يعاني المسنون والمتقاعدون في سوريا، مثل معظم الفئات الأخرى، من شظف العيش ومرارته في كل المناطق السورية. إلا أن التبعات الصحية والاجتماعية للتقدم بالعمر تحملهم عبئا أكبر من غيرهم، قد يعجزون عن تحمله.

ولطالما شكلت فئة كبار السن في مختلف المجتمعات ثروة من الخبرة والمعرفة. فإضافة إلى ما راكموه من تجارب على الصعيد المهني والعملي، يعتبر المسنون من الناحية الثقافية ناقلين لتراث مجتمعهم اللامادي، ولتقاليده وعاداته. إلا أن الحرب السورية أضاعت كثيرا من هذه المعاني. إذ لم يعد المسنون والمتقاعدون في سوريا يحصلون على الحد الأدنى من شروط العيش الكريم، وفقدوا كثيرا من تأثيرهم الاجتماعي، مع تمزق كثير من المجتمعات المحلية في البلاد.

ويضطر كثير من المسنين والمتقاعدين في سوريا اليوم إلى العمل في مهن شاقة، لا تراعي ظروفهم وقدراتهم على التحمل؛ أو إلى النزوح خارج البلاد. ولذلك تبعات ثقافية واجتماعية كبيرة، خاصة مع غياب المسنين المنتمين لمجتمعات ذات خصوصية معينة، مثل مسني الشمال السوري من المكونات الآشورية والكردية والسريانية، الذين هاجروا، ولن يعودوا.

المسنون والمتقاعدون: “بلغنا فعلا أرذل العمر!”

الحاج عمران، البالغ من العمر سبعين عاما، بدا مرتبكا متلعثم الكلمات، وهو يتحدث لـ”الحل نت” عن أوضاع المسنين والمتقاعدين في سوريا.

“راتبي التقاعدي لا يتجاوز مئة ألف ليرة سورية، أي أقل من ثلاثين دولار، ومن المفترض أن يكفيني أنا وأسرتي، التي تضم زوجتي وابنتيّ. كنت آمل بآخر عمري أن أجد الراحة، بعد عملي الوظيفي الطويل، لكني اليوم أعجز عن تأمين بعض المتطلبات الأساسية لأسرتي، بسبب محدودية دخلي التقاعدي وارتفاع الأسعار، خاصة مع حاجتي إلى سلة من الأدوية أسبوعيا، بما فيها علاج مرضي الضغط والكوليسترول، الذين ارتفعت أسعار أدويتهما مؤخرا”، يقول الحاج عمران.

أحمد الفتلان، ينتمي لنفس فئة الحاج عمران العمرية، ويعاني مثله، ومثل كل المسنين والمتقاعدين في سوريا، من هموم تأمين العلاج، إلا أن حاله أكثر صعوبة. إذ لم يحظ في شبابه بوظيفة حكومية، وليس لديه راتب تقاعدي. ويقول لـ “الحل نت”: “للأسف لم أكن موظفا حكوميا في شبابي، فرغم أن الراتب التقاعدي زهيد مقارنة بالأسعار اليوم، لكنه على الأقل قادر على تأمين بعض الأدوية. كنت أعمل في محل حلويات في حمص، وقد خسرت بيتي ومحلي في الحرب، التي دمرت حيي بأكمله، ولم يتم تعويضي من قبل الدولة”.

 “أنا أعيش فعلا أرذل العمر”، بهذه العبارة الحزينة ينهي الفلتان حديثه.

من جهتها تتحدث أم مطيع الغماز، وهي سيدة ستينية مقيمة في بلدة زملكا في ريف دمشق، لـ”الحل نت” عن اضطرارها للعمل في سنها المتقدم لإعالة نفسها: “زوجي مريض، وأولادي يعملون في محافظات أخرى ولديهم عائلاتهم، لذلك أنا مضطرة للاعتماد على نفسي. أعمل خارج البيت منذ أربع سنوات، أي منذ أن عدنا لمنطقتنا بعد أن كنا نازحين عنها. والحمد لله هنالك بعض المحسنين، الذين يساعدونني أحيانا”.

المسنون والمتقاعدون في سوريا يعانون من الصدمة

أنصاف سليمان، الباحثة في الشأن الاجتماعي، والأستاذة في قسم الإرشاد النفسي في جامعة تشرين، تستفيض، في حديثها لـ”الحل نت”، بشرح ما يعانيه المسنون والمتقاعدون في سوريا: “حال كبار السن اليوم مؤلم للغاية، وهم يعانون من الصدمة، فقد عجزوا عن مجاراة الانهيار الاقتصادي، وسط تحديات نفسية شديدة الصعوبة. فكثير منهم وجد نفسه متروكا ووحيدا، بعد أن غادره أبناؤه أو توفوا. ما جعل المسنين السوريين يخسرون مفهوم العائلة، التي تعد الركيزة الأساسية للحياة الاجتماعية السورية”.

وتتابع حديثها بالقول: “الجانب الاقتصادي ترك آثاره النفسية على المسنين والمتقاعدين في سوريا، فباتوا يشعرون بعدم جدوى الأعمال والمهن، التي قضوا سنوات من عمرهم وهم ينشطون بها. فكيف يمكن أن يقتنع رجل في الثمانين من العمر، كان يعيش على خمسة آلاف ليرة سورية قبل عشر سنوات، أن هذا المبلغ لا يكاد يشتري شيئا اليوم؟”.

مقالات قد تهمك: ازدياد نسبة الفقر في سوريا مع ارتفاع الأسعار المستمر

ولم تنس الأستاذة سليمان حال المسنين والمتقاعدين في مخيمات اللجوء، إذ تقول: “بالتأكيد معاناة كبار السن النازحين هي الأصعب. فقد وجد المسنون أنفسهم بلا مأوى، بعد أن هدمت منازلهم، وضاع تعب عمرهم في القصف والمعارك. ولم يبق لهم سوى خيمة. وسط تحديات تتعلق بصعوبة تنقلهم، وحصولهم على الأدوية والرعاية الطبية”.

ما أوضاع دور رعاية المسنين في سوريا؟

منير الخضر، الناشط في “الهيئة السورية لشؤون الأسرة والسكان”، يعتبر أن الحكومة السورية مقصرة اجتماعيا تجاه ما يعانيه المسنون والمتقاعدون في سوريا، إذ يقول في حديثه لـ”الحل نت”: “للأسف الحرب السورية شتت شمل أسر كثيرة، وآباء كثر باتوا بلا مأوى ولا أبناء، فكان الأجدر أن تولي الحكومة السورية الاهتمام لدور المسنين. لكن عوضا عن ذلك نجد أن دور رعاية المسنين في مناطق سيطرة الحكومة تضع عددا من الشروط قبل الموافقة على قبول أي مسن، ومن بينها ألا يتخطى عمره سبعين عاما، وأن يكون غير مصاب بمرض الزهايمر. بينما تصل تكلفة الإقامة في دور رعاية المسنين الخاصة إلى أكثر من ربع مليون ليرة سورية في الشهر، من دون ثمن الأدوية، وفي حال الحاجة إلى مرافق يزداد المبلغ”.

ويذكر الخضر أن “عدد دور المسنين المفعّلة حاليا في سوريا لا يتجاوز العشرين دارا، تدار بالتعاون مع المجتمع الأهلي، إضافة إلى دارين حكوميتين، الأولى هي دار الكرامة لرعاية المسنين في دمشق، والثانية مبرة الأوقاف لرعاية المسنين بحلب، بينما توجد دار للمسنين في مدينة اعزاز بريف حلب الشمالي، في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وتضم خمسة وعشرين شخصا مسنا فقط”.

الحاجة إلى قوانين فاعلة تنصف المسنين والمتقاعدين

من جهتها توضح المحامية وفاء الدنيا من حمص أن القوانين التي تهتم بأوضاع المسنين والمتقاعدين في سوريا ليست كثيرة، إضافة لعدم فعاليتها. وتقول لـ”الحل نت”: “بالنظر إلى الحقوق المرعية للحفاظ على حياة كبار السن وحقوقهم، فإن القوانين السورية اليوم بحاجة إلى إعادة نظر، فهي كانت مناسبة فقط للحقبة الماضية، أي حين كان عدد المسنين في سوريا قليلا، وعندما كانت قيمة الليرة السورية تتناسب مع تكاليف المعيشة”.

وتضيف: “بالنسبة للتقاعد فإن الموظف في القطاع العام يتقاعد بعمر الستين، وكذلك في القطاع الخاص والمشترك، ويحصل على تأمين صحي ضئيل، رغم أن أكثر ما يحتاجه كبار السن هو الرعاية الصحية، التي لا يتم تغطيتها بشكل فعلي. ويعود ذلك برأي إلى أن المشرّع في سوريا عوّل على المستشفيات العامة الحكومية، ولا وجود لقوانين أخرى تشمل المشافي الخاصة”.

ختاما لا تتوفر إحصائيات رسمية حديثة عن عدد المسنين والمتقاعدين في سوريا اليوم، إلا أن أحدث التقديرات، في أواخر عام 2021، تشير إلى أن العدد تجاوز 1.7 مليون مسن. أي ما يقدر بنحو 7.2 بالمئة من تعداد السكان. ومن المتوقع أن يصل العدد إلى 5.7 مليون نسمة في عام 2050، بنسبة 13 بالمئة من إجمالي عدد السوريين.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.