اليوم تعيش سوريا في أزمة اقتصادية عميقة ومتراكمة، بعد أكثر من عقد من الصراع والاضطرابات، فقد شهدت البلاد تدهورا مستمرا في الوضع الاقتصادي، مما أدى إلى تفاقم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين؛ ويتجلى هذا الوضع في ارتفاع معدلات التضخم، وزيادة معدلات البطالة، وتدهور قيمة العملة المحلية، وانعدام الخدمات الأساسية، مما يجعل الحاجة إلى حلٍّ اقتصادي ضرورةً أكثر من أي وقت مضى.

من هذا المنطلق، تبدو الخرائط الجديدة التي تسعى لفرض نفسها في سوريا كجزء لا يتجزأ من تطورات الأزمة الاقتصادية، فبعد مضي أكثر من عقد من الزمن على الصراع، يبدو أنه لم يعد هناك مجال للاعتماد على الأساليب التقليدية لإدارة الأزمة الاقتصادية، إذ إن هذا الوضع يشير إلى أن الأزمة الاقتصادية في سوريا لن تنتهي بسهولة، ولن تقتصر على الآثار الاقتصادية فقط، بل إنها قد تؤدي أيضا إلى تغييرات كبيرة في الخريطة السياسية للبلاد.

خريطة المناطق الاقتصادية

من بين الخرائط الجديدة التي تبرز بهذا السياق، تأتي في مقدمتها خريطة المناطق الاقتصادية في سوريا؛ حيث يبدو أن هناك محاولات لتقسيم البلاد إلى مناطق مختلفة تتمتع بمستويات متفاوتة من الاستقرار الاقتصادي. 

في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية، تسعى الحكومة إلى إعادة بناء الاقتصاد المتضرر من الصراع، من خلال مشاريع البنية التحتية والإصلاحات الاقتصادية، إلا أن ذلك لم يسر على الشكل المأمول، لاسيما بعد قيمة تدهور العملة المحلية بحوالي 99 بالمئة منذ بداية العام.

أما في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة، فتسعى هذه المعارضة لإقامة اقتصاد مستقل عن الحكومة السورية، بهدف تلبية احتياجات المواطنين وتحقيق الاستقلالية الاقتصادية، لكن هذا الاقتصاد مترنح بسبب ضعف الحوكمة عليه، وتبعيته بشكل غير مباشر لسياسات الدول الإقليمية. 

وفي المناطق التي تخضع لسيطرة قوى دولية أو إقليمية، تسعى هذه القوى لفرض نفوذها الاقتصادي على المنطقة والتأثير في توجيه السياسات والقرارات الاقتصادية، كما يحدث في المناطق التي تنتشر فيها الميليشيات الإيرانية أو القوات التركية التي فرضت عملتها على أركان التجارة هناك، وهذه المناطق لا تختلف عن مناطق الحكومة السورية في الشكل، حيث انتشرت السوق السوداء و”بارونات” الحرب.

تلك التطورات تبدو مثيرة للاهتمام بشدة، حيث تشير إلى أن الأزمة الاقتصادية في سوريا ليست مجرد مسألة محلية تؤثر على الاقتصاد فقط، بل إنها أصبحت جزءا من صراعات أوسع نطاقا تتداخل فيها مصالح دولية وإقليمية، وهذه الخرائط الجديدة تؤثر على مستقبل سوريا والمنطقة بشكل عام، حيث يبدو أنها قد تلعب دورا حاسما في تشكيل مسار الأزمة ومستقبل السياسة والاقتصاد.

خريطة المناطق الاجتماعية

أما خريطة المناطق الاجتماعية في سوريا فهي تعكس تحديات أخرى تواجه البلاد بعد سنوات من الصراع والانقسام، حيث يظهر أن هناك انقساما اجتماعيا تنظيميا في البلاد، حيث تسعى الأطراف المختلفة إلى تنظيم الحياة الاجتماعية وتحديد القوانين والقيم وفقا لأجنداتها الخاصة بعيدا عن مظاهر مختلفة من التنوع الاجتماعي، سواء كان على أساس طائفي أو عرقي أو جغرافي أو جنسي أو ثقافي.

ففي المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية، تحاول الحكومة الحفاظ على النظام الاجتماعي السائد في البلاد، والذي يقوم على مبدأ “الوحدة في التنوع”. وهذا المبدأ يدّعي أن سوريا هي دولة متعددة الأديان والأعراق والثقافات، وأن هذه التنوع يجب أن يكون مصدر قوة وتآخٍ، لا مصدر ضعف وانشقاق. 

لكن في الواقع، تُظهر هذه الحكومة عدم احترام للتنوع الاجتماعي، وتمارس سياسات قمعية وتمييزية ضد بعض الفئات أو الجماعات، التي تعتبرها خطرا على استقرارها أو شرعيتها، كما تفشل هذه الحكومة في تلبية حاجات المجتمعات المحلية، وتضطهدها بالضرائب والخدمة الإلزامية والفساد.

أما في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة، تسعى المعارضة لإقامة نظام اجتماعي أكثر ديمقراطية وحرية؛ لكن في الواقع، هذه المعارضة لديها عدم تجانس أو تنظيم، وتخضع لتأثيرات خارجية أو داخلية، تزعزع مصداقيتها أو فعاليتها، كما تفشل هذه المعارضة في توفير الأمن أو الخدمات للمواطنين، وتتورط في صراعات أو انتهاكات، تزيد من معاناتهم.

بالانتقال للمناطق التي تسيطر عليها قوى دولية أو إقليمية، تسعى هذه القوى لفرض نفوذها الاجتماعي على المنطقة، وهذا النفوذ يقوم على مبدأ التقسيم في التنوع، لذلك، تحاول هذه القوى تشجيع أو تمويل أو تسليح بعض الفئات أو الجماعات، التي تشاركها المصالح أو المذاهب، وتحارب أو تعادي أو تقمع بعض الفئات أو الجماعات، التي تخالفها الأهداف أو العقائد، وبهذه الطريقة، تسعى هذه القوى لإضعاف سوريا وتقسيمها كما يحدث فعليا مع الميليشيات الإيرانية.

 تأثير الحالة الاقتصادية على الخريطة السياسية في سوريا

هذه الخرائط الجديدة تعكس الواقع الاقتصادي والاجتماعي المتغير في سوريا، وهي تشير إلى أن البلاد تتجه نحو مرحلة جديدة من التطور، قد يكون لها عواقب كبيرة على مستقبل سوريا.

فالأزمة الاقتصادية أدت إلى زيادة الصراع بين الحكومة السورية والمعارضة المسلحة، ففي المناطق التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة، يعاني السكان من الفقر والبطالة، مما يؤدي إلى زيادة التمرد.

أيضا تصاعد الصراع بين القوى الدولية والإقليمية، فكل من هذه القوى تسعى لفرض نفوذها الاقتصادي على البلاد، مما يؤدي إلى مزيد من الانقسام والتوتر في سوريا، فعلى المستوى الإيراني والتركي، يسعى كل منهم لعقد اتفاقيات في المناطق الخاضعة لسيطرتهم من أجل السيطرة الاقتصادية.

علاوة على ذلك، أدت الأزمة الاقتصادية أيضا إلى زيادة الهجرة من سوريا، فالعديد من السوريين يتركون البلاد بحثا عن فرص عمل أفضل في الخارج، مما أدى إلى انخفاض عدد السكان في سوريا، وبطبيعة الحال أسباب وعوامل هذه الرغبة في السفر لدى السوريين باتت معروفة للجميع، ومن بينها فقدان الأمل بالمستقبل في سوريا والأوضاع المعيشية المروعة كعوامل رئيسية.

وما يعمّق الهوة وحدود هذه الخرائط، أن الحكومة السورية والمعارضة المسلحة والقوى الدولية والإقليمية ليسوا بصدد دعم الإنتاج المحلي في سوريا، من خلال توفير الطاقة والمواد الخام والتمويل والتكنولوجيا، والذي سيساعد على تحسين مستوى المعيشة للمواطنين، وتخفيف الاعتماد على الواردات، وزيادة التنافسية والابتكار.

فضلا عن ذلك، فإن جميع الأطراف ليست معنية في الوقت الحالي بتحسين التبادل التجاري بين المناطق المختلفة في سوريا، وبين سوريا والدول المجاورة، وهذا ما ساعد على عدم تنشيط الحركة الاقتصادية، وتخفيض أسعار السلع والخدمات، وزيادة التكامل والتعاون.

عوامل كثيرة في الحالة الاقتصادية أيضا أثرت على الخريطة السياسية في سوريا، منها عدم تعزيز حماية المستهلك، وإصلاح نظام الضرائب ونظام الرواتب والعملة المحلية، من خلال حوار وتفاهم وتسوية بين هذه الأطراف، على أساس احترام حقوق ومصالح كل طرف، وهذا هو التحدي الأكبر الذي يواجه سوريا في هذه المرحلة.

من المرجّح أن تستمر هذه الخرائط الجديدة في فرض نفسها بسوريا خلال السنوات القادمة، حيث ستستمر الحالة الاقتصادية بالتدهور، لا سيما أن هذه التطورات تشير إلى أن الأزمة الاقتصادية في سوريا لن تنتهي بسهولة؛ بل إنها قد تؤدي إلى تغييرات كبيرة على الخريطة السياسية في البلاد.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
5 1 صوت
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات