رجا أمين

اليوم في ظل الأوضاع السائدة في #لبنان خلال السنوات الأخيرة، يقول بعض اللبنانيين من العارفين بما كانت عليه الأمور في #سوريا قبل الثورة، أو حتى إبان وجود الجيش السوري في لبنان، أن وقع اللهجة “الشيعية” جنوبية كانت أم بقاعية بعلبكية على المواطن اللبناني العادي، هي كوقع اللهجة “العلوية” الساحلية على المواطن السوري العادي قبل سنوات… وربما حتى هذا اليوم.

ما يقصده هؤلاء، أن الانتماء الشيعي، أي إلى طائفة حزب الله، المعلن عنه من خلال اللهجة يكسب المتكلم بها سطوة وقوة تجعل الآخرين يتجنبونه ويخشون معارضته ولو كان على خطأ، فيروي مسيحي بيروتي حادثة سير تعرض لها وهو يقود، إذ صدمته سيارة تسير بسرعة نسبية عكس السير، وما إن نزل صاحب الرواية من سيارته ليرى ما الذي حدث اكتشف أن راكب السيارة الثانية ملتح يتكلم اللهجة الجنوبية ويصرخ بأعلى صوته دونما سبب، ما جعل صاحب الحق يتنازل عن حقه فوراً وعن محاولة الخوض مع الملتحي المخطئ في نقاش حول التعويض، ويعود إلى سيارته مفضلاً مقولة “الحيط الحيط ويا رب السترة”.

من المشاهدات والملاحظات الأخرى هو إنتشار سائقي التكسي من سكان ضاحية بيروت الجنوبية “بشكل غريب” على حد تعبير فتاة سورية مقيمة في بيروت منذ عام 2012، فهي رغم أنها تقيم وتعمل في منطقة مسيحية الطابع، إلا أن أغلب سيارات المواصلات التي تستقلها تكون لسائقين من الضاحية الجنوبية، ما يعرضها لـ “خطب” سياسية وطائفية ما أن تفضحها لهجتها الشامية.

فرص العمل ضمن أغلب المحلات والمتاجر في المولات الكبيرة في العاصمة بيروت ومحيطها، يسيطر عليها موظفون من الطبيعة نفسها، والأمر على ما يقول بعض اللبنانيين ليس بحاجة لشدة ملاحظة أو حس تمييزي، فالرموز الدينية البسيطة كوشم صغير على ظاهر الكف أو سيف معلق على الرقبة، والأسماء وطرق التخاطب والأحاديث الجانبية بين هؤلاء الموظفين، تكشف على الفور لمن يعرف المجتمع اللبناني انتماءات الموظفين الذي يعملون خارج بيئاتهم التي ترعرعوا فيها.

كسر الصور النمطية وتجاوز الحدود الطائفية والمناطقية ليس بالأمر السلبي بحد ذاته، خاصة في بلد كلبنان اعتادت مكوناته الطائفية على التمترس في مناطق خاصة بها، وانحسار المساحات العامة الجامعة للمواطنين. ولكن، في الحالة الراهنة الخاصة بمناصري حزب الله وحركة أمل، يرى لبنانيون من سكان بيروت أن هذا “الاستسهال” غير المعهود في البيئة اللبنانية للسكن والعمل في مناطق تعود لطوائف وتوجهات سياسية أخرى إنما يقوم على الشعور بفائض القوة، وعلى عدم تجروء أحد على وضع حد لواحد من مناصري حزب الله وحركة أمل أو الوقوف في وجهه في حال تعديه، وحتى لو كان الأمر لا يعني مناصراً رسمياً إلى أحد هذين الجسمين السياسيين، إذ يكفي الانتماء الطائفي ليفسر حكماً على أنه انتماء سياسي.

ما يدعم هذا الكلام على سبيل المثال، هو ملاحظة تمدد إشارات وعلامات هذين الحزبين السياسية منها والطائفية خارج إطارها المعتاد، مخترقة أحياناً مناطق سنية أو مسيحية مجاورة، فأعلام حركة أمل وحزب الله، والرايات الطائفية من نوع “يا حسين” و”لبيك يا زينب”، مع ملصقات ضخمة لـ “شهداء” حزب الله في سوريا وغيرها، غزت مناطق لم تكن تصل إليها قبلاً كمنطقة السوديكو ومحيط بشارة الخوري على مشارف وسط المدينة. وتلفت صحفية أوروبية تعمل منذ 5 سنوات في مكتب وكالة أجنبية ضمن هذه المنطقة “لا أحد يجروء على نزع علم لحزب الله أو حركة أمل قد يكون مراهق متهور وضعه أعلى عامود إنارة في الشارع، فكيف إن كانت راية يا حسين؟”.

وفي إطار آخر يعبر عن الشعور بفائض القوة، يشهد لبنانيون مرور سيارات مفتوحة الشبابيك تركبها مجموعة من الشبان الملتحين عادة، مطلقين مكبرات صوت سياراتهم بلطميات وأناشيد دينية طائفية في خاج إطارها التقليدي، فتستخدم أناشيد عاشورائية في شارع الحمرا الشهير منتصف شهر شباط عند ذكرى اغتيال رفيق الحريري، أو في أسواق جبيل القديمة يوم الجمعة العظيمة لدى المسيحيين، في تصرف لا يفسره بعضهم إلا بالفعل الاستفزازي واستعراض القوة التي لا يقوى أحد عادة على تحديها.

عند الحديث بهذه التفاصيل مع جيل من اللبنانيين هو جيل الحرب الأهلية وما قبلها من المسيحيين، لا ينكر بعض أبناء هذا الجيل في شهادات متفرقة أنهم كانوا مزهوين يوماً بجبروت المارونية السياسية رغم التحصيل العلمي العالي الذين كانوا عليه، فيصفون سيطرتها على الدولة، والانتقاص من حقوق المسلمين، وسلطة رئيس الجمهورية الماروني شبه المطلقة. جزء من هؤلاء نفسهم يرون في الشيعية السياسية اليوم تكراراً لكل أخطاء المارونية السياسية، وربما بشكل أخطر.

يميز أستاذ جامعي ممن كون وعيه في فترة ما قبل الحرب الأهلية، بين المارونية السياسية المندثرة بمعناها القوي والمسيطر، والشيعية السياسية الصاعدة والتي قد تكون على حد تعبيره في أوج قوتها اليوم، فيلفت إلى فرقين أساسيين بين هذه المارونية وتلك الشيعية، فالأولى برأيه لم تكن دينية أو طائفية بالقدر نفسه التي هي عليه الشيعية السياسية اليوم، مشيراً إلى قصص عن خصامات متكررة بين قيادات سياسية وميليشياوية مارونية من جهة والبطريركية المارونية من جهة أخرى على مر السنوات الخمسين الماضية، بينما لا يجرؤ أحد على مخالفة حسن نصر الله الذي يشكل قيادة دينية وسياسية في آن واحد.

الفرق الثاني برأي الأستاذ الجامعي الذي كاد أن يبلغ سن التقاعد يكمن في أن المارونية السياسية رغم تمتعها بدعم عدة دول على فترات طويلة، إلا أن هذا الدعم لم يصل يوماً بمقداره ودوامه وتأثيره إلى الدرجة عينها التي وصل إليها الدعم الإيراني لحزب الله، وهو يرى أن حقبة حزب الله مهما كان قوياً فيها ستنتهي كما انتهت حقبات “الطوائف السياسية” من قبله.

 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.