداد السياسي في ليبيا ومسؤولية توظيف تنظيمات الإسلام السياسي لتلك التناقضات بين القوى الفاعلة محلياً لإرباك المشهد السياسي وإطالة عمر الأزمة لآفاق غير معلومة.

تأسيساً على ذلك يمكن فهم حجم وعمق التغيرات التي طرأت على تحالفات بعض القوى الدولية مع الأجسام السياسية في ليبيا، خاصة على مستوى التباين الذي طرأ على علاقة روسيا بالأطراف الليبية، إذ عرف الحضور الروسي الفضاء الليبي مع تحركات المشير خليفة حفتر لدخول العاصمة طرابلس ودعم جهوده في ذلك الشأن، بيد أن الفترة الأخيرة برز ذلك الحضور على الضفة المقابلة من خلال تعزيز علاقات موسكو بقوى الغرب الليبي.

بدا ذلك من خلال استقبال موسكو رئيس المجلس الأعلى للدولة، محمد تكالة، خلال نهاية شهر كانون الأول/ ديسمبر الماضي واستقبال رئيس الحكومة عبدالحميد الدبيبة، السفير الروسي لدى ليبيا، آيدار أغانين ومناقشة الملفات السياسية بين البلدين وتأكيد السفير الروسي مواصلة السفارة العمل من داخل العاصمة بكامل طاقمها.

مصادر ليبية أشارت إلى أن زيارة تكالة لموسكو جاءت بناءً على رغبة عبد الحميد الدبيبة الذي يهتم بإشراك موسكو في العملية السياسية ولا يلتفت لتلك العلاقة الوطيدة مع خليفة حفتر، فضلاً عن كون الدبيبة يسعى حثيثاً نحو توظيف رغبة موسكو تنويع منسوب علاقاتها بين قوى الشرق والغرب تعزيزاً لوجودها في ليبيا والتنافس مع الولايات المتحدة الأميركية بهدف الاستفادة من الحضور الروسي في إدارة الصراع وعدم الخضوع للضغوط التي تمارس من أجل تشكيل حكومة جديدة لتنفيذ الاستحقاق الانتخابي الليبي وحل أزمات البلاد تدريجياً تباعاً.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات