ما بين التزام أخلاقي بدعم الاحتجاجات الإيرانية، ورغبة بالتوصل لاتفاق نووي، تقف الإدارة الأميركية على مفترق طرق في تعاطيها مع الشأن الإيراني، يرجح فيه الكثير من المهتمين في هذا الشأن، تجيير الوضع الداخلي الإيراني لتحصيل المزيد من التنازلات الإيرانية في “الملف النووي”، وسواه من الملفات العالقة بين الطرفين.

المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية نيد برايس، صرح خلال الأيام القليلة الماضية، بأن “الاتفاق النووي الإيراني، ليس محور تركيزنا في الوقت الحالي، وأن تركيز الإدارة الأميركية ينصب الآن، على تسليط الضوء على الشجاعة اللافتة التي يظهرها الشعب الإيراني من خلال مظاهراته السلمية، وممارسته لحقه العالمي في حرية التجمع وحرية التعبير، ونركز على دعمه بالطرق الممكنة”.

اقرأ أيضا: الاحتجاجات الإيرانية تُقلق نظام خامنئي

مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات “أف دي دي”، إحدى المنظمات الرافضة لأي اتفاق مع إيران، وجهت سؤالا بصيغة التحدي لإدارة الرئيس بايدن، بحسب موقع “الجزيرة نت”، قالت فيه، “هل لديها إدارة بايدن، الإرادة السياسية للعمل بطريقة مستدامة ضد انتهاكات إيران لحقوق الإنسان وقمع الاحتجاجات. أم أن سلسلة المواقف الأخيرة ستكون لمرة واحدة مثل الحالات السابقة. بعض الصحف الإيرانية أفادت أن استمرار الانتفاضة سيجعل “الاتفاق النووي” المأمول في مهب الريح فعلا، وأن الاتفاق بات شيئا من الماضي.

الجمود التفاوضي مرتبط بانتخابات التجديد النصفي للكونغرس فقط، بحسب حديث الباحثة السياسية عالية منصور لـ “الحل نت”، وذلك لإمكانية توظيف الإدارة الأميركية للحراك الإيراني، لصالح المفاوضات النووية حتى لو وصل الأمر لتكرار ما قامت به إدارة أوباما مع “الثورة الخضراء”. الاحتجاجات وحدها ليست سببا لوقف المفاوضات، حيث أن المفاوضات لا تتعلق بالحريات في إيران، ولا حتى حول الدور التخريبي الذي تلعبه إيران في المنطقة.

السير في طريقين متوازيين

  الخبير بمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، والمسؤول السابق بوزارة الخارجية ديفيد بولوك، أشار إلى تأكيد مستشار الأمن القومي جيك سوليفان على إمكانية الجمع بين إدانة إيران بسبب قمع الاحتجاجات، والسير في طريق التفاوض، بحسب ما نقله موقع “الجزيرة نت”. لافتا أيضا إلى الدعم اللفظي للاحتجاجات الإيرانية، مع بعض التخفيف على القيود المفروضة على مبيعات تكنولوجيا الإنترنت لمساعدة المواطنين الإيرانيين على التواصل، وأن هذا الدعم الضئيل لن يساعد الاحتجاجات على النجاح.

 الباحثة في المجلس الوطني الإيراني الأميركي آسال راد، شبهت تصريح سوليفان، بتواصل الولايات المتحدة مع الاتحاد السوفياتي حتى في ذروة الحرب الباردة من أجل التفاوض على اتفاقيات الحد من التسلح. يعتقد الخبير في المجلس الأطلسي والباحث بمؤسسة “دراسات دول الخليج” سينا أزودي، خلال حديثه لـ “الحل نت” أنه “يمكن أن يكون هناك ضغط من النشطاء وأنصار حقوق الإنسان داخل وخارج الكونغرس، لكن على الإدارة الأميركية واجب مواصلة المفاوضات، رغم أنني أعتقد أنه بالنظر إلى الاضطرابات، سيكون الإيرانيون مشتتين وغير راغبين في الانخراط في المحادثات لتجنب الظهور بمظهر الطرف الأضعف”.

الصحفية والباحثة المختصة بالشأن الإيراني، شيماء علي، ترى خلال حديثها لـ “الحل نت”، أن مطالب المحتجين الإيرانيين ليست اقتصادية لكي يؤثر عليها التوصل لـ “اتفاق نووي” من عدمه، المحتجون مطالبهم اجتماعية وسياسية تدور حول الحرية والتخلص من القوانين الخانقة “للجمهورية الإسلامية”. مع ذلك لا يمكن إغفال أهمية التوصل لـ “اتفاق نووي” على الوضع الاقتصادي للناس في إيران، من خلال زيادة رصيد حكومة الرئيس إبراهيم رئيسي في هذا الوقت الصعب.  

عدم وجود تعارض في دعم الولايات المتحدة المعتاد للاحتجاجات الإيرانية مع مساعيها للتوافق النووي، إلا أن الواضح حاليا أن الطرفين، الإيراني والأميركي، ليس لديهما الرغبة لاستكمال “المفاوضات النووية” المتوقفة منذ فترة، فالمسؤولين الإيرانيين مشغولين في بالاحتجاجات المستمرة منذ شهر ونصف، وإدارة بايدن مشغولة في انتخابات التجديد النصفية للكونغرس.

وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، اتهم واشنطن بممارسة الضغوط على طهران، من خلال دعم الحراك الشعبي الإيراني لانتزاع تنازلات منها في “الملف النووي”، قائلا “الأميركيون يواصلون تبادل الرسائل معنا عبر الوسيط الأوروبي، لكنهم يتطلعون إلى ممارسة ضغوط سياسية ونفسية، ويريدون كسب التنازلات في المفاوضات من خلال دعم الاحتجاجات التي أعقبت وفاة أميني”.

وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، رفض الاتهامات الإيرانية للولايات المتحدة ودول غربية أخرى في مجال الاحتجاجات في إيران، قائلا، إن “سلطات النظام الإيراني لديها فهم خاطئ لشعبها وبلدها وسيكون ذلك على حسابها”.

عكسية مفاعيل العقوبات

استطلاع للرأي، أجرته مؤسسة “أوراسيا غروب فاونديشن” المستقلة، على أكثر من ألفي ناخب أميركي يمثلون الاتجاهات الأميركية السياسية الرئيسية من جمهوريين وديمقراطيين ومستقلين. أظهر أن أكثر من 3 أرباع الأميركيين، يعتقدون أنه ينبغي على إدارة الرئيس جو بايدن مواصلة المفاوضات الساعية إلى منع إيران من امتلاك أو تطوير سلاح نووي.

الالتباس في الاستطلاع كشفه خبير الشؤون الإيرانية بجامعة ولاية تينيسي، سعيد جولكار بقوله، “إذا خيّرت الأميركيين بين التوصل لاتفاق مقابل الحرب، بالطبع فإن معظمهم سيدعمون الاتفاق، وليس الحرب، فليس لدى الأميركيين ذاكرة جيدة عن الحرب”.

مديرة مبادرة “مستقبل إيران” بالمجلس الأطلسي باربرا سلافين أشارت إلى أن “هناك من يكره فكرة أي صفقة مع إيران، وآخرون يعتقدون أن هذا ليس الوقت المناسب لرفع وتخفيف العقوبات بسبب مقتل مهسا أميني، والقمع الوحشي للاحتجاجات. لكن العقوبات الأميركية تعاقب الشعب الإيراني بأكمله وتحرم العالم من النفط الذي تشتد الحاجة إليه”، بحسب موقع “الجزيرة نت”.

الشارع الإيراني لا يفضل التدخل الأجنبي في بلادهم، وأن الكثير من الإيرانيين لا يريدون شيء من واشنطن، مع علمهم أن واشنطن لا تستطيع تقديم سوى الدعم المعنوي بتأييد الاحتجاجات، وفق علي، مشيرة إلى وجود قطاع كبير من الإيرانيين رافضا، لفرض واشنطن عقوبات جديدة على بلادهم بسبب الاحتجاجات، لما لذلك من تأثير على اقتصاد البلاد من جهة، ومن جهة أخرى يعطي حجة للحكومة لقمع الاحتجاجات بشكل أعنف.

وزارتا الخزانة والخارجية الأميركيتان، قد أعلنتا في إجراء مشترك وبيانين منفصلين خلال الأسبوع الماضي، إدراج 14 مسؤولا إيرانيا و3 كيانات على قائمة العقوبات، نتيجة القمع الوحشي للاحتجاجات.

من بين المسؤولين الـ14 رئيس سجن إيفين هدايت فرزادي، ومدير هيئة السجون في طهران حشمت الله حياة الغيب، بالإضافة لثلاثة من كبار قادة “الحرس الثوري”، هم رئيس جهاز استخبارات الحرس محمد كاظمي، وعباس نيلفروشان نائب قائد قسم العمليات، وقائد “فيلق سلمان” في سيستان وبلوشستان أحمد شفاهي، وقائد شرطة محافظة أصفهان محمد رضا ميرحيدري، ورئيس سجن بوشهر محمد رضا أستاد.

 العقوبات شملت أيضا مؤسستي أكاديمية “رافين”، وشركة “سامانه غستار سحاب برداز”، الضالعتين في المراقبة و”الأنشطة الإلكترونية الخبيثة”، بالإضافة لسجن بوشهر، حسب ما أورده “المعهد الدولي للدراسات الإيرانية”.

مواقف ليست على محمل الجد الإيراني

من غير المرجح أن يشعر النظام بالقلق مما تقوله الإدارة الأميركية بشأن الاحتجاجات في إيران، طالما أن إدارة بايدن تحتفظ حتى بأبسط أمل في التوصل إلى “اتفاق نووي” جديد، مما يرجح أنها لن تتخذ أي إجراء تجاه السياسة الداخلية لإيران، حسب الباحثة الإيرانية ماري عبدي، في مقالها لـ “معهد الشرق الأوسط”.

 عبدي تخلص إلى أنه “مالم يتم إزالة هذه التصور من أذهان المسؤولين الإيرانيين، فمن المرجح أن يتزايد القمع الوحشي، مع زيادة شك المتظاهرين في الولايات المتحدة، وتقليل فرصهم في إحداث تغيير جذري في بلادهم”.

ردا على سؤال حول ما إذا كانت الولايات المتحدة تدعم تغيير النظام في طهران، قال المبعوث الأميركي لشؤون إيران، روبرت مالي، “سياستنا ليست تغيير النظام في طهران. سياستنا هي الدفاع عن الحقوق الأساسية للمواطنين الإيرانيين ودعمها”.

المتحدثة باسم البيت الأبيض، كارين جان بيير، صرحت بدورها الأسبوع الفائت، بأن “باب الدبلوماسية سيبقى دائما مفتوحا للولايات المتحدة، وبالنظر إلى الوضع الحالي، نحن لا نشهد اتفاقا في وقت قريب”.

الباحثة عالية منصور تؤكد ذلك بالقول، الهاجس الأول للإدارة الأميركية اليوم هو الانتخابات النصفية، لكن بعد الانتقادات الشديدة التي وجهت للإدارة بسبب ما أشيع عن تقديمها تنازلات لصالح إيران، وبعد كلام أوباما عن “الثورة الخضراء”، كان لابد لهذه الإدارة من التركيز على دعم الاحتجاجات الإيرانية، وفي الوقت نفسه إبقاء الباب مفتوحا أمام العودة إلى “الاتفاق النووي” وتغريدة مالي، وحذفها تأتي في السياق.

الدعم اللفظي للاحتجاجات الإيرانية غير مرتبط بالحصول على تنازلات إيرانية، بقدر ماهو مترابط بانشغال الإدارة الأميركية بانتخابات التجديد النصفي، بحسب الباحثة شيماء علي، فالتوافق النووي مرهون بتحقيقات الوكالة الدولية للطاقة الذرية، إضافة إلى أن طهران قدمت تنازلات للجانب الأميركي في الفترة الأخيرة، ولا تعتقد أنها ستفعل المزيد بعد دعم الولايات المتحدة للاحتجاجات في إيران.

مالي كان قد أطلق خلال تغريدته القائلة “المتظاهرون يظهرون دعمهم للشعب الإيراني، الشعب الذي يطالب من خلال التظاهرات السلمية الحكومة باحترام كرامته واحترام حقوق البشر”، موجة انتقادات ضده، ‏طالبت خلالها الناشطة الإيرانية نجاد عبد المسيح بإقالته من منصبه، لتقديمه “صورة كاذبة للاحتجاجات في إيران، وإصراره على التفاوض مع النظام الإيراني”.

لاحقا كتب مالي، على صفحته في “تويتر”، “رسالتنا إلى إيران بسيطة، توقفوا عن قتل شعبكم وتوقفوا عن إرسال طائرات مسيرة إلى روسيا لقتل الأوكرانيين”.

في مقابلة مع مؤسسة “كارنيغي” للسلام الدولي، خلال الأيام القليلة الفائتة، قال مالي، إن إدارة الرئيس بايدن تتابع حاليا قمع المتظاهرين في إيران، ودعم نظام طهران للحرب الروسية في أوكرانيا، ومواقف إيران بشأن برنامجها النووي، ولن تهدر الإدارة وقتها لإحياء “الاتفاق النووي”. وتركيز الإدارة الآن على قضيتين هما احتجاجات إيران والأدلة المتزايدة على دعم طهران لموسكو في حرب أوكرانيا، والمفاوضات النووية “ليست محور تركيزنا حاليا”.

إدارة بايدن لم تتخل عن الدبلوماسية لحل “القضية النووية” الإيرانية، لكن الرئيس الأميركي مستعد لاستخدام الخيار العسكري كملاذ أخير لمنع إيران من امتلاك أسلحة نووية، وفق مالي.

غالبا ما تتدرج الدول في مواقفها، صعودا ونزولا، تجاه حدث معين، فالتحول المفاجئ في السياسة الخارجية يندر حدوثه، ومنه الموقف الأميركي تجاه الانتفاضة الإيرانية، والتي لم تعد محصورة بالداخل الإيراني وحقوق الإنسان، بقدر ما أصبحت مرتبطة بسياسة إيران الخارجية واصطفافها ضمن المحور الساعي لهدم النظام العالمي أحادي القطبية.

قد يهمك: استمرار الاحتجاجات في إيران.. ماذا بعد؟

ديمومة الانتفاضة الإيرانية ستمنح مساحة واسعة للعمل الأميركي تجاه إيران، رغم ميوعة مواقف الإدارة الأميركية الحالية، فالاستراتيجية الأميركية ليست أسيرة حزب واحد، كما أن أحداث نشهدها وأخرى سمعنا عنها، رسمتها أميركا زمن الحزب الديمقراطي، ومنها سقوط الشاه زمن الرئيس الأسبق جيمي كارتر، والحدث الأوكراني الذي دقت بساميره الكبرى زمن الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون.  

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة