“تصدير الثورة”، هو النظام السياسي الإيراني العابر للحدود خارج إيران، فمنذ قيادة المرشد الأعلى للبلاد، علي خامنئي، الذي كان لديه العديد من المعتقدات الطائفية المتشددة، صاغ سياسته الخارجية على أساسٍ طائفي وهو تفوّق الشيعة على السنة، وتفوق القومية الإيرانية وتسخيرها لخدمة أيديولوجية تصدير الثورة التي أسبغت شكلاً راديكالياً ثورياً على الإسلام الشيعي، وأجّجت دوامات العنف والوحشية والإجرام المفرط من إيران وصولاً إلى لبنان.

ما لا يعيه المنخرطون في الميليشيات التي تشكّلها طهران، أن جيوش “الظل الإيرانية” -ولا سيما في سوريا- باتت مثالاً حيّاً للتطرّف والإجرام ضد السوريين، أنتجت منهجية طائفية “غنائمية” ما تزال تترك تأثيرات غائرة لدى الحاضنة الشعبية، إضافة إلى تضمّنها لوناً امتزجت فيه القومية وولاية الفقيه، التي شقّ عبرها الخميني المذهب الشيعي والأيدلوجية الخمينية، أيديولوجية “آخر الزمان” التي تعتبرُ أن العالم مكان مليء بالظلم سينتهي بقدوم المهدي الموعود، وهو خطاب -كما هو معروف- مذهبي هدفه مناجاة القومية الدينية لدى الإيرانيين بداية وصولاً لشيعة العالم.

“الحرس الثوري” لاعب طائفي!

يُعتبر “الحرس الثوري” الإيراني عرّاب الميليشيات التي ازدهر ربيعها في ممارسات التعبئة الطائفية وانتهاك حقوق الشعوب واستهداف الديموغرافية العربية لتحويل الأغلبية السّنية لأقلية، وليس غريباً أن نعاين خلال امتداد الحرب السورية تكرار مشاهد الإعدامات العشوائية والتفنّن بالممارسات العقابية وإجبار سكانٍ على ترك منازلهم، وخطفهم وإعدامهم ميدانياً وإحراق بعضهم الآخر، والتمثيل بالجثث إضافة إلى إعدام أطفال بالرصاص، وسط هتافات طائفية.

سيكولوجية القتلة عن سلوك الميليشيات الإيرانية والعنف في سوريا (4)
لوحة إعلانية ضخمة في ساحة انقلاب، تصور قاسم سليماني وهو يسلم الأسلحة إلى حماس. بالنص: هذا الرجل ملأ جيوب الفلسطينيين. في 20 يناير 2024 في طهران، إيران. (تصوير ماجد سعيدي/ غيتي)

حسب مركز “مالكوم كير-كارنيغي للشرق الأوسط”، فإن عمليات إيران في سوريا أوضحُ الأمثلةِ على سلوكها الطائفي، “فهي سهّلت انخراط آلاف المُتشدّدين الشيعة من غير السوريين في الدفاع عن حكومة بشار الأسد”. وعلى رغم أن القادة الإيرانيين ركّزوا على شرعية تدخّلهم في سوريا، ونفوا وجود أيّ أجندة طائفية، إلا أن القوات الإيرانية وأتباعها نسجوا دورهم على منوال مندرجات طائفية فاقعة الوضوح.

وليست الدول التي تركزت فيها الأذرع الإيرانية مَن خيّم عليها إجرام “الحرس الثوري”، بل طال الإيرانيين أنفسهم المعارضينَ لسياسة “الحرس” وأذرعه، فقد نشرت منظمة “العفو” الدولية شهادات مرعبة لبعض ضحايا الاغتصاب من النساء والرجال والأطفال من قِبل “الثوري الإيراني” و”الباسيج” ووزارة الاستخبارات ومختلف أقسام الشرطة خلال انتفاضة الشعب الإيراني، في أيلول/سبتمبر 2022 بعد وفاة مهسا أميني (22 عاماً) عندما كانت محتجزة لدى الشرطة.

وفقا لتقرير “العفو” الدولية، المؤلف من 120 صفحة، فقد أخضعت قوات الأمن الإيرانية النساء والرجال والأطفال الذين شاركوا في انتفاضة “المرأة، الحياة، الحرية” للاعتداء الجنسي والاغتصاب الجماعي وغيره من أشكال العنف الجنسي كاغتصاب النساء والرجال الذي جرى بواسطة “هراوات خشبية ومعدنية، وقنانٍ زجاجية، وخراطيم مياه”.

وبحسب التقرير، فإن الاغتصاب وجميع أنواع العنف الجنسي كانت مصحوبة بأشكال أخرى من التعذيب وسوء المعاملة، وقيام عناصر الأمن بضرب وجلد المتظاهرين، وصدمهم بالصدمات الكهربائية، وإعطائهم مخدرات مجهولة أو حقنهم، واحتجازهم في مركز احتجاز وفي ظروف غير إنسانية، حيث إبقائهم جوعى وعطشى.

“فيلق القدس” وتفريخ ميليشيات متطرفة

“فيلق القدس” هو أحد أذرع “الثوري” والأكثر شهرة، يتولى تنفيذ مهام حساسة في الخارج، مثل تقديم الأسلحة والتدريب للجماعات المقرّبة من إيران كـ “حزب الله” اللبناني والفصائل الشيعية في العراق وسوريا مثل: “لواء فاطميون” و”زينبيون” و”ميليشيا النجباء” و”أبو الفضل العباس” وغيرها.

لافتات صغيرة لأبي مهدي المهندس، الذي كان أحد الشخصيات الرئيسية في الميليشيات العراقية التي قُتلت في غارة أميركية، إلى جانب الإيراني قاسم سليماني قائد فيلق القدس وأئمة الشيعة الآخرين والزعماء الدينيين الحاليين تتدلى من كربلاء. (تصوير كافيه كاظمي / غيتي)

وقد بنى قائد “فيلق القدس”، قاسم سليماني، الذي قُتل بغارة أميركية أواخر العام 2020 في العراق، في محاكاة لنجاح قوات “الباسيج” عبر حشد الشيعة الإيرانيين والأفغان والباكستانيين والعراقيين واللبنانيين للقتال. 

ويُعد سليماني العقل المدبّر وراء معظم الانتهاكات الإيرانية في سوريا، فكلُّ عمل متوحش ومجزرة يجب أن تكون ممهورة بمصادقة سليماني، فهو المسيطر على مسرح العمليات، وتفريخ الميليشيات الشيعية المتطرفة، عدا عن كونه  مهندس التغيير الديمغرافي، بحجة حماية المراقد والمقامات الشيعية، إذ ساهم باستيطان بلدة القصير بريف حمص بعد قتل ميليشياته مئات المدنيين، كما ساهم بالسيطرة على مدينة حلب أواخر عام 2016 وراح يتجول بين أحيائها المهدّمة بعد تهجير أهلها وحصارها.

أما الانتهاكات التي لا تغيب عن ذاكرة السوريين فهي مجزرة “الآبار” عام 2013، التي جرت في رسم النفل جنوب حلب، والتي عُرف بوقوعها بعد شهر من حدوثها، حيث ارتكبت الميليشيات الإيرانية مذبحة ومحرقة بحق 208 مدنيين يعيشون في وسط بادية حلب الجنوبية في سوريا. 

حيث قامت الميليشيا بتجميع عشرات النساء والأطفال والشيوخ والرجال في المنازل وتفجيرها بهم، ومن ثم جرفها بالجرافات، كما أحرقوا نساءً على قيد الحياة، وسحبوا أطفالاً رضّعاً من أحضان أمهاتهم وذبحوهم بالسكاكين وأعدمت أيضاً عشرات النساء والأطفال والرجال والشيوخ رمياً بالرصاص أمام أهاليهم، ثم تم رمي قسم كبير منهم في آبار القرية، ودفن بعضٍ منهم في مقبرة جماعية.

وقد قورن قاسم سليماني بمختار الثقفي (القرن الأول الهجري) الذي قاد تمرّداً للثأر من مقتل الحسين بن علي بعد سنوات قليلة من حادثة عاشوراء، إذ رفع مشيعّوه الراية الحمراء التي تستحضر رايات حركة التوّابين التي رفعها المختار الثقفي وأتباعه للمطالبة بثأر الحسين. 

وهذا ما يعكس حالة ممارسة عقيدة التقية بأعلى درجاتها لقتل آلاف الأبرياء، ولا سيما في سوريا الذي يُنظر بحسب إفتاء النظام الإيراني إلى حاضنتها الشعبية على أنهم فقط أحفاد معاوية ويزيد والانتصار لدمشق هو ثأر من هذه الحاضنة، فضلاً عن إحياء الفتاوى والخطابات الطائفية و المظلوميات، وإعطاء مكان مهيمن للأساطير الدينية.

توسيع دائرة القتل بقواعد المذهبية

يمكن استشفاف اعتماد قاعدة المنطق العقائدي الأيديولوجي الذي يتضمن مسوّغات تأصيل العنف الغارق في فقه القتل المنظّم، من خلال رفع راية “الانتقام الحمراء” فوق قبة  جامع جمكران الشهير في مدينة قم جنوب العاصمة طهران طلباً للثأر لضحايا انفجارٍ استهدف مسيرة إحياء الذكرى الرابعة لاغتيال سليماني قرب مرقده في مدينة كرمان جنوبي البلاد. 

عضو في فرقة المسرح الفارسي “أوست بريس”، يعيش في كولونيا بألمانيا ويرتدي زيًا عسكريًا فارسيًا عمره 2500 عام، يقرأ قصيدة، كعلامة تقول “فيلق الحرس الثوري الإسلامي” (الحرس الثوري الإيراني) منظمة إرهابية. (تصوير ميشيل بورو / غيتي)

فخلال السنوات الماضية كانت تُرفع الرايات الحمراء المكتوب عليها “يا لثارات الحسين” في مسيرات تشييع ضباط إيرانيين مقتولين في سوريا وفوق قباب المساجد والعتبات، للدلالة على عزم السلطات الانتقام وتقمص الوجه العسكري المفرط لعنفها العشوائي.

المفارقة المثيرة للسخرية، إن “الحرس الثوري” سرعان ما استعرض إجرامه وانتقم في إدلب شمال غربي سوريا، عبر الردّ بضربات استهدفت مبنى طبيّاً في قرية تلتيتا بريف إدلب الشمالي الغربي، زاعماً أنه استهدف تجمعات إرهابية.

وتُعد هذه الرواية “رواية استهداف إرهابيين” هي الأسطوانة المشروخة التي طالما تتخذها الميليشيات الإيرانية في قتل السوريين، ففي شباط/ فبراير الفائت، ارتكبت  الميليشيا الإيرانية “فاطميون” في بادية تدمر بريف السخنة الجنوبي شرق محافظة حمص،  واحدة من أبشع المجازر عبر إعدامات ميدانية بشعة لأكثر من 65 شخصاً كانوا يجمعون الكمأة. 

وقد تمّ قتلهم برصاصة واحدة فقط، إما في جبهة الرأس وإما في إحدى العينَين رغم أن من بين القتلى عساكر يتبعون للجيش السوري، ما يعكس اعتماد  سياسة التدمير والتفجير والتهجير والقتل والذبح  والحرق والتشنيع القائم على “استباحة الجميع” لبثّ الرعب الذي يجد بيئة مشجعة له.

العنف الدموي والقسوة ومشاهد الذبح لم تكن قراراً عابراً عند هذه الميليشيات، بقدر ما هي تعبير عن استراتيجية ورؤية مؤدلجة، وهو ما يراه أيمن هاروش، الباحث في الحركات الإسلامية، قائلاً: “الدين الشيعي هو دين قام على عواطفَ أُدلجت وصارت عقيدة تقوم على كره السُّنة وتصوير مظلومية آل البيت، إضافة إلى تلفيق الأكاذيب حول مظالم أهل السّنة وأنهم قتلوا الحسين رضي الله عنه وسَبوا زينب، وكسر الخليفة (عمر) ضلع السيدة فاطمة زوج علي بنت الرسول”.

مضيفاً في حديثه لـ “الحل نت”، أنهم ربّوا منتسبيهم وأتباعهم على الحقد والكراهية، وهذه التربية والتأصيل الطائفي أخرج جيلاً يعشق القتل والثأر، لذلك ليس غريباً أن تصل الميليشيات الإيرانية أو الموالية لها في سوريا إلى مستوى عالٍ من حبّ القتل والإجرام  والوحشية.

فضلاً عن أن دين هذه الميليشيات الشيعية بحدّ ذاته يقوم على فكرة الثأر عبر أيام السنة في المجالس والمناسبات التي تشحن مشاعر الحقد والانتقام والتشفي وتصوير مظلوميتهم تاريخياً، فذلك كلّه سينتج ميليشيات مجرمة طائفية لا تقل عن إجرام وتطرّف تنظيم “داعش”.

بين “داعش” و”ميليشيات إيران”

لعل السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان، أنه ما الفرق بين التنظيمات الراديكالية الجهادية والميليشيات الإيرانية التي تفوق تطرفاً وغلوّاً، ولماذا اعتبُرت “داعش” وأمثالهما غلوّاً وتطرّفاً، بينما لم يتعدَ اعتبار أفعال الميليشيات الإيرانية خصوصا في سوريا عن كونها تحريفاً فقط، وأنهم يريدون إنقاذ التشيّع عبر اجتذاب العامة الشيعية بمقولات الدفاع والمظلومية؟

القائد العام لحرس الثورة الإسلامية حسين سلامي (يسار) وزينب سليماني ابنة قاسم سليماني (يمين) في مراسم تشييع ضحايا انفجارين بالقرب من قبر اللواء قاسم سليماني – القائد السابق للجيش الإيراني – في كرمان بإيران في 05 يناير 2024. (تصوير غيتي)

حسب دراسة لمركز “المسبار” للدراسات والبحوث، (وهو مركز متخصص في دراسة الحركات الإسلامية) أن توظيف الراديكالية لا يخرج  في سياقات مختلفة متعددة عن كونها تمثّل شكلَين أساسيين؛ يتمثل الأول في الدعوة إلى التغيير الجذري العنيف، وهنا يمكن حصرها في الثورة التي يميّزها فعل وممارسات تحمل من أعمال العنف والإكراه أشكالاً ومستويات مختلفة. 

أما الثاني، فيتمثل في التغيير بوسائل سلمية عن طريق الدعوة إلى تغيير جذري، ورفض ما هو قائم مع توافر شرط السلمية في مواجهة مقاومة التغيير، واستخدام الآليات التي لا وجود للعنف ضمن تنفيذها للتغيير.

ورغم أن التوجّهات الراديكالية تُطلق على تنظيمات ذات توجّه فكري يهدف إلى تغيير  سياسي بناءً على وجهة نظر أو تفكير سياسي ما، إلا أن الخطاب الطائفي والديني والصراع والقتال بهدف الارتزاق من أجل إحداث تغييرات جذرية في المجتمعات لم يُدخل الميليشيات الشيعية في دائرة التنظيمات الراديكالية، ما يعني بالضرورة أن أسلوب التوحّش المنتهج بحاجة لإعادة قراءة سلوك تلك الميليشيات وأوجه تشابهها مع فروع “القاعدة” وتنظيم “داعش”، كونهم أبناء مناخ دموي واحد قائم على التغيير العقائدي بالعنف.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.
0 0 أصوات
قيم المقال
Subscribe
نبّهني عن
0 تعليقات
Inline Feedbacks
مشاهدة كل التعليقات

الأكثر قراءة