منذ بداية عام 2011، تعرضت الليرة السورية لانهيار متواصل أمام العملات الأجنبية، خاصة الدولار الأميركي، فقد فقدت الليرة أكثر من 99 بالمئة من قيمتها، حيث انخفض سعر صرفها من حوالي 47 ليرة للدولار في عام 2010، إلى أكثر من 15 ألف ليرة للدولار في عام 2023. وهذا التدهور، الذي يعكس حالة الاضطراب والفوضى التي تعيشها سوريا، أدى إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وزاد من معاناة المواطنين من التضخم والفقر والجوع.

في محاولة لمواجهة هذه المشكلة، طرح مؤخرا فكرة إصدار الليرة السورية الإلكترونية، أو ما يسمى بالعملة المشفرة أو الرقمية، وهذه الفكرة تقترح استخدام نظام إلكتروني آمن وشفاف لإنشاء وتداول وحدات نقدية رقمية، بدلا من استخدام الأوراق النقدية التقليدية، وهذه الوحدات، التي تعتمد على تقنية سلسلة الكتل “بلوكتشين”، تكون محصورة في عدد محدود، ولا يمكن تزويرها أو تضخيمها أو مصادرتها.

المؤيدون لهذه الفكرة يرون أنها تحمل فوائد عديدة للاقتصاد والمجتمع السوري، فهي تسهل التعاملات المالية داخل سوريا وخارجها، وتخفض التكاليف والرسوم والضرائب، كما تحافظ على قيمة الليرة وتحميها من التلاعب والتخريب. وبالإضافة إلى ذلك، تزيد من ثقة المواطنين بالعملة المحلية، وتشجع على التوفير والاستثمار، وأخيرا تعزز من حرية المواطنين وسيادتهم على مصيرهم المالي؛ ولكن هل هذه الفكرة مجرد حلم جميل، أم أنها مشروع واقعي وقابل للتطبيق، وهل هي خدمة جديدة تحسن من الانهيار الاقتصادي، أم أنها مغامرة خطيرة تزيد من المخاطر.

الاستعاضة بالليرة الإلكترونية

إن الأوضاع الاقتصادية في سوريا قد تجاوزت مرحلة الأزمة إلى ما هو أسوأ من ذلك بكثير، فالليرة السورية تعاني من انهيار هائل تسبب في تدهور معيشة المواطنين وزيادة معدلات التضخم بشكل غير مسبوق، وتأثير هذا الانهيار لا يقتصر على الجوانب الاقتصادية فقط، بل يمتد أيضا إلى الحياة اليومية للسوريين، حيث أصبحت صعوبة الحصول على السلع الأساسية والخدمات الأساسية أمرا شبه مستحيل.

في هذا السياق، تبرز فكرة الليرة السورية الإلكترونية كخيار يمكن أن يكون له تأثير كبير على الوضع الاقتصادي في البلاد، إذ إن استخدام النقود الإلكترونية يمكن أن يسهم في تحسين الحالة الاقتصادية ويوفر حلا جزئيا للأزمة المالية المستمرة، خصوصا أن التعامل بالأوراق النقدية الجديدة التي طبعتها الحكومة سيقلل من حجم المعروض النقدي؛ وبالتالي سيؤدي إلى ارتفاع قيمة الليرة السورية.

لكن هذا الاقتراح ليس بدون تحديات، كما أنه بحسب الخبير في العملات الرقمية، محمد أبازيد، ليس مشروعا جديا لحكومة سوريا؛ فهذا مجرد اقتراح من بعض المحللين والخبراء الاقتصاديين، الذين يبحثون عن حلول لمواجهة الانهيار الاقتصادي والنقدي في سوريا. 

هذا الاقتراح لم يحظ بأي تأييد أو تجاوب من قبل السلطات السورية، بحسب حديث أبازيد لـ”الحل نت”، التي تعتمد على السياسات التقليدية لإدارة العملة والسوق، كما أن هذا الاقتراح يواجه العديد من التحديات والعوائق التقنية والقانونية والأمنية والثقافية، التي تجعل تطبيقه صعبا إن لم يكن مستحيلا في الظروف الراهنة.

الاقتصاد السوري يعاني من الانهيار والفوضى بسبب الصراع المستمر والفساد، ووفقا لـ”البنك الدولي”، تراجع الناتج المحلي الإجمالي لسوريا بنسبة 3.1 بالمئة في عام 2022، ومن المتوقع أن ينكمش بنسبة 4.6 بالمئة في عام 2023، كما ارتفع معدل التضخم من 105 بالمئة في عام 2020 إلى 200 بالمئة في عام 2021، ومن المتوقع أن يصل إلى 250 بالمئة في عام 2023. 

أما العجز في ميزانية الدولة، فقد بلغ 3.5 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2021، ومن المتوقع أن يرتفع إلى 4.5 بالمئة في عام 2023، ولا توجد بيانات رسمية عن ميزانية الفعلية عام 2023 أو التوقعات لعام 2024، لكن من المحتمل أن تستمر الأوضاع بالتدهور إذا لم تحدث تغييرات جذرية على الصعيد السياسي والأمني والإنساني.

تحسين للأداء المالي؟

ما توصل إليه “الحل نت” عن المشروع الذي اكتمل طرحه ويتوقع أن يقدم للحكومة السورية، يتضمن المطالبة بصك الليرة الإلكترونية لاستخدام النقود الإلكترونية في التعاملات المالية حتى لو محليا في أدنى مستوى له، لأن السوق السوري بنظر القائمين على المشروع يملك فرصا واعدة، ويمنع التعامل بالأوراق النقدية الجديدة التي طبعتها الحكومة خلال السنوات الأخيرة، مما يقلل من حجم المعروض النقدي، وسوف يؤدي هذا إلى ارتفاع قيمة الليرة السورية.

في هذا السياق، يقول أبازيد إنه يجب معالجة العديد من القضايا التقنية والاقتصادية والأمنية قبل تنفيذ هذا النظام، ويتعين على الحكومة والجهات المعنية أن تضمن أمان الليرة السورية الإلكترونية وحمايتها من الاختراق والاحتيال، كما يجب وضع سياسات اقتصادية ونقدية فعالة تعزز من استقرار الليرة الإلكترونية وتحد من تضخمها المحتمل.

المعارضون لمشروع الليرة السورية الإلكترونية تبعا لما أفاد به أبازيد، يرون أنها تحمل مخاطر كبيرة للاقتصاد والمجتمع السوري، فهي تعتمد على تقنية معقدة وغير مجربة في سوريا، وتحتاج إلى شبكة إنترنت قوية وآمنة، وتوافق قانوني وسياسي. 

كما تواجه مشكلات في التوزيع والقبول والثقة من قبل المستخدمين، الذين يفضلون استخدام العملات الأجنبية أو الذهب، بالإضافة إلى ذلك، تفتح بابا للتجارة غير المشروعة والإرهاب والجرائم المالية، وأخيرا تشكل تحديا لسلطة الحكومة و”المركزي” على السياسة النقدية.

بالنسبة لبعض التجارب المشابهة في دول أخرى، هناك عدة أمثلة على دول قامت بإصدار عملات رقمية أو مشفرة، سواء على المستوى الرسمي أو غير الرسمي، فمثلا فنزويلا أصدرت عام 2018 عملة رقمية اسمها “البترو”، وأعلنت أنها مدعومة بثروات البلاد من النفط والذهب. 

هذه الخطوة جاءت في محاولة لتجاوز الأزمة الاقتصادية والعقوبات الأميركية، ولزيادة قدرة فنزويلا على التعامل مع شركاء دوليين، لكن هذه العملة لم تحظ بالنجاح المتوقع، وواجهت انتقادات وشكوكا من قبل الخبراء والمعارضة والمجتمع الدولي.

أيضا السلفادور أصبحت أول دولة في العالم تعتمد عملة “البيتكوين” كعملة قانونية مع الدولار الأميركي، بعد أن صادق البرلمان على قانون في هذا الشأن في حزيران/يونيو 2021، وهذه الخطوة جاءت في إطار خطة لتحفيز النمو الاقتصادي وزيادة الشمول المالي وتسهيل التحويلات من المغتربين؛ لكن هذه الخطوة أثارت جدلا ورفضا من قبل بعض الخبراء والمؤسسات والمواطنين، الذين رأوا أنها تحمل مخاطر عالية وغير مدروسة.

ليس ذلك فحسب، بل سلقين المدينة السورية التي تقع في ريف إدلب، وتحت سيطرة المعارضة المسلحة، في عام 2019 أطلقت مشروع محلي اسمه “الليرة بسلقين”، وهو عبارة عن عملة رقمية تستخدم تقنية سلسلة الكتل، وتهدف إلى تسهيل التعاملات المالية داخل المدينة، وتخفيف الاعتماد على العملات الأجنبية، وهذه العملة، التي تستخدم تطبيقا على الهواتف الذكية، تحظى بقبول وإقبال من قبل بعض التجار والزبائن في سلقين.

إنهاء للانقسام السياسي

بعيدا عن التحديات الاجتماعية والأمنية والتقنية التي تواجه إصدار الليرة السورية الرقمية، إلا أن المشكلة الأبرز برأي القائمين على المشروع هي الحاجة إلى شبكة إنترنت قوية وآمنة، وهذه الشروط ليست متوفرة في سوريا، التي تعاني من انقطاعات متكررة في الكهرباء والاتصالات، ومن قيود على حرية الإنترنت والتعاملات المالية.

طبقا لما حصل عليه “الحل نت” من مسودة المشروع، فإن القائمين عليه وضعوا ثلاث مراحل لإصدار عملة رقمية في سوريا، تتضمن المرحلة الأولى، الدراسة والتحضير، وتحديد الهدف والفائدة من إصدار العملة الرقمية، واختيار التقنية والمنصة والشركاء المناسبين لتطويرها، ووضع الإطار القانوني والسياسي والأمني لتنظيمها، وإجراء التجارب والاختبارات اللازمة لضمان جودتها وأمانها.

أما المرحلة الثانية؛ هي مرحلة الإصدار والتوزيع، وتتضمن إطلاق العملة الرقمية في السوق، وتوفير آليات وقنوات لشرائها وبيعها وتداولها، وترويجها وتسويقها بين المستخدمين المحتملين وتوعية المجتمع بطريقة استخدامها وفوائدها.

في حين أن المرحلة الثالثة ستكون مرحلة المتابعة والتقييم، وتتضمن رصد أداء العملة الرقمية في السوق، وجمع البيانات والآراء عن رضا المستخدمين عنها، وحل المشكلات والصعوبات التي قد تظهر في عملية التشغيل، وإجراء التحديثات والتطويرات اللازمة لزيادة كفاءتها وجاذبيتها.

أما عن السؤال الأبرز وإمكانية إنهاء المشروع الجديد للانقسام السياسي، يستبعد أبازيد ذلك، لأن الانقسام السياسي في سوريا هو نتيجة لصراع معقد ومتعدد الأطراف، ويتعلق بالمطالب الديمقراطية والحقوقية والوطنية والدينية والإثنية والجغرافية للشعب السوري، وبالتدخلات والمصالحات الإقليمية والدولية في الشأن السوري.

هذا الصراع لا يمكن حله بمجرد تغيير نظام العملة أو التحول إلى التكنولوجيا الرقمية، بل يحتاج إلى حوار شامل وشفاف بين جميع الأطراف المعنية، وإلى توافق سياسي واجتماعي على رؤية مشتركة لمستقبل سوريا.

من الواضح أن موضوع الليرة السورية الإلكترونية له أهمية بالغة وقد يكون له تأثير كبير على مستقبل الاقتصاد السوري، وإذا تم تنفيذه بنجاح وبشكل منظم، فقد يمثل خطوة إيجابية نحو استقرار العملة وتحسين الوضع الاقتصادي للمواطنين، ومع ذلك، يجب معالجة العديد من القضايا التقنية والاقتصادية والأمنية قبل تنفيذ هذا النظام المالي الجديد.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات