لا تزال المناقشات حول فعالية العقوبات على روسيا مستمرة، حيث يزعم السياسيون من اليمين المتطرف واليسار المتطرف، والذين يمثلون وجهة نظر موسكو على نحو تقليدي، بأن العقوبات غير فعالة، وينحصر ضررها على الأوروبيين فقط.

زعيمة اليمين المتطرف الفرنسية، مارين لوبان، وصفت العقوبات بأنها “غير مجدية على الإطلاق، باستثناء جعل الأوروبيين يعانون”. وفي ألمانيا، تردد صدى وجهات نظرها ليس فقط في البديل اليميني لألمانيا، ولكن أيضا من قبل السياسيين البارزين في حزب اليسار، مثل سارا فاكنكنيخت والتي قالت مؤخرا: “العقوبات لا تؤذي روسيا، بل تؤذينا نحن فقط”.

بالنسبة إلى هذه الأصوات الصديقة للكرملين، لم تؤد العقوبات فعليا إلى أي ضرر في الاقتصاد الروسي، الذي يزدهر من وجهة نظرهم وسط ارتفاع أسعار الطاقة. ومع ذلك، يجادل آخرون ممن لا يشاركون موسكو بالضرورة في وجهات نظرها بأن العقوبات كانت فاشلة لأنها لم تمنع فلاديمير بوتين من تصعيد هجماته على أوكرانيا.

هذا السرد يخدم مصالح الكرملين. فمع اقتراب فصل الشتاء، يراهن بوتين على أن الإرهاق من العقوبات سيبدأ قريبا. ولكن نظرة على البيانات تظهر أن الأشخاص الذين يزعمون أن العقوبات غير فعالة مخطئون، فبعد تسعة أشهر فقط من فرض المجموعة الأولى من العقوبات في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 شباط/فبراير، يلاحظ بأنها تضغط بالفعل على قدرة موسكو على شن الحرب. وما هذه سوى البداية، فالعقوبات على روسيا تعتبر بمثابة سباق ماراثون أكثر منه سباق سريع، وستزداد فعالية العقوبات بمرور الوقت.

وينبع الخلط حول فعالية العقوبات من عدم وضوح أهدافها، حيث لم تنو الدول الغربية أبدا استخدام العقوبات لإجبار بوتين على التراجع والانسحاب من أوكرانيا؛ فهي ترك أن بوتين يعتقد أنه يشن حربا من أجل بقاء روسيا ضد الغرب المنحل. وليس الهدف هو إثارة تغيير النظام في موسكو، إذ إن العقوبات المفروضة على كوبا وكوريا الشمالية وسوريا تظهر أن هذا لا ينجح أبدا، ولا يوجد سبب للاعتقاد بأن خليفة بوتين الافتراضي سيغير المسار في أوكرانيا. كما أنه ليس الهدف هو انهيار الاقتصاد الروسي على غرار فنزويلا، فهذا مستحيل عندما يكون الهدف هو الاقتصاد الحادي عشر في العالم. إلى جانب ذلك، من المرجح أن يؤدي انهيار روسيا إلى دخول الاقتصاد العالمي في حالة ركود من خلال التوقف المفاجئ عن صادرات روسيا من العديد من السلع، بما في ذلك الحبوب، والأسمدة، والطاقة، والمعادن.

إذاً ما هي أهداف العقوبات الغربية على روسيا؟ لم يتم ذكر ذلك بشكل صريح على الإطلاق، ولكن نظرة فاحصة على حزم العقوبات التي نفذتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلفاؤهما تشير إلى أن لديهم ثلاثة أهداف: أولا، تحاول الدول الغربية إرسال إشارة قوية إلى الكرملين بالتصميم والوحدة. ثانيا، تهدف الدول التي تفرض العقوبات إلى إضعاف قدرة روسيا على شن الحرب. ثالثا، تراهن الديمقراطيات الغربية على أن العقوبات سوف تخنق الاقتصاد الروسي ببطء، وخاصة قطاع الطاقة في البلاد. وعند الحكم على أساس هذه المعايير، نجد بوضوح أن العقوبات تعمل وبفعالية.

فالدول الغربية تستخدم العقوبات لتوجيه رسالة إلى الكرملين مفادها أن أوروبا والولايات المتحدة تقفان إلى جانب أوكرانيا، وتم إنجاز المهمة من هذا المنظور.

فقد أثبت التعاون عبر الأطلسي بشأن العقوبات قوته خلال الأشهر التسعة الماضية، مع وجود القليل من الخلافات بين واشنطن والعواصم الأوروبية. وقد أدى هذا إلى إرباك توقعات بوتين المحتملة بأن الغرب سوف يبقى ضعيفا ومنقسما، وهناك أيضا فرصة كبيرة في أن يفاجأ بسرعة وحجم هذه الإجراءات. لقد استغرق الأمر من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أسابيع فقط لفرض عقوبات على الآلاف من الأفراد والشركات الروسية، وفصل العديد من البنوك الروسية عن نظام سويفت للتحويلات المالية الدولية وتجميد نصف احتياطيات البنك المركزي الروسي.

ويعتبر إرسال رسالة دبلوماسية بداية جيدة، إلا أن الهدف الرئيسي للعقوبات هو إضعاف قدرة روسيا على شن الحرب. فبالرغم من ادعاءات الكرملين بعكس ذلك، دفعت العقوبات بالاقتصاد الروسي إلى ركود عميق. وهذا التأثير ملحوظ لأن العقوبات لم تستهدف حتى الآن صادرات الطاقة في البلاد. بل في الواقع، زادت عائدات النفط الروسية هذا العام بسبب ارتفاع أسعار النفط نتيجة للحرب. وكانت الأمور ستكون أسوأ بكثير بالنسبة للكرملين إذا ما كانت أسعار الطاقة في متوسطها التاريخي.

وبالرغم من أن الكرملين قلص من إصدار الإحصاءات الاقتصادية، فإن البيانات التي لدينا ترسم صورة قاتمة. فقد كان الناتج المحلي الإجمالي لروسيا في تشرين الأول/أكتوبر أقل بنسبة 4.4 بالمئة مما كان عليه في نفس الشهر من عام 2021. وكان الإنتاج الصناعي، بما في ذلك استخراج النفط والغاز، أقل بنسبة 3 بالمئة تقريبا مما كان عليه في عام 2021. وانهارت تجارة التجزئة بنحو 10 بالمئة على أساس سنوي، مما يسلط الضوء على الخسائر من ارتفاع معدلات التضخم. كذلك البيانات الخاصة بقطاع السيارات التي تعتبر رائدة في الاقتصاد الروسي كما هو الحال في العديد من البلدان الأخرى مقلقة تماما.

 فقد خفضت شركات السيارات الروسية الإنتاج بنسبة 64 بالمئة مقارنة بعام 2021، بسبب نقص الطلب ونقص المكونات المستوردة. ولم يكن تشرين الأول/أكتوبر حالة استثنائية، فقد كانت البيانات مروعة منذ نيسان/أبريل. والأمور لا تتحسن، ومن المحتمل أنها آخذة منعطفا نحو الأسوأ بعد بدء التعبئة في أواخر أيلول/سبتمبر الماضي.

الكرملين يدرك أن الاستقرار الاجتماعي على المحك في مواجهة مثل هذا الوضع الاقتصادي الصعب. ويرى بوتين أن الاستياء العام هو تهديد لبقائه، وقد يكون على حق. ومع ذلك، فإن الحالة الاقتصادية السيئة تعني أن ميزانية روسيا في وضع صعب. وهذا أمر غير معتاد بالنسبة لمصدر الطاقة عندما تكون أسعار السلع عند مستويات قياسية عالية. ويشير هذا أيضا إلى أن المشاكل تتزايد: سوف تحتاج موسكو في الأشهر المقبلة إلى حل معادلة مستحيلة لتمويل الحرب في أوكرانيا مع الحفاظ على الدعم الاجتماعي مرتفعا بما يكفي لتجنب الاضطرابات. (لن يكون هذا بالأمر الهين إذا حدثت تعبئة ثانية). ولا يزال لدى الكرملين احتياطيات، لاسيما من صندوق ثروته السيادية. ومع ذلك، سوف تجف هذه الموارد في مرحلة ما في حال لم يتم تجديدها. ففعليا، الحكومة الروسية تعيش على الاحتياطيات.

مدى العقوبات الغربية يتجاوز المجال الاقتصادي ليمتد إلى القطاع التكنولوجي. وهنا، لدى الولايات المتحدة القليل في جعبتها: تقريبا جميع أشباه الموصلات / أنصاف النواقل المتقدمة المستخدمة في المعدات الإلكترونية والعسكرية مصنوعة باستخدام خبرة الشركات الأميركية. ومنذ الغزو الروسي، فرضت واشنطن ضوابط على الصادرات تحد من وصول روسيا إلى هذه الشرائح. ويشكل هذا مشكلة ملحة بالنسبة لموسكو لأسباب لا تقل عن أن الصواريخ الروسية مليئة بأشباه الموصلات/أنصاف النواقل التي لا تستطيع الدولة صنعها بنفسها. وفي مواجهة انخفاض بنسبة 90 بالمئة في واردات الشرائح الدقيقة، يحاول الكرملين بشكل محموم إنشاء شبكات تهريب أشباه الموصلات/أنصاف النواقل. ولا تكاد تكون العقوبات مانعة لوصول هذه الشرائح، ولكن من المحتمل ألا يكون أي تهريب كاف لروسيا لتجديد مخزونها من الصواريخ، خاصة إذا استمرت الحرب بلا هوادة في الأشهر المقبلة.

الهدف الثالث والأخير للعقوبات هو الخنق البطيء طويل الأمد للاقتصاد الروسي. وتسعى واشنطن وبروكسل إلى تحقيق هذا الهدف من خلال حرمان شركات النفط والغاز الروسية من التمويل والتكنولوجيا الغربيين. وبالنسبة لموسكو، هذا تهديد وجودي آخر: حقول النفط والغاز الروسية آخذة في النضوب، والاحتياطيات الجديدة التي سيتم استغلالها موجودة على أو في المحيط المتجمد الشمالي. وسيتطلب تطوير هذه الحقول تقنية غربية متطورة (لن يتم توفيرها) ومبالغ ضخمة من المال (وهو نقص في المعروض).

تاريخ العقوبات المفروضة على إنتاج الطاقة الروسي يعود إلى عام 2014، عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم بشكل غير قانوني، وقد يستغرق الأمر عقودا حتى تنجح. وبمجرد أن يفعلوا ذلك، سيكونون الأكثر إيلاما من بين جميع العقوبات المفروضة على روسيا، لأن اعتماد كلا من الإيرادات الاقتصادية والمالية هو على استخراج النفط والغاز.

ويمكن الافتراض أن الأمور ستزداد سوءا بالنسبة لموسكو. فأسعار الطاقة في انخفاض وأسعار النفط الآن أدنى مما كانت عليه في بداية الحرب. ومن المحتمل حدوث مزيد من الانخفاضات في عام 2023 مع تباطؤ الاقتصاد العالمي. وابتداء من العام المقبل، سيتوقف الاتحاد الأوروبي عن استيراد النفط الروسي. بالإضافة إلى ذلك، قامت روسيا بإطلاق النار على نفسها من خلال إغلاق معظم أنابيب الغاز عن أوروبا، مما أدى إلى قطع شريان الحياة المالي للكرملين.

 إعادة توجيه صادرات الغاز إلى الصين ستستغرق سنوات عديدة واستثمارات هائلة في البنية التحتية الجديدة، حيث يتم توجيه معظم خطوط أنابيب الغاز الروسية لخدمة أوروبا. ومن شأن بناء خطوط أنابيب جديدة إلى الصين أن يحل هذه المشكلة، لكن بكين ليست في عجلة من أمرها. والوقت في صالح الصين التي تدرك أنها ستكون قادرة على انتزاع المزيد من الامتيازات المالية من الكرملين اليائس على نحو متزايد.

ومما زاد الطين بلة بالنسبة لبوتين، أن الدول الغربية لم تستنفد جميع الخيارات في ترسانة عقوباتها، حيث لا يزال تحت تصرفها ثلاثة إجراءات من دليل عقوبات إيران. ويمكن لواشنطن وبروكسل فصل جميع البنوك الروسية عن نظام سويفت، الأمر الذي من شأنه أن يضع البلاد في عزلة مالية. كما يمكن أن تحظر الولايات المتحدة أيضا روسيا من استخدام الدولار الأميركي، مما يعقد بشكل كبير صادرات الطاقة. والخيار الأقوى، وهو العقوبات الثانوية الأميركية، سيجبر جميع الشركات، سواء الأجنبية أو المحلية على الاختيار بين الأسواق الروسية والأميركية. وبالتالي، فإن شراء النفط أو الغاز الروسي سيكون محظورا في جميع أنحاء العالم، مما يضر بشكل خطير بالمخزون المالي للكرملين. فالعقوبات على روسيا لم تنجح فحسب، بل إن الأسوأ بالنسبة للكرملين ربما لم يأت بعد.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.