ترافق الحديث عن “وثيقة مسربة” أردنية تطرح خطوات تدريجية لتغيير سلوك النظام السوري، مع الحراك الدبلوماسي الأردني المحموم في الشهرين الأخيرين: زيارة الملك عبد الله إلى واشنطن، ثم موسكو، وكذلك نوقش المقترح على هامش قمة بغداد؛ حيث من الواضح أن هناك رغبة أردنية، تدعمها بعض الدول العربية، لفك العزلة عن دمشق، وإعادة العلاقات معها، وعودة مقعدها إلى جامعة الدول العربية في قمة الجزائر المقبلة، وبالتالي إعادة عقارب الساعة مع سوريا إلى ما قبل 2011.

يعاني الأردن من أزمة اقتصادية ومعيشية خانقة (بنسبة بطالة 25%، وعجز في الموازنة 3مليار دولار)، مترافقة مع أزمة سياسية داخل البيت الملكي، بعد محاولة الانقلاب التي قام بها الأمير حمزة، وما تسرب في وثائق “باندورا” حول امتلاك الملك عبد الله لعقارات في بريطانيا والولايات المتحدة بما يعادل 94 مليون دولار، وعلى ذلك تخشى المملكة من تفجر اجتماعي محتمل.

هذا ما دفع عمّان إلى تلبيس مبادرتها السياسية بغطاء اقتصادي، رغم أن الوقائع تقول بقلة أثر المردود الاقتصادي المأمول للأردن؛ فقد كان حجم التبادل التجاري عبر معبر نصيب في 2011 لا يشكل أكثر من 1 بالمئة من حجم التجارة الأردنية الخارجية؛ والآن، ليس لدى الأردن ما تصدره لسوريا، خاصة مع انخفاض القدرة الشرائية للمواطن السوري، ومع قرارات الحكومة السورية التي تقيّد الاستيراد للحفاظ على القطع الأجنبي، وبالمثل ليس في سوريا الكثير لتصديره للأردن، حيث انخفضت الطاقة الإنتاجية إلى 10 بالمئة، مع هروب عشرات الألوف من الصناعيين والمهنيين من سوريا، في الأشهر الأخيرة (47 ألف صناعي حسب تقديرات محلية)، بسبب التضييق الذي تتبعه حكومة دمشق على الاستيراد وصعوبة الحصول على القطع الأجنبي، وارتفاع الضرائب، وملاحقات التموين؛ لكن هذا يعني أن الصادرات الشحيحة إلى الأردن من المواد الأساسية، أدت إلى ارتفاع كبير في أسعار المواد الغذائية، وفقدان بعضها، فيما ستستفيد منه خزينة الدولة السورية في الحصول على بعض القطع الأجنبي، اللازم للحد من تدهور قيمة الليرة السورية، وبالتالي هذه الخطوة تنعكس سلباً على السوريين.

بالتأكيد، تأثر الجانب الأردني من سنوات الحرب الطويلة في سوريا، ومن إغلاق المعبر أمام حركة الترانزيت من لبنان إلى الخليج، ومن تواجد داعش ومليشيات إيران على حدودها، ومن عبء تدفق اللاجئين إليها؛ لكن من الوهم تصديق أنه يمكن العودة بالعلاقات إلى ما قبل 2011، مع بلد ممزق، بثلاث مناطق نفوذ، ونظام متهالك، يقف على قدميه بفعل التواجد الروسي والإيراني، وصمت المجتمع الدولي، وبوضع اقتصادي منهار، و6.7 مليون لاجئ، و6.6 مليون نازح، وشعب يعيش بغالبيته على المساعدات، و80 بالمئة منه تحت خط الفقر.

تطرح المقاربة الأردنية ما أسمته خطوات تدريجية لتغيير سلوك نظام دمشق، مستندة إلى طرح المبعوث الأممي إلى سوريا، غير بيدرسون، حول مبادرة “الخطوة مقابل خطوة”، ومستندة إلى سياسة الرئيس بايدن حيال الملف السوري، القائمة على خطة “الإنعاش المبكر”، وتقديم بعض التساهلات في الجانب الإنساني، باعتبارها الممكن ضمن حالة الاستعصاء السورية.

يمكن القول أن ما حصل عليه الأردن من ضوء أخضر أمريكي هو وعود من واشنطن بألا تشمل عقوبات قانون قيصر الشركات والمؤسسات الأردنية وكذلك البنك المركزي، فيما يتعلق بمشروع مد خطوط الطاقة إلى لبنان عبر الأراضي السورية، إضافة إلى بعض التبادل التجاري الذي يشمل المواد الغذائية والقطنيات.

رغم التساهلات التي يقدمها بايدن في الملف السوري، وارتفاع وتيرة التنسيق مع الروس، حيث أصبح مبعوثا الرئيسين، بايدن وبوتين، يلتقيان بشكل دوري في جنيف، لن تقبل واشنطن بعلاقات أوسع مع نظام الأسد، أو رفع واسع للعقوبات، أو إعادة إعمار، فقانون قيصر ملزم لأية إدارة أمريكية قادمة، حيث أقره الكونغرس الأمريكي بموافقة الحزبين الجمهوري والديمقراطي.

 

سياسة واشنطن تجاه سوريا قائمة على دفع روسيا للبحث عن صفقة ما أو حل ممكن، دون تجاوز الشروط الأمريكية؛ وقد أبلغت الخارجية الأمريكية، الأسبوع الماضي، بيدرسون الترامها بالقرار الأممي 2245، وأنها لا تعتزم التطبيع مع نظام الأسد، أو رفع العقوبات، وبالمثل أكدت بريطانيا رفضها المشاركة في إعادة الإعمار دون التوصل إلى حل سياسي، وأن ملف المعتقلين يعتبر أولوية بالنسبة لها.

تغيير سلوك النظام يعني وقبوله بعودة اللاجئين، والإفراج عن المعتقلين، وكلها أمور تبدو مستحيلة على طبيعة النظام السياسي في دمشق، وتعلم الأردن والدول الراغبة في التطبيع معه أنه منتهي الصلاحية، ولن يفرج حتى عن المعتقلين الأردنيين في سجونه البالغ عددهم 350، حسب تقديرات (ربما يفرج فقط عن الستة الذين طالب بهم برلماني أردني موالٍ لدمشق)؛ وغير ذلك سيواجه الأردن معضلة انتشار المخدرات بشكل أوسع، مع فتح الحدود البرية أمام حركة التجارة.

الأردن مهدّد بانفجار اجتماعي محتمل، للأسباب السابقة الذكر، وليس لدى الملك حلولا جذرية لهذه المشكلة، وبذلك يكون من مصلحته دعم أيه خطة لبقاء النظام السياسي في دمشق، بعد كل ما فعله بشعبه وبلاده، بغرض تخويف الشعب الأردني من عواقب أية انتفاضة ممكنة.

تُشارك الموقفَ الأردني هذا معظمُ الديكتاتوريات العربية، لكنها لا تريد المغامرة، وما زالت ملتزمة بشرط الحل السياسي الدولي، وخروج المليشيات الإيرانية، خوفاً من عقوبات قانون قيصر، وبذلك تكون خطوة الأردن، التي تبحث أيضاً عن دور عربي فاعل، مجرد تجريب عربي، مدعوم روسياً وإسرائيلياً، لفرض أمر واقع جديد، وفتح الباب تدريجياً لخطوة أوسع هي التطبيع العربي، أملاً في أن يقبل المجتمع الدولي بالحل السياسي القائم على دور لبشار الأسد.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.